فيصل بن بندر يرعى حفل الزواج الجماعي الثامن بجمعية إنسان.. الأحد المقبل    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    "الوعلان للتجارة" تفتتح في الرياض مركز "رينو" المتكامل لخدمات الصيانة العصرية    القبض على ثلاثة مقيمين لترويجهم مادتي الامفيتامين والميثامفيتامين المخدرتين بتبوك    نائب وزير الخارجية يفتتح القسم القنصلي بسفارة المملكة في السودان    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    أسمنت المنطقة الجنوبية توقع شراكة مع الهيئة الملكية وصلب ستيل لتعزيز التكامل الصناعي في جازان    تنفيذ حكم القتل بحق مواطنيْن بتهم الخيانة والانضمام لكيانات إرهابية    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    "مجدٍ مباري" احتفاءً بمرور 200 عام على تأسيس الدولة السعودية الثانية    إقبال جماهيري كبير في اليوم الثالث من ملتقى القراءة الدولي    200 فرصة في استثمر بالمدينة    «العالم الإسلامي»: ندين عملية الدهس في ألمانيا.. ونتضامن مع ذوي الضحايا    إصابة 14 شخصاً في تل أبيب جراء صاروخ أطلق من اليمن    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    التعادل يسيطر على مباريات الجولة الأولى في «خليجي 26»    «الأرصاد»: طقس «الشمالية» 4 تحت الصفر.. وثلوج على «اللوز»    ضبط 20,159 وافداً مخالفاً وترحيل 9,461    مدرب البحرين: رينارد مختلف عن مانشيني    فتيات الشباب يتربعن على قمة التايكوندو    «كنوز السعودية».. رحلة ثقافية تعيد تعريف الهوية الإعلامية للمملكة    وفد «هارفارد» يستكشف «جدة التاريخية»    حوار ثقافي سعودي عراقي في المجال الموسيقي    ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف الشريف    رينارد: مواجهة البحرين صعبة.. وهدفنا الكأس الخليجية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    هل يجوز البيع بسعرين ؟!    «يوتيوب» تكافح العناوين المضللة لمقاطع الفيديو    مدرب الكويت: عانينا من سوء الحظ    سمو ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الكويت وعُمان في افتتاح خليجي 26    السعودية أيقونة العطاء والتضامن الإنساني في العالم    الحربان العالميتان.. !    معرض وزارة الداخلية (واحة الأمن).. مسيرة أمن وازدهار وجودة حياة لكل الوطن    رحلة إبداعية    «موسم الدرعية».. احتفاء بالتاريخ والثقافة والفنون    رواية الحرب الخفيّة ضد السعوديين والسعودية    لمحات من حروب الإسلام    12 مليون زائر يشهدون أحداثاً استثنائية في «موسم الرياض»    رأس وفد المملكة في "ورشة العمل رفيعة المستوى".. وزير التجارة: تبنّى العالم المتزايد للرقمنة أحدث تحولاً في موثوقية التجارة    وزير الطاقة وثقافة الاعتذار للمستهلك    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    المؤتمر الإعلامي الثاني للتصلب المتعدد: تعزيز التوعية وتكامل الجهود    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    أمير القصيم يرعى انطلاق ملتقى المكتبات    محمد بن ناصر يفتتح شاطئ ملكية جازان    ضيوف خادم الحرمين يشيدون بعناية المملكة بكتاب الله طباعة ونشرًا وتعليمًا    المركز الوطني للعمليات الأمنية يواصل استقباله زوار معرض (واحة الأمن)    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المعرض التوعوي "ولاء" بالكلية التقنية    شيخ شمل قبائل الحسيني والنجوع يهنى القيادة الرشيدة بمناسبة افتتاح كورنيش الهيئة الملكية في بيش    الأمير محمد بن ناصر يفتتح شاطئ الهيئة الملكية بمدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية    السيسي: الاعتداءات تهدد وحدة وسيادة سورية    رئيس الوزراء العراقي يغادر العُلا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثرثرة الذات والأصوات في قصيدة بعد الفراق للدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة
نشر في المدينة يوم 22 - 12 - 2010

“الفراق” الكلمة الشجن ليست بأقل من وقع الفعل منها.. فمجرد التقاط هكذا لفظ عبر السماع كفيل بإراقة مخزون النفس عبر استدعاء الذاكرة المؤسَّسة من الكلوم التي لا شك أن واسطة العقد فيها هو هذه الكلمة “الفراق”.. وعندما نتكلم منطقيًّا عن إفرازات الفراق أو حصيلة آثاره.. فإننا بالضرورة نكون مجبرين على تحديد هوية الزمن الذي تقع علينا فيه تباريح هذا الشبح الذي لم يوصف على امتداد المنطقة الإنسانية إلا بالمنبع الخصب للكوارث الإنسانية وبخاصة على مستوى العاطفة.. وبالتحديد عندما يعني الفراق النهاية.. ورغم أن هكذا مصطلح مهيمن على الفحوى السيكولوجي للكلمة.. إلا أننا ندرك جيدًا أن فعل الفراق مجردًا لا يعني دون ما بعده من التبعات شيئًا.. لأنّ البُعد الدرامي للكلمة يكمن في العواقب التي تتفتق عنها.. ف(الفراق) ليس مصطلحًا داخل مفهومه اللفظي فحسب إذا ما أردنا تفكيك مفهومه الكلي وسبر الأغوار ملاحقين ماهيته..
