قراءة في قصيدة “رغم الغياب” للشاعر د.عبد العزيز محيي الدين خوجة عندما أفتح نسختي من الديوان الأنيق جدًّا (رحلة البدء والمنتهى) تطالعني على أولى صفحاته عبارة (شاعر لشاعر).. وموقعها على ناصية الإهداء المثقف الذي يزخر نصّه بالأمانة في حفظ الذكرى لمن حَقَنهم الشاعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة بالودّ من معارفه.. ويؤكد من خلال ذلك بأنّ لِمخزون ذاكرته حصانة لا يُستطاع معها مسح مدادٍ رُقِن به.. ف(شاعر لشاعر) عبارة تستساغ على هيئتي المطلق والنسبة.. وفي الحالتين بها أنا جد سعيد.. وبما أننا لبعض شعراء.. فيسيرٌ هو العمر قِرانًا بكونية الشعر.. والشعر أطول عمرًا من العمر.. وكما هي الحال عندي في أي موقعة لي مع النصوص الجيدة من الشعر استفززت بتعاقب وأنا أتنقل بين قصائد الديوان المختلفة المضامين والانتماء الشعري.. وبعد أيام وتأن خلصت - مما استجمعته منها وقافية رصيدًا هو تشكيلة من تباريح واشتعالات العشق وأسئلة وابتهالات وغيرها الكثير - إلى الشهية في مقارعة هذا المشروع الشعري الضخم.. فاستدعيت آليات الشاعر المجردة لقراءة شاعر.. وحتى أكرس انتباهاتي لكل ما يحوي بين دفتيه هذا المنجز الشعري الضخم (رحلة البدء والمنتهى).. ارتأيت من خارج سربه هذه الوقفة المكوكية حيث بين يدي الآن قصيدة جديدة لشاعرنا.. آثرت الوقوف معها في هذه القراءة بعد أن كان لها نفس الفعل فيّ.. بل أن حجم استفزازها كان أكبر لهشاشة التحمل عندي حيث أنها ذيّلت بتاريخ 8/9/2009م ب(مدينة الصخيرات).. الصخيرات هذه مدينة ساحلية صغيرة وجميلة لا تبعد كثيرًا عن العاصمة.. وكأني بالشاعر عبدالعزيز خوجة عنون هذه القصيدة ب(رغم الغياب) تواطئ قصد التنقيب في مخزونِ جراحي.. لأن هذه المدينة تقع ضمن ولاية الرباط.. والرباط عندي أكثر من مدينة.. هي وطني الصغير.. هي البدء والمنتهى. *** يقتحم عبدالعزيز خوجة صمت الذات المتحفزة بتأوه عميق من مكان ناءٍ من النفس المترنحة الراغبة في الوصل وإِقصاء شبح البُعد كيف ما كانت الوسيلة أو الوسائل على اعتبار أن الخليل القريب البعيد احتكر الجمال في شمولية قاسية.. حيث ألبس الخليلة صفة الحدث (يا ذلك الحدث) من باطن الكلمة العلوية المنبع وعمومية على مستوى التعبير المجازي على الصعيدين العامي والفصحوي (القدر).. فلما ارتبط الجمال كشق مادي -لقدرتنا على رؤيته- من جهة وسيطرة هذا المصطلح على القاعدة البيانية الإيجابية في القاموس الإنساني من جهة أخرى.. كان العرب يقولون بمتناقضتين على شاكلة الإيجاب والسلب.. (السانح والبارح) الأول يأتي من على يمين الجماعة وهو مصدر للتفاؤل.. والثاني وهو البارح ويأتي من عكس اتجاه الأول وبالتالي يمثّل عكسه في المفهوم فأُلصق به وصف الشؤم أو السلب.. وإذ نرى أن مصطلح الجمال في