يخرج الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجة عبر ديوانه (رحلة البدء والمنتهي) من أتون الفعل الرسمي، ويحلق في فضاء الشعر؛ هذا الصيد الليلي الجميل. ويكتب مفردة فيها لوعة الوجد وبوح رومانسي يتماشى وينسجم مع إيقاع الراهن ومجرياته. ووزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة، كما سبق أن عرفه الأديب الراحل عبد الله الجفري في تقديمه للشاعر في مقدمة الديوان ب (شاعر الصهيل الحزين)، ينهل من رافد الشعر ويبوح بمكنوناته في ألق جميل، وقصائد تحلق في قمة تخصه وحده، وتكتب اسمه في دفتر الإبداع. كما أن تطلعات خوجة المختلفة جعلته يهجس دائما بكتابة نص بهي فاتن، يخترن في دواخله الإبداع، وفي شكله هياكل ورموز العشاق.. كما لو أنك أمام «تاج محل»، ورواية العشق البهي بين ممتاز محل والملك شاه جيهان، أو أنك أمام كل الألوان المنسابة من لوحة الجوكندا، التي تحكي وله وعشق مبدعها وراسمها ليوناردو دافنتشي، تلك الألوان التي تكاد تتخيلها كمتلق وهي تسيل على جدران حائط متحف اللوفر متخطية إطار اللوحة. إذا نظرنا إلى ديوان خوجة الأخير نجد أن نصوصه لا تدخل ضمن اتكاءة الترف على الإطلاق، إنما تنهض من حرائق مضيئة تشتعل في نفسه وروحه الشاعرة، فالشعر يمثل بالنسبة له وجودا عميقا متنفسا يقاوم به ميكانيكية العصر، وصخبه الجنوني، ويسترد به عافيته، ويقاوم به ضجر الحياة، فمثلا في نص (دعوة القدر) ينطلق هتافه عابقا وممزوجا بنكهة النجوم والبحر والشجر، حاملا احتفالا وإعجابا خفيا بنشيج ونخيل بدر شاكر السياب في «أنشودة المطر»: «عيناك واحتان للعاشق المنهوك والقمر عيناك تهفوان للغرام في خفر» ففي هذا النص تمازج بين التفاؤل الحذر ولغة الهوى ورفرفة السحر الملائكي: هاجس الوطن ولا يغيب هاجس الوطن وترابه عنه، حيث يواصل هتافه، ويقول: «وكيف جئت لي فغرد الوجود وهلل المساء بالوعود فصرت لي حبيبتي وموطني والأمنيات». أما في نص (يا من هواك هوايا) فتتجلى الغنائية المفرطة للشاعر، ويأتي هذا النص مثل همس العصافير في رابية تسترخي على خاصرة الربيع: «يا من هواك هوايا أهديك زهر صبايا لو تطلبين عيوني فتلك بعض العطايا». السهل الممتنع وفي نص (ترنيمة)، يستخدم أسلوب السهل الممتنع، ويحلق بجمل مبتسرة، وفي الوقت نفسه يأتي النص عامرا بالإدهاش: «يا فتنة الزمان وغرة المكان وروعة المدد يا قصة المحال في الصد والدلال وبهجة السهد». وينقلنا الشاعر في نص (أنت الوطن) إلى خطاب مفعم بالحب والمشاعر الأنيقة إلى تراب الوطن، وهو لا يداري عشقه ويكتب مفردة ليس فيها أنفاس الترف أو المداراة، وإنما هتاف صريح يمزج بين المحبوبة والوطن في تلاحم يخرج من أتون النفس الشاعرة، حيث يقول: «أنت الوطن أنت الحنان والشجن أنت الحجاز والهضاب والحزن أنت السراة وتهامة المجد الأغن». وتتجلى الصورة الصريحة لدى الشاعر عن عشقه، الذي يبوح به دون مداراة أو وجل، وفي هذا النص نجد أن المشاعر تجاه الوطن تتحدث لوحدها. وقت للجنون وفي قصيدة (ثلج الأيام)، يخرج الشاعر من نمطية البكاء على طاولة ومقهى وفاتنة حسناء تهرب من ندف الثلج والمطر، وإنما يأتي البوح متجاوزا الضبابية، ويمزج بين الثلج وطاحونة اليوم المعتاد. وللجنون طقوسه لدى خوجة في نص (وقت للجنون)، حيث يواصل هتافه بحرارة ويتجاوز بعفوية الشاعر كافة الأطر والجدران ويقول: «نحتاج بعض الوقت أيضا للجنون نحتاج أيضا للنزق وللهو في أشيائنا حتى الغرق حتى تشع عيوننا كالبرق في وهج الألق». شعراء دبلوماسيون عندما نعود قليلا بوجدان الذاكرة أو ذاكرة الوجدان، نجد