هذا الذي ارتأيت له في بدء توغلي أن الشاعر عبدالعزيز خوجة قد نصَّب (بَعد) بمحاذاة كلمة (الفراق) هذه لأنه عندما داهمتني هذا العنوان لأول وهلة من على فوهة هذه القصيدة وكذا بعدما قفز النظر مني بعفوية المنقب أو بخبثه حيث ذيَّل شاعرنا هذا البوح ب(جدة) كتأريخ لمهد هذا النص.. استشعرت بأنني مقابل تواطئ جديد للشاعر مع دفتي هذه القصيدة (العنوان والتأريخ) على استفزاز فضولي الجاهز.. لأصِل هذا بذاك وأريح شيطان تربصي باعتماد غير جازم بأن فعل الفراق الذي أتي التنهد به من صدر الشاعر.. إنما يقع هو أو جزء منه على هذه العروس (جدة) الذي أُبيِّتُ كالكثيرين درايتي بهيام شاعرنا بها.. وهذا ليس من باب انفتاح الدلالة الشعرية وعدم المباشرة في تعرية وكشف هوية المفارَق أو المفاِرق.. ولا حتى من قبيل لي عنق ذلك في اتجاه ابتكار هوية طرف لجلسة شجن لست قارئًا لأبعادها بعد.. وإنما لعلمي بأن حب هذه المدينة قد يكون من أبرز نقاط الضعف القوية عند خوجة الدائم الترحال.. وبالتالي فقد استفز قريحته حط الرحال الأخير في حضن معشوقته التي لا شك أنه يمقت أن تكون عروسًا لغيره حتى ولو كان منافسه عليها بحرًا. وما استدرجني لهذا التحليل غير (بعد) في صيغتها الزمنية هذه التي سبق وعرفتها بفحواها الكارثي في موقعها عقب حدوث آفة الفراق مطلع القصيدة الذي يُفتتح بإعادة (بعد الفراق) هي دعوة صريحة للبدء من جديد وداخل النص باعتبار أنه تأكيد بأن زمن ما بعد الفراق هو بداية الحكاية ونهايتها.. وأن المعيار غير مصادَر أو محتكَر من منطقة العنوان أو من غيرها.. وأن الجملة تأخذ نفس المعنى فقط في صيغتها المباشرة.. ولكنها تأخذ معاني مختلفة حسب تموقعها.. ف(بعد الفراق) كعنوان يطغى عليه نوع من الشمولية على اعتبار أنه عنوان قد يجاز لأكثر من نص بخلافه في المطلع فهو يحرضنا على سماع نص بعينيه بسليقة التوالي: بعد الفراق.. عند التفكر الكبير في ماهية الإنسان قد يخرج الكثير منا بأن كينونتنا وفي أقصى تجليات الفكر لا تعدو أكثر معنى.. وحتى في بعدنا عن الذات والإحاطة بما نوجد عليه.. ويتأكد ذلك عندما نقف على حقيقة أن جل ما يرافقنا كهالة حياتية اجتماعية وبخاصة على مستوى عقيدة المثالية التي ما فتئ الإنسان ينسبها لنفسه رغم أنه ليس أكثر من منتج لها وعلى مستوى التنظير فقط.. هذه العملة التي يحبذ الإنسان في خياله أن يكون لها أنوجاد حقيقي في حياته.. فنظل نعتبرها قيمًا فطرية ننفرد بها.. رغم أننا نقف على حقيقة أننا عاريين إلا مما نذر منها والذي لا غرابة في أفوله الآخر كما يبثه الخوجة لنا:
تموت عندنا المعاني