أقصى اليمين من الإيجاب.. فكيف وشاعرنا يلبس نوارته -والتي اسمها هو الآخر في العرف رمز جمالي بامتياز- شخص القدر (الظرف -الحدث) ليغدو مطلع المطلع للقصيدة مكثف بشكل مدروس من خلال هذا الثالوث (النوارة - القدر -الجمال).. وقبل الغوص مع شاعرنا في تفكيك تأوهه وترجمته إلى طلبات بصيغة رجائية نقرأ المطلع: أُوَّاهُ يَا نَوَّارَتِي يا ذلكَ القَدَرَ الجَمِيلْ جودي.. كما شَاء الْهَوَى صدّي.. إذا شَاء الْهَوَى أنْتِ التي بِمَخِْلَتي إنِّي رَضِيْتِ بأن أَكُون مُتَيّمًا ما دامَ في العُمْرِ القلِيلْ هذه التمنيات على الخليلة -التي تطالعنا لترسم ضعف المتيم وتؤسس في ذهننا شخصه المحب- هي من بين العناصر التي تنبؤنا بغير مقدمات بالمحيط النفسي والهالة الموجود داخلها العاشق وهي نفسها المؤججة للبوح بسلطة الحب وبالتالي تزيدنا رسوخًا بعمق المدى الذي استوطن فيه العشق فؤاده لنخلص إلى أنه في منطقة الضعف التي هي أقصى درجات العشق وأروعها.. وختم الشاعر المطلع بإذكاء نار الاستسلام بالرضا عن كونه متيمًا.. و(مادام) هنا ليست نافية لوجود فعل الهيام في حالة عدم وجود العمر في حجمه القليل هذا.. بل هي دلالة غير مباشرة على الإقرار بوَهب كل المتاح من الزمن.. ويلمح الشاعر هنا إلى أن العمر مهما طال لن يصل إلى ما يحتاجه هذا العشق لتجسيده أو لارتواء منه فلا يرغب أن يُزاد في تقليصه. تتواتر الصور ليشمل التماثل صوت الخليلة يقابله في المقايضة الروحية خَمدُ نار ما أسفرت عنه بيداء الخافق من الجراح.. ويرتفع الإيقاع والوقع ليصل حد انتعاش القلب الذي وصل به الهوى إلى مرتبة الموت وكأن الهوى هو الجاني والمجني عليه في الآن.. حيث يقول الشاعر: لَما تَعَاتبْنا المَوَدَّةُ بَيْنَنا ما كُنتُ أَعْلَمُ بالحقيقةِ.. إنّني مِن غَيْرِ وَجْهِكِ لا أَرَى أَبَدًا صَبَاحْ وَبِأَنَّ صَوْتَكِ وَحْدَهُ يُطْفِي تَبارِيحَ الْجِرَاحْ وَيُمِدُّني بالرُّوحِ أُّنْعِشُ خافِقي ذاكَ القَتِيلْ وينعطف المحب بعدها مباشرة وعلى مستوى الصوت (المتكلم) ويسلم دور البوح والتصوير للقلب من خلال دقاته والتي هي لسان الحال عنده.. ولا شك في أن البوح بالمكنون من زاوية القلب - الذي يأخذ في التراث الإنساني مأوى العواطف والأحاسيس الجميلة- أكثر التصاقًا بالعاطفة وتجسيدًا لها.. واستلامه لهكذا مهمة اعترافية يضيف الكثير من الدفء والمصداقية وبالتالي الشاعرية على الكلام المُقَرّ به ويلمِّع مضامينه. لِتَقولَ لي دَقَّاتُهُ: إنّ التي أَحْيا لها من حقِّها هي وحدَها عشْقي المُخبّأُ و المباحْ استحال العاشق هنا -هو الذي كان المعني الأول بفعل البوح- إلى متلق ليشعرنا وكأن هذا القلب كيان آخر وليس فقط صوتًا مسقطًا.. أو أنه في مرحلة (الوكالة) حيث النبض متحدث باسم الكُل.. هذا الكُل الذي