أن ثمة وشائج غير مرئية تربط بين شعراء عرب معاصرين جمع بينهم العمل الدبلوماسي، ولقب «سفير» تحديدا مثل شاعرنا الذي لم تنتقص من عظمته مهمات أخرى أوكلت إليه في وزارات عدة الدكتور غازي القصيبي (شافاه الله وأعاده إلينا سليما معافى)، كذلك نزار قباني، وعمر أبو ريشة، وعبد المنعم الرفاعي، ومحمد الفهد العيسى، وخالد زيادة سفير لبنان في مصر الذي عرف ككاتب وأديب، والشاعر صلاح ستيتية الذي كان سفيرا للبنان في المغرب. ويمثل ديوان خوجة في صورة عامة، صهيلا جميلا وإبداعا يضاف إلى إبداعات الشاعر الوزير الذي يمتاز بالشفافية. وجاءت نصوصه مضمخة بالكثير من الصراحة في زمن أحوج ما يكون فيه الإنسان للصراحة والوضوح في رحلة البدء والمنتهى. شخصية ممتزجة عبد العزيز خوجة توليفة أدبية تكونت من خيالات أو «أخيلة» لا فرق، الشخصية الممتزجة في دواخله من كل جميل وزاه انتقاها وجدانه وخياله من بطاح مكة التي شهدت عبقرية أرباب الشعر العربي المرتبط بالجمال مثل عمر بن أبي ربيعة في الغابر وشعرائها المحدثين مثل حسين سرحان، وإبراهيم خفاجي، وحسين عرب، وإبراهيم فودة، وأحمد إبراهيم غزاوي، وطاهر زمخشري، ومن ما اختزنته التجارب في عمله الدبلوماسي في لبنان والمغرب وتركيا وروسيا الاتحادية، حيث الطبيعة التي كونت ذائقة فريدة في وجدان الشاعر، كونت أسسا ومفردات تصدر من الوجدان لتعود إليه ألوانا زاهية. إلى جانب ارتباط الوزير بأكبر صوالين الأدب وأدباء العالم الذين تناغمت ثقافته بثقافاتهم المتعددة. (كنت أحد ضيوف صالونه يوما ما في بيروت وسط قامات عديدة يستضيفها «محمد عبده يماني، غازي القصيبي، نجيب ميقاتي، كوثر البشراوي، جاهدة وهبي، الراحلة رجاء بالمليح، نادية أرسلان، إبراهيم خفاجي، زاهي وهبي وغيرهم الكثير»، رأيت إلى أي مدى هو متناغم مع الإبداع وإلى أية مكانة هو مقدر في عيون الجميع. يوم هلت يوم هلت لفؤادي فاض حبا وتفطر ذاب فيها حلم غيث وحنان يتفجر ألف نبع فار شوقا ألف نهر يتحدر كيف من رفة هدب حال جدب الأرض كوثر كيف من لفتة ظبي كل ما في الكون أزهر كيف من لمسة شعر جدلته الشمس أشقر فاحت الدنيا وأمست كالشذى طيب وعنبر. بقايا طائر لا تقل عد لي.. فإني لن أعود لا تقل: أهواك.. هل صنت العهود؟! يا حبيبا كنت بالأمس حبيبا يستبيح القلب، فاخترت الشرود ضاع أمسي من وجودي وانتهينا يا حبيبا قد تمادى في الجدود فوداعا لحنين كان في قلبي سخيا ونديا كالورود ووداعا لفؤاد كان في صدري رفيقا، فتلظى بالصدود! ليس عندي الآن قلب، بل جراح وبقايا طائر دامي الجناح ليس عندي الآن روح، بل خواء وحديث مع نفسي كالنواح وشرود.. وذهول.. وضياع وزفير تشتكي منه الرياح فوداعا لغرام كان سهدا في المساء كان دمعا في الصباح كان حزنا في سكوني وأنيني كان وهما وسرابا ثم راح.. لا تكبرين أما أنا فأظل تأكلني السنون وأظل أجري في جنون مازال يلمع في محاجره بريق مازلت أبحث في الدروب ولا رفيق مازلت أرنو للأفق وأظل يا أمل السنين وحدي أفتش عنك في سجني الكبير وتظل تأكلني السنون ولا مجير وأراك كالحلم الطليق عند التقاء الأفق بالشط الغريق ولم يزل هذا الطريق هو الطريق حتى عدوت الأربعين. السراب وتخطرين .... على شواطي الخريف كالألق في وداعة الحنان تمسحين دمعة الوداع في خد الشفق فأنهب الخطى إليك في جنون ولهان يبعث الحنين غابر الحنين فلا ألاقي غير شاطىء غريق قد لاذ في صدر الأفق ولم يزل طريقنا هو الطريق ولم تزل هواجس القلق ولم تزل نفس الشجون حتى بلغت الأربعين مازلت أنت على الشواطي تخطرين ما زلت أنت كما عهدتك فتنة للناظرين