ويؤكد الشاعر أن عقب زوال نعمة المعاني تغدو سحنات وملامح الأشياء سواء.. ونحن بالعادة ورغم الحاجة قد نستحب الانتقال بين الأشياء من قبيل التغير سواء تعلق الأمر بالأماكن أو بالوجوه أو حتى داخلنا من خلال تضاريس الذاكرة أو حتى في التنقيب مستعينين بالمعول الميتولوجي في مستقبل أو حلم يقظة أو حتى في منتهى أحلامنا.. لن يكون المهم أن يكون الأمر مختلفًا بين هذا وذاك أيًا كانا.. فعدم السوائية هي المُقنِع لنا في التغيير.. أما والأمر صار سيانًا وصار التشابه بين الأشياء هو سيد الآن.. فالحال لن يكون دون حدة تصل بالمرء إلى أسوء الوقع على الصعيد النفسي.. والشاعر هنا يؤسسنا - ونحن في مطلع القصيدة - لتحمل عمق من الصدمات يحتاج المرء للتعود عليها البدء من نفسه. ويأتي الاستطراد هنا بمثابة تأكيد أن موت المعاني تليه حتمية أن تتساوى الأشياء في زمن ما مع التغاضي عن تباين حجم هذه الأشياء الذي يلغى في حضور هكذا تساو:
وتصبح الأشياء كلها سواء
والشاعر يُلحق هذه الشمولية بشيء من الخصوصية التي قد يكون اتخذها كمقياس لشفافيتها ولوظيفتها الوجدانية ألا وهي الموسيقى في شقها الغنائي (الذي لن أتطرق - متعمدًا - إلى الجانب الكلامي فيه لضيق الحيز وكذلك لقرب قراءتهما لأن العامل النفسي في النص واحد).
كلنا يدرك أنه من العيوب اللافتة التي تثبت أن الأذن والروح لهما حصانة ومنبه ضد كل استنساخ - على الأقل - في الغناء أو الموسيقى عامة.. هو رفض سماع لحن في حالة تطابقه أو حتى اشتباهه بسابق له من الألحان حتى لو لم يكن وراء وضع هكذا لحن تعمد الاستنساخ.. وبالتالي فهو خارج دائرة الإبداع الغنائي.. وكذا أنه غير قادر في نسخه على التأثير في وجدان المتلقي الذي لا يفوت جهاز الالتقاط عنده أن هكذا لحن أو أغنية قد مرت على ذائقة النفس منه.. حيث تكون قد نالت ما لن يستطيع الشبه أو التكرار أخذه منها.. وقد كانت (حتى) بمثابة خيبة أمل عند الشاعر وكأني به في ملامة يكتنفها عمق الحزن يقول للأغاني (أنتِ آخر من أتوقع هذا منه):
حتى الأغاني !!!!!!
وفي استطراد مبيت له بعد أن فتح الشاعر شهيتنا للّوم بالأغاني حط الرحال عند تصوير آخر باشر في تعريفه وهو (الرفاق).. ولفضفضة هذا اللفظ وإقرارنا بأننا لا نستطيع حسر هوية الرفيق على اعتبار أنه قد يكون من الأقرباء أو الزملاء أو الأصدقاء.. وإني لآخذ هذه الأخيرة كاستعارة تمثيلية وموازية باعتبار أن الأصدقاء الأقرب دورًا إلى الرفاق.. وكلنا يعرف مدى الغور في كل انتكاسة مهما ضوئلت وكان من وراء حدوتها صديق أو أصدقاء.. وفي شيء كالانتقام عبر الكلمة فكك عبدالعزيز خوجة عناصر موت المعاني في هكذا أصدقاء حتى وصل الذروة باستهجان مادة للحبور ومصدر الابتهاج الآني (النكتة) مزاوجة بالصديق.. والعنصرين المكونين لهكذا زوج هما بالعادة في خانة الإيجاب على النفس.. ولكنهما في النقيض أسوأ ما يمكن تقبله إذا كان العكس مباشرًا.. أما إذا كانت نفسية الشاعر هي الكامن وراء رؤيته الرافضة لكل ما يصدر عن الأصدقاء كلامًا ونقاشًا ونكتًا.. فذاك كلام آخر.. ولن يهدينا إلى صلاحية هذا من ذاك إلا المسح الكلي للنص:
حتى الرفاق
حديثهم
حوارهم
نكاتهم كما الغثاء
