في ركاب الوجد والارتحال أسس الشاعر عبدالعزيز خوجة نصه هذا مستدعياً - كشبه اعتياد - صورة العشق تحاكي تقاطعات النفس في حلولها في المكان ورحيلها عنه. المكان الذي كان له معه وعلى امتداد عمر، انصهارات ديدنها البدء والانتهاء من الحب إلى الرحيل، ومن ألق التلاقي إلى قلق الانفصال. خوجة الإنسان الذي قسّطه الزمن عبر محطات يقص شريطها بالأحضان، ويقفل درفها مثقلاً بالأشجان. محطات استقطبت إدراكه بكشكولها السوسيولوجي المركز في حيثياته، بعادات ووجوه وتضاريس حياة لثقافات مختلفة. وكذا أتخمت روحه بحميمية الوشائج الإنسانية البالغة الرسوخ. وبما أن السحنة العاطفية هي الاختيار التعبيري المفضل عند خوجة، فإننا في مطلع قصيدته: «وداعاً يا مغرب» أمام استعارة لصوت عاشق، يقرئنا من خلاله الشاعر انطلاق علاقته بالمكان، والذي هو هنا المغرب، لينسج لنا من خلال مزج هندسته البروتوكولية كديبلوماسي بهوس الشاعر المسكون بالوصف والكلمة، روعة اللقاء والمحاسن المزاملة له، التي اقتبس الحسي فيها من محيّا الخليلة، إذ يفتتح نصه بالتلاقي، مما يرضي العادة التفاعلية عند القارئ. تلاقٍ يأخذ شكل البوابة التي لا تحيّر ولا تجعل من الوارد الوقوف الطويل قبالتها من باب الاستفهام، فالشطر الأول من هذه القصيدة إنما هو على إيقاع التعارف، إذ يقدم الشاعر مشهده لنا مطعّماً ببعض الوصف الذي يذكي بالموازاة مع نار العاشق المقترح انبهارنا. ومنه التماس العذر المسبق لما يقتحم عالم عاشقنا من المواقف الدراماتيكية التي تعودنا أن يحملها بين دفتيه كتاب العشق وسير أبطاله. فسيفساء أجيد الارتقاء الاستطرادي بها من خلال رسم العينين بريشة المتورط عشقاً فيهما، ومنه إلى الرغبة في الذهاب إلى أبعد الأماكن إطراباً واستحقاقاً في شخص «الفردوس»، الذي تنسحب مواصفاته على عين المحبوبة، كمآل جمالي يتوق له كل متورط في سقم العشق الجميل. وفي تلاحق حركي، وبعد انتباه ملغم تطرق المعشوقة، في صدر البيت السادس، باب الاستفهام في مستواه العاطفي، ليرد خوجة بلسان العاشق، في عجز ذات البيت، بعراضٍ للبيت الشعري: «حواجبنا تقضي الحوائج بيننا/ ونحن صموت والهوى يتكلم». ليتلقى بعدها صاحبنا تلويحاً بعدم الاطمئنان، إذ تقحم المحبوبة هوية الشاعر واصمة إياه بالمحب المصاب بآفة الرحيل، ما يصب في أن لا أمان على وشائج أغدقتها، أو قد تفعل في اتجاهه. عينانِ، أمْ هي دَعْوَةُ القدرِ؟/ أمْ صَيْحَةُ الأَشْواقِ بالخَطَر/ وتلَعْثَمَتْ: ماذا تريد بنا؟