هو العاشق نفسه.. والانتقال من صوت لآخر بفجائية اعتمدها الشاعر عبدالعزيز خوجه هنا ليُقنع عبر ذلك بقوة الهوس وارتجالية المحب الفاقد للسيطرة على النفس المتخمة بالهوى.. وكذلك ليُعَرِّف بأن هناك أكثر من مصدر في كُلِّيته يمكن من خلاله البوح وأن كل مصدر له خصوصيته التي يستمدها من درجة الحرارة التي طالته من حمّى هذا العشق.. كما حصل مع دقات القلب التي أعادت الصوت بعد انقضاء مهمتها به إلى صوت المتيم نفسه.. ليمضي في البوح وليضيف معايير أخرى على نفس الوجهة في الاعتراف غير المشروط بوشم الهوى.. ليعود للتأوه ليُأَبِطه القيادة في الجديد القادم من الكلام وكأني به عاد بخفي حنين من رحلة التأوه الأولى وكذا بعد سماحه لدقات قلبه بمساندته في عملية البوح ليقول: أُوَّاه يا أَحْلى وأَجْمَلَ مَا يَخُطُّ لَهُ قَلَمْ يا ذلكَ الحُلْمَ المنَمَّقَ في خَيَالِ قَصِيدَتي يا ذلكَ الشِّعْرَ الذي قد طافَ في الملكوتِ تَمْتَمَ صَبْوتي ينصب الشاعر الخليلة على رأس من كُتب في حقهم العشق وهذا منحى جميل في استعارة القلم ليعمق الصورة بمنحى الوقع في أمر الهوى.. ثم يستنبط من حبه -الذي يصفه بالقصيدة- ذلك الحلم الذي له في دائرة الإلهام سلطان.. ليباشر بعدها بوصف الخليلة بالشعر صاحب المهمات داخل الملكوت الغرامي ليتعمد إثراء الوصف التمثيلي ويلبسه أبعادا متباينة قصد منها الشاعر مغالبة العشق ولإعطائه المساحة الاستعارية التي توازي صراحته في الإدلاء بحيثيات هزم العشق له.. ويروم عبر ذلك أيضًا الحد من سعير ناره في فكفكة هذا العشق بنشر وصف الخليلة على العديد من العناصر القيِّمة المتعارفة على صعيد الوصف الجمالي أو التعبيرات الغرامية ك(ما يخط بالقلم -الحلم المنمق- خيال القصيدة- الشعر الملكوتي الطوفان).. قلدها موقع الشعر منه (هو الشاعر).. الشعر بهذه المواصفات الملكوتية التموقع لا بدّ فعلاً أن يجعل المرء يتمتم بالمبهم أو بغيره لأن في النفس مؤثر وهو لجة الحنين العاصفة بدواخله. يدخل خوجه ومن خلاله البطولة المتيّمة في مقطع آخر للبوح يفتتحه بِرهان أو مقايضة يساوي خلالها بين العرض والطلب بمعايير الهوى حيث يجعل في إحدى كفتي الرهان لفظ (نعم) من المحبوبة نعم هذه التي هي محور بوحه ورجائه قصد نطقها بها.. نعم هذه هي أخطبوط المتاهة والتي يفك حضورها في خطاب العشق كل الطلاسم.. فنعم هي التساوي أو التوازي في مسك طرفي حبل العشق على مستوى التواجد والقرب لا الأفول والبعد.. نعم هذه هي نفسها -للأسف- التي يحرمنا حضورها من غزارة الجمال والشاعرية النابعة من كلوم المحبين الذين يعانون إعاقة الهجر.. بتواجدها يأفل نجم سيمفونية العتاب ومعانات الطرف الواحد.. نعم هذه التي هي من يقوم بفعل رأب الصدع و هي (جوكر) الأماكن المعطوبة في جسد الهوى. وفي الكفة الأخرى