وفي اقتداء ب(لا يفل الحديد إلا الحديد)، ورغم أنني أرى أن شاعرنا هنا لم يغالب النفس المكلومة حين جنح في شبه جحود للشعر مستعيرًا له مترجمًا به لنا انهيارًا شاملًا يعيشه.. فكان المستعار المسكين كبش فداء آخر على غرار المعاني والأغاني والنكات.. أقول بالمسكينية لذي المهتمين.. وإلا فكيف بالشعر ينقل موت الشعر نفسه.. لا وأكثر من ذلك نعته بالهرائية.. والعاشق المحاصر بانقراضٍ كبير من خانة القيم وما شُكل كرصيد في ذاكرته الاجتماعية منها عنوانه المثالية:
والشعر لا معنى له إلا هراء قي هراء
وفي استطراد غير مباشر يقحم خوجة ثنائية الليل والنهار ممثلًا في نوره حتى يضعنا في أقصى بُعد بين الاثنين آخذنا دومًا في اتجاه أن يكشف مجسدًا لنا ما يكمن وراء هذا البوح.. وما قصده ب(مثل) هو وقوع عملية الإقصاء عليهما معًا باعتبارهما اجتمعا على شَبه إقصائهما من قبل (الأماني).. هذا الفعل الذي خبأ شاعرنا وراءه ما خبأ من الوصف لما أفل من التواؤم أو الفرح أو حتى العادات التي ألفها والتي عمت الليل كما النهار.. وما هكذا (الأماني) إلا التعود على رحابة الزمن قبل المكان في سالف العهد عنده وهو النقيض للآني الذي يقظُّ مضجعه والذي يشك - في بطن الكلام - على أنه قد يخرج عن كونه ظرفًا فقط.. وكأني بالعاشق يتأوه خوفًا من وقوع ذلك وأن يكتسح هكذا حال مساحة أكبر من العمر ولم لا كل ما بقي منه.
ويدخلنا الشاعر بقصد أو بغيره مستدرجًا إيانا ومسلِّحنا بسلاح الشجن بمكيال الذاكرة.. لنمتطي برفقته هامة الحنين وما يعنيه هذا اللفظ في هالتنا الإنسانية.. وكأني بهكذا اختيار أراد من خلاله الدق على أَحسّ أوتار التعاطي عندنا مع ما تنقشع عنها الأيام قبالتنا من المواقف.. وأقصد بالذات استحضار أو حضور شيء من بنك الذاكرة.. ناهيك عن رغبته في إذكاء نار التقمص كي نكون معه يدًا بيد؛ حيث إنه وضع هذا الحنين في حالة الشهيق فاجتمع المؤثران ليُفضيا بنا مثقلين بالوصف.. ليرمي بعدها شاعرنا شيئًا كرصاصة الرحمة منهيًا (تارته) هذه بنعتٍ هو الآخر يزيد من إلباسنا حالة المناعة قصد استقبال الآتي من البوح.. حين استقر في تشبيهه هذه المرة على درامية مشهد ذوبان فتيل.. وكأني به رام استعارة هكذا عمق فقط ليطمئن على مشاطرتنا إياه الدرجة نفسها من الانكسار وقد تطرف في ذلك ليقينه أن الألم لا يبث إلا بالألم.. وكذلك يكون مقتنعًا إلى أنه وضعنا في الصورة كأننا جزء من حضورها.. شاعرنا هذا الذي انتهى بتدرجيته في تجريعنا غصص الحال الذي هو عليه.. لنُبتلي منه بصورة أدق وأكثر استحواذًا على عاطفتنا حينما يرمي محذرًا إيانا بالنبأ الجديد الحاسم.. والذي يخص عمر الفتيل (الذبالة) وأنه على مرمى شهقة من نهايته (الغروب) ليحمّسنا أكثر في اتجاه دائم لاشتياقٍ متجدِد للآتي من البوح المبطن باللوعة.. وفي فجائية مثيرة وكما تعودت في الكثير من (القفشات) الشعرية لعبدالعزيز خوجة ومنها أنه يغير تموقعه بسرعة ولأكثر من مرة في أزمنة قياسية دون أن يقلقلك في موقعك كقارئ أو كمتقمص.. فيحيل هنا نفسه إلى منصة المخاطِب مستجديًا هذا الحنين الذي اتخذه كعنصر محوري يرمي عليه ثِقل خطابه مطالبًا إياه بالكف.. وفي استطراد