/ وتَكلَّمَ القَلْبانِ بالنَّظر/ أنتَ الذي بالحُبّ يُغرقُنا/ الشاعرُ التَّوَّاقُ للسَّفرِ». مستنطقاً ملامح الحسن والانتماء، ولج بنا خوجة دائرة المكان، بلطف الديبلوماسي وحس الشاعر، حين جاءه من الباب التعريفي به، تحاشياً للمباشرة. وليترع أمامنا درف البوح ومنه المصادقة على الحدس المنطقي المفترض عند قارئ مثلي يمتطي عنوان النص كرافد لولوج القصيدة، وكذا تأبط انتظارات آتية تنفتح لها نفس من يهمه أمر المكان الذي يلبسه خوجة الشاعر هنا ثوب العشق لأكثر من سبب، ف«مكناس»المدينة استعارة لرمزية المكان العام والمعشوقة معاً، وكذا الانتماء كمشترك آخر مع المكان وأهله من جهة العرق، في قراءة مرجعية لنسب العائلة المالكة المغربية. وبما أن الحلول في المكان لا هم فيه، فإن المكتسب الذي يظفر به المرء منه، أماكن ومواقف ووشائج، هو منبع الغصة عند مغادر، بعد مقام كانت شساعته في مثقالها الزمني كفيلة بشحن مخزون الشاعر وتأسيس ذاكرة داخل ذاكرته الأم، فكيف به كشاعر تقبل أن ينتقل واقع ثري معاش محبب إلى صورة لا دور لها ولا روح فيها، غير حنين موجع يصبغ على المرء همَّ أسئلة عقيمة لا إجابة لها. من أنتِ؟ قُلتُ ، فَرَدَّ مَبْسمُها/ منْ موْطِنِ الأمجادِ والكِبَرِ/ مِكْناسُ أَهلي مَنْ ألوذُ بِهمْ/ والدَّارُ في أَكَدَالَ للسَّمَرِ/ عَانَقْتُها فالعِرْقُ يجْمَعُنا/ مِنْ أَطْيَبِ الأَعْراقِ في الشَّجَرِ». تُعرِّفنا أبيات ثالث مقاطع النص على شخص الزائر الذي استشعر القرب والمودة بعد أن تشبع بهوية المكان، والوجوه المفترض أن تؤثث ألف بائيتها ذاكرة نعرف بالتأريخ أنها ستطول بديبلوماسيتها وقوافيها وتذاوباتها، فيقدم الشاعر السفير ورقته معتداً من جهة كونه ابن مكةالمكرمة المكان والنواميس الرفيعة المقام، ومن جهة أخرى كونها تذيب طعم الغربة الجديدة، باعتبارها مشتركاً يجمعه بمكانه الجديد، «المغرب» وأهله.. ولأن مطلع الغربة يكون بالعادة الأكثر قسوة على النفس، فقد كسرت حدة ذلك مع تبادل الأوراق، هذا ليتجلى لنا وكأن الأمر ليس أكثر من انتقال خوجة من مكان لآخر داخل بيته الواحد، ويجيز هكذا اعتبار شبه التطابق بين هوية الضيف ونظيرتها عند المضيف. مِنْ أَيْنَ؟ قالَتْ، وَهِيَ تَسْأَلُني/ في رِقَّةِ الأَنْسامِ بالسَّحَرِ/ أُمُّ القرى بلدي وُلِدْتُ بها/ في مكة الخَيْراتُ لِلْبَشَرِ/ مَنْ مثل أَحْمَدَ جاءَ يُرشِدُنا/ بالحَقِّ والآيَاتِ والّسُّور؟». تماشياً وامتداداً مع الرسم السالف للحمة التعارف، وتقديم النفس بين طرفي اللقاء، لا يمكننا أن نتناسى أن ديبلوماسية شاعرنا خولت له عناقاً مضاعفاً للمغرب. عناق في شخص ملكه كرمز للمشترك السالف وعناق المكان ديدن رحالة يتأبط تفعيلاته الشعرية والديبلوماسية، وأعراف السياسة على رغم أنها في منأى عن «بوهمية» الشعراء، إلا أن الجمع بينهما يلزمه مقومات حاز عليها عدد من الشعراء السفراء، عبدالعزيز