لهكذا مقايضة وفي استعارية ومجازية يضع المتيّم كلمة النغم وهي الأخرى من عناصر الجمال في اللغة على مضمار التعبير اللغوي أو الموسيقي.. ويشحنها بأي شيء قد يقع عليه فعل التفجير وله ارتباط بماهية ما هو عليه من العشق.. وكل ما يصبو إليه من هذه المنازلة الحتمية هو القدرة على فعل كل شيء وعبر أي دليل للإثبات المدى العميق الذي وصل إليه من الهوى. قُولي نَعمْ حتَّى أُفَجِّرَ ما تَبَقى مِن نَغمْ وفي أسف يسر للمحبوبة -التي أبقى بطول هذا البوح على الصيغة الأنثوية في مخاطبتها- ببعض التباريح التي دخلت كيانه بصحبة تزامنًا مع غيابها عنه وتَحنُّط موقفها عند عدم النطق بالكلمة (نعم) لقصِّ شريط مشروع انتهاء آفة الغياب بكل أشكاله كالهجر أو المعاقبة من خلال الإقدام عليه بسبب خيانة أو الشك بها الخ..: لمَّا خطَوْنا في مداراتِ الغِيابْ ووجَدْتُ نَفسي.. ذلك الصَّبّارُ يَشْكو وَحدتي أَدرَكْتُ معْنى الاغترابْ أيْقَنْتُ يا كَيْنونتي أنَّ الذي في خافقي حُبٌّ لوجهِكِ لا يُخادِعُهُ سرابْ تِلك الحقيقةُ وَحدها تلكَ التي لا شَمْس يَحْجبها ضَبابْ ينفصم الشاعر ليرى بالجزء المشتكي الذي يمثل الوهن العاطفي في هذا الإقرار بالهيام لينظر إلى الشق الآخر منه والذي ألبسه صفة الصبر وقد وصل هو الآخر إلى حد الشكوى من الوحدة في غياب المعشوقة ليعطي المتيّم فكرة أن وضع تَغلغُل الهوى عنده لم يعد مقتصرًا على جزء دون غيره.. ليدلي بعدها بحداثة معرفته لماهية الاغتراب في العشق.. الاغتراب الذي تضاعف مفهوم حجمه وبالتالي وقعه عليه (الحب + الغياب).. وعبر شمولية وعمق لفظ الكينونة التي ألبسها إياها بصيغة تنمُّ عن التعود على هكذا لقب معها يبلغها بأن ما في كيانه هو حب قوي عظيم ليس عليه غبار ولاشك.. ينعطف بعدها صديقنا المحب لإسقاط بعد فلسفي عند حقن بوحه مدعمًا إياه بكلمة (الحقيقة) هذه التي تعتبر بعبع الفلسفة والمتفلسفون.. ناهيك أن الشاعر زاد في اتجاه إثبات صدق حبه بوحدوية هذه الحقيقة واصفًا إياها بعد ذلك بأنها ليست الشيء الذي ينقصه وضوح. وتثُور تَسأَلني: أَأَهواها؟ وَهَلْ لي في حنايا النفس إلاَّهَا! سؤال يجسّد هوله الشاعر من خلال إغراقه في الذهول مدعَّمًا باستفهام من العيار الثقيل وكأنه في ورطة مع نفسه في إقراره لها بالإخفاق في إبلاغ المحبوبة ما في جعبته اتجاهها من الهيام واللوعة.. وفي تواتر كأن القصد منه هو عدم إضاعة الوقت وتجنب أي فجوة على صعيد الزمن قد تقحم -لتأخره في الرد- شيئًا غير إيجابي ليس في مصلحة حقيقة أنه في أقصى ما قد يكون عليه عاشق من الغرق في بحر هواها.. فاستدرك في الاعتراف مهدئا ثورتها كون دواخله لا تحمل إلاّ هي. فَهذا القلبُ مثْوَاها ومَرْتعُها الضُّلُوعْ وتثُور.. أمسَحُ ما يثُورُ منَ الدموعْ ونعَودُ أَرواحًا وأجسادًا