يقص العاشق فجائية الأسى وقد داهمه في خلوة الاستجداء تلك.. زاحفًا في اتجاه الثرثرة فوق كلومه من جديد.. هذا الزحف الذي يحمل في تكوينه (المساء) كموقع زمنيّ اتُّفِق عبر قصص ووقائع غزو الهوى لعذرية النفس الإنسانية على أنه الميقات المفرط والمضاعِف لوقع العشق في النفس.. العشق الذي يأخذ صيغة الألم حين تتفتق في وجه العاشق تباريح متعددة المصادر كالطرف الآخر من الهوى. أوقد تكون من قبيل مطبّات خارجية تحول دون سلاسة العيش في سلام مع الحب. والليل مثل الصبح أقصته الأماني
ويشهق الحنين تارة كأنه ذبالة تذوب
لم يبق منها غير شهقة الغروب
أقول للحنين قد كفى.. ويزحف الأسى
على لواعج المساء
وكما عودنا في مخاضاته عبر البوح شعرًا فإن خوجة يبدع في احتراف تعدد الأصوات ليس داخل النص الواحد فحسب.. بل في المقطع الصغير الواحد.. وكأني به يروم تبليغنا دومًا أنه لا يعتمد مجافاة المنهجة في الاختصار.. والذي قد يقلص من مدى الإفهام الذي يرومه هو من نصه.. وإنما يعمل على تركيز الكم في مساحة بوح ضيقة.. موظِّفًا ما نحتاجه من عناصر للتبليغ.. لذا فهو يبرق لنا ثانية وعلى نغمة الاستطراد نفسه معيدًا صراخ الحنين الذي يوجد في موقع القوة من الخطاب.. والذي يقذف العاشق بالسؤال الغارق في التهكم مزدريًا إياه بسبب اللجوء إلى حل المناجاة الذي يراه الحنين أنه خارج شيم العاشق القوي الذي تقاس قوته هذه بمدى تحمله نوائب عشقه.. كما بيَّن له بدرايته بماهية الضياع التي آلت إليها حاله في الأزقة.. هذه الأخيرة التي قد لا تلبس أكثر من إحدى المعنيين (الحياة أو النفس) ما دام الضياع بفعل عاطفي.
يقول هل عدوت للهروب من مفاوز الهوى
فضعت في الدروب
يقتحم عبدالعزيز خوجة المقطع الموالي ب(بعدها).. هذه التي نجد في متاهة مفهومها استقطابًا لكل ما سبقها.. فقد تأتي عقب موت المعاني وما تلاها من حديث الرفاق ووصفية الشعر والليل وظرف الحنين وخطابه..
ولكن الملاحظ وبشكل مبطن أن الحنين وعلى شكلٍ اعتراضي كان هو القائل ببَعدها هذه.. ليكمل كلامه في هروب جميل يلامس حدود الرمز.. فيؤنب العاشق على اختياره التشبث بالمحبوبة رغم أنها آثرت الفراق مترجمًا هكذا فعل - الذي قد يأخذ شكل الخيانة - إلى التصور المعتاد الذي يكون عليه الفراق من خلال كلمة (آخِر) وكذا التحامها ب(العناق).. هذا الذي لا يشير إلى غير أن الأولى تعني بأن أمر الفراق هو نهائي.. لا بل أكثر من ذلك أنه حدث بالفعل وأن هذا التأنيب إنما جاء للحد من اللواعج التي تحتشد في نفس العاشق.. وتكرار نفس الفعل (شاء) بصيغتين تعنيان طرفي العشق.. وأن التطابق في فعل هكذا لفظ.. إنما يفضي إلى دلالة تشبث العاشق - لغاية الآن على الأقل - بعشقه.. حيث يقف الطرف الآخر من عدوتي العشق موقف النقيض من خلال (العناق الأخير) هذا الذي أفرزه تموضع (شاء) الثانية والذي يعني أن الاتجاه المرغوب فيه من جهته مضاد لفعل البقاء.. وتجاوزًا لكل الاعتبارات التي قد تكون وراء رغبة المعشوقة في الفراق.