خوجة أحدهم. يترجم ذلك الحبكة التصويرية التي استهل بها رابع المقاطع، والتي أشعل فتيل تضاريسها بناصية الأحضان الملتهبة بعلوية، محتوياً بذلك حبك الديبلوماسي وشفافية الشاعر. انصهار مع المغرب مكاناً يمارس فيه سياسياً ثقافة تعايش حتمية، لمهمة جديدة من مشوار رحلاته المتواترة الطول. في حين أن الشاعر منه يقرأ ويدون ذلك بحاسة الروح ولغة الشعر، وأجبرني انطلاق هذا المقطع وانتهاؤه بعناقين متبايني الهدف، تفصل بينهما ذاكرة متخم خزانها بالأماكن، والوجوه الملقحة مع وجدان خوجة شاعراً ودبلوماسياً وإنساناً. على اعتباره مقطعاً جامعاً للقصد العام من النص. فمكمن الحكاية هو بين عناق اللقاء وعناق الفراق. وتَعانَقَ الرُّوحَانِ في وَلَهٍ/ وتَسَابَقا في المَرْبَعِ النَّضِرِ/ دارُ الكَرَامَةِ في العُلى بسَقَتْ/ فَوْقَ الذُرى والشَّمسِ والقَمَرِ/ وَاسْتَوْفَتِ الأَيَّامُ دَوْرَتَها/ ما أَقْصَرَ الأَفْرَاحَ في الُعُمُرِ!». وفي آخر المقاطع حلّق عبدالعزيز خوجة مستقلاً النفس الإنسانية فحسب، التي لم يسعفه في استنطاق مخابئها إلا هواطل اللغة المصورة لفواصل الشجن. سببه في ذلك وقوفه المتكرر وغير المريح أمام كدر الرحيل بعد حلول، رحيل تذيل بوحه هذا مكتسحاً بنوستلجية المحب شطره الأخير، لاعتبار أن المكان هذه المرة - المغرب - لم يشكل عنده مجرد مسرح للسياسة فقط، بل قدراً كان صارخاً بثرثرة روابط جاهزة ومبيتة لا تقف عند العرق ولا تنتهي بالعقيدة، خصوصية ميّز من خلالها خوجة هذا النص عن غيره، باعتبار أنه يضعنا هنا أمام نتاج نفسي متجدد يبدأ وينتهي في هذا المقطع، الذي امتطى خوجة خلاله معادلة سياقية جمع خلالها وجهي بوحه (المعشوق - المكان) وأمطرهما وعلى لسانهما بوخز وقسوة عاهة الوداع. انتشر بتباريح الفراق يؤسسها بلغة الآه المزاملة لوصفة الفراق غير الصحية. حان الرَّحيلُ فَهَلْ أودِّعُها/ يا قَلبُ قُلْ يا أدْمُعي انْهَمِرِي/ قالَتْ: أَحَقاًّ أَنتَ تَتْرُكُنا/ للشَّوقِ والتَّسْهيدِ في الَّسَّهرِ/ يَا أهْلَ مَغْرِبَ مَنْ أَلُوذُ بِهِ/ يَشْفي بِوَعْدِ المُلْتَقَى وَطَري». تجاوزاً لكل الاعتبارات يظل الديبلوماسي الشاعر حالاً لها مالها من سلبية وجع الاغتراب وملاحقة الرحيل له. وعبدالعزيز خوجة الذي يشترك في هكذا تكوين مركب ثنائي الهوية مع غيره من الشعراء السفراء، مثل نزار القباني وحسن القرشي وعمر أبوريشة وغازي القصيبي وغيرهم، لا يُقرئنا فقط من خلال نصه «وداعاً يا مغرب» ميزة الشاعر الديبلوماسي في امتلاكه آليات التأريخ، بل يأخذنا برشاقة مخضبة بالشجن إلى عمق الارتباط بالمكان، عندما تداهمه شراسة الفراق كما حصل له هنا مع المغرب مكاناً ووجوها. كاتب مغربي