وأَفئِدةً وهَمْهَمةً تَضُوعْ ويستضيف مشهد من الواقعة ظرف ثورة المحبوبة التي تختزل نزًا لدموعها.. هذه الدموع التي ليس لغير الحبيب مهمة كفكفتها.. ليعقب ذلك الالتحام الكلي الذي أعطاه خوجه صيغة الجمع ترجمة لتجمهر الصور عند المتيّمين والتي تترتب عن التشويش المصاحب للمعانات العاطفية في حالة المُرحَل عنه.. والناطق باسمهم أو باسمهما (الأفئدة) وهكذا موقف إيجابي ينم عن اندماج المحبوبة -المخاف على أفولها من ملحمة العشق- في دور لا يسعى الحبيب في أمانيه إلى تجسيد أكثر منه. سؤالان يفتتح بهما المتيم الشطر الأخير من القصيدة.. أحدهم مجردٌ مصدره الحبيبة وهدفه الاستفسار أو التيقن وقد يكون عن حيرة أو لزيادة في الدلال.. أما المساءلة الثانية وهو الأكثر اشتعالا حيث أن له أكثر من استنتاج لأكثر من صيغة لأنه قادم من الملوَّع الذي كان قبل هكذا سؤال يعتقد بأن الخليلة على دراية بماهية مخزونه لها من الهوى على مستوى الكم وبالتالي تجسد السؤال على هيئته التعجبية حاملاً شيئًا كالجواب ليدخل بطلنا العاشق في نشوة يترجمها بتشبيه تكرار القول كل مرة عبر السؤال: أتحِبُّني؟ أَأُحبُّها؟ يا ذلك القَوْلَ المكرَّرَ من ثَناياها عسَلْ ومن موقع النشوة نفسها يجيبها وكأنه وصل إلا مبتغاه وأن السؤال منها هو في حد ذاته جوابًا له على شكل الحال في الضفة الأخرى من موقعة العشق.. فأسقط هذا الانتشاء على صاحبنا -رغم صرامة المكابدة- القليل من المرح فكرر في جوابه المترادفين (نعم وأجل) من باب تلطيف مناخ العتاب مع التتابع في ذلك بتقفية داخلية لإذكاء التنغيم وإثارة انتباه المحبوبة من خلال اللغة نفسها.. أجل والأجل ويعود للاستطراد على مستوى الزمن وكأنه ندم على القول بالأجل لأن الأجل الذي يعني الرحيل عبر الموت لا ينفي تواجده ولو جسدًا فارغًا.. وهذا ما يؤكده ب(حتى) الثانية لنفي سابقتها وتأكيد ما وراءها وكأني بالشاعر من خلال المتيم يظهر طول حبه لها ورغبته في إيصال لا حدودية عمر في ذلك لها لولا عجزه على تبني الوعد لها -غير المنطقي- بأن فعل الحب قد يشمل حتى ما بعد مواراته التراب حيث يقول: نَعَمْ! أَجَلْ! حتى يَحِينَ بِي الأَجلْ حتّى أُوارَى في التُّرابْ في المقطع التالي على لسان الحبيب.. وفي شيء من إنكار الذات عند المحبَّين وعدم الاهتمام بالأضرار التي قد تنجم عن افتضاح أمرهما اجتماعيًّا بقدر ما آلمه التعري الذي كسا فعل الحب.. حيث أظهر من خلال التوجه إلى نعت الهوى بآفة الفضح أنهما أقل شأنًا منه وأن المحافظة التي يجسدانها في الإبقاء على سرية ما يحصل هو فقط لأجل الهوى نفسه وليس من أجلهما وكأن في افتضاحه يفقد مخزونه الأحاسيسي أو شيء من ذلك ولا ننسى بأن الأحبة يحبذون وجود أعين وأفئدة جماهرية الطبع والحضور يمثلون دور الشهود على موقعة