وبعدها قد شئت ذلك الذي قد شاء آخر العناقْ
بين كر وفر وفي التعاقب على صوت المتكلم.. يعود عبدالعزيز خوجة لتسليم زمام التعاطي في واجهة هذا البوح إلى العاشق الذي كأني به يبرر ل(الحنين) ما سبق ولامه عليه.. ولم يكن من بد سوى أن يصف البعد الرومانسي الذي كانت تشهده ساحة هذا العشق.. ليجعل اللائم في حالة اقتناع بأن أمر تعلقه ليس بغير مبرر.. خاصة إذا كان الحال يصل إلى أن يغدو التلويح له من المحبوبة حلمًا يقاس بالثواني على اعتبار أن الشاعر هنا قد استعار من العلم نظرية أن الزمن متحول وأن النائم -مثلًا- قد يرى قصة متكاملة يصل مداها الزمني الاعتيادي مجسدًا إلى ساعات.. ولكن القصة عينها قد تُختزل في الحلم إلى برهة.
يعود بعدها شاعرنا إلى الفعل ثانية.. فكما اعتمد وصف وقع التلويح عليه عاد ليضمخ مخيلتنا باللون الذي يأتي الفعل به على بصر المتيم من أنوجاد المعشوقة وبالتالي العشق.. وهذا ما يترجمه التلوين الذي يخضع نظره من زاوية الحب.. ليستهل بوح الألوان المتعاقبة -لحظة بلحظة- بالربيع الذي عدم التوقف عنده شيء مبرَّر وهو التذكير بأننا نقف مع هذا البوح عند نقطة أبعد ما يكون عن الفرح الذي لا يجسد الربيع - بخصوبة زهوه - غيره.. وليست (تارة) التي تلي هذا المرور على هكذا لون سوى إقرار بأن سابقتها التي تم عبورها -ليس تجاوزها- فقط ليست بلا مهمة تبريرية وإنما هي جزء قد يكون يسيرًا من الفرح شهدته دواخله.. وأن عمر هذا العشق لم تكن قاحلة بالمطلق وإنما هو ظرف الفراق الذي هو ما جعله يجنح إلى صبغ هذا البوح بملامح يطغى عليها ألم اللواعج.. وهذه ال(تارة) يحيلنا من خلالها عبدالعزيز خوجة إلى استعارة مفهوم الهطل في لعبة المطر.. ليصف هكذا فعل من المعشوقة على أنه جود منها بالحنان.. وتذاوب هاذين العنصرين المتباينين وتزويجهما يعود للشاعر.. حيث إنه يقصد تهيئهما للفعل الإيجابي الذي سيقع.. وهو إزالة الشوائب (قسوة الصقيع) من نفسه ودخوله مرحلة الصفح.
وفي خضم الجو الزمهريري نفسه يلحق الشاعر (تارة) أخرى.. ولكن هذه المرة بفعل داخلي آت من المحبوبة يشبّهه بالرعد الذي يضعه لإبراز قسوة المحبوبة في صيغة الجمع.. حيث يخرج من جلده في ثورة لا سابق لحِدتها في النص.. ليعرفنا أن الرعد الذي هو على ناصية قاموس الإنذار بالهطل الغزير.. مستنسخ ها هنا ليعتمد سبق الإصرار والعمل على تمزيق العهود التي هي العمود الفقري للعشق وأهم بنود دستوره.. وفي استطراد ينجلي على عمق الجراح التي سببها تصرف منفرد من الطرف الثاني.. يصفها بأنها لا تبقي على أهم وأقدس الركائز في هالة العشق وهو الوفاء هذا.. ولأن هكذا صفة تؤخذ حسب الحالة والموقع فدلالاتها متعددة.. وبما أننا بصدد آخر العناق وأن في الأمر عادة الرحيل.. فلا يعني سفك الوفاء هنا بالضرورة وجود طرف ثالث كما اعتيدَ على شرح هذه الكلمة.. ولكن قد يتقمص فعل إراقة الوفاء أحد البنود المتعددة والمناقضة لعهد الحب كالهجر بدون سبب مثلًا..
كانت معي تلوح لي
كالحلم من عمر الثواني
تلون الوجود لحظة بلحظة فتارة ربيع
وتارة شتاؤها حنانها
يذيب قسوة الصقيع
وتارة رعودها تمزق العهود عنوة
وتسفح الوفاء
يعود الشاعر عبدالعزيز خوجة ليقتحم بنا مشهدًا من البوح المنظوم من خلال (بعدها) ثانية.. ولكن ليس بصوت الحنين أو غيره بل بمنبرية من المتيّم نفسه.. ليكمل لنا فصلًا لطالما ألفناه في تضاريس العشق والعشاق.. فصل جديد يميط اللثام فيه عن اعتداد مهزوم لأسيرنا في الهوى.. وهو على غرار (عزيز قوم ذل) ينيخ