الهوى التي يجتمع الكل -الذي منه هؤلاء الشهود- عند الرغبة في حدوتها في حياتهم.. ولهذا لا ننسى أن الأمر يحدث معه بحضور فكرة أن حقيقة الجهر في البوح بالمكنون تساوي لقب السر المحبب.. ومن منطلق كهذا ففضح الهوى في النفس المولعة يعطي انطباعا بشيء كالانتصار أو الخروج من العتمة إلى مصادر النور حين يقول: فُضِحَ الهَوَى فالسِّرُّ لَيسَ لَه حِجابْ بعد أن بدأ الشاعر عبدالعزيز خوجه من خلال الحبيب في تشكيل سيناريو المقطع الأخير من هذا البوح بكشف افتضاح أمر العشق مال على منعطف حطّ الرحال حيث استدعى كبرياء وصف النفس منه بالحمى في تواجد هذا التورط العاطفي ليقع فعل السّكْر -الذي يراد به ذروة النشوة الآتية من هالة العشق إيجابًا أو سلبًا- على الجواب.. كل جواب.. هذا الأخير الذي انتقلت عدواه المحببة تلك شاملة كل الحمى.. ليست له وجهة محدّدة لفسح المجال الجوابي على نص العتاب وبالتالي لم تقنن دلالته لجعل فضفضتها تستسيغ كل مَصادر الجواب سواء أتى على لسان المتيم نفسه حيث ذكَّرها أكثر من مرة وكأنه يطلب منها فعل هكذا جواب على سؤال بالبديهة موجود فحواه أن هذا الذي حصل بيننا.. أليس كافيا للعدول عن كارثة البُعد كقوله (لما تَعاتبْنا المَودَّة بَيْننا).. أو ما أجابت عنه المحبوبة بغير مباشرة وعبر جسر المساءلة (أتُحِبُّني؟).. أو تشمل تلك الدلالة شمولية نص الجواب على النص العتاب كمحصلة نهائية وكحصر نسبي لتك الدلالة سواء كان الجواب مُرضٍ أو غيره.. والثمالة تأتي لتعمم الضعف المادي لوقع العدوى على كلية المتيم الذي يستطرد مقرًا بنفي ترجمة ضعفه العاطفي إلى شكوى.. ليصل إلى ذروة حط الرحال وهو بين البينين مادام الهوى متغلغل بإقامته في كليته وأن هكذا وضع مسلم به في حضورها سيان عبر الروح أو في الغياب عن البصر. لمَّا أَتيْتُ إلى الحِمَى سَكرَ الجوابْ سَكِرََ الحمى حتّى الثُمالَةَ بالهَوَى لَمْ يَشْكُ منْ حَرِّ الجَوى لَمْ يَشْكُ مِن أَلَمِ العذابْ وعَرَفتُ أَنكِ -في الوجودِ- حَبيبتي رُغْمَ الغِيَّابْ. نستقي من هذه الجلسة مع قصيدة (رغم الغياب) الدور المؤثر للبُعد عبر الهجر في مجمل النص الذي نصَّعه الشاعر المبدع عبدالعزيز خوجه بإلباس بُعد البعد جل مفاتيح البوح ليثبت من خلال ذلك وقعه المؤثر.. ونستشف في العمق الرسائلي للقصيدة بأنها امتدادًا بوزن التزكية لصوت العاطفة.. ما دامت الوقائع وأحداث المخاض الناجم عن حالات الهوى الإنساني تدور في فلك الروح وفي سموٍ لا يشوبه هاجس غير العاطفة نفسها.. ويقر الشاعر من خلال كل الاستعارات والإسقاطات الجمالية والكونية -باعتبار أن النفس الإنسانية واحدة في هكذا مضمار وأن الخالق جميل و(يحبُّ) الجمال- أن العشق فعل آدمي حميد.. كما يعتبر هذا النص الشعري نموذجًا سلسًا ببراعة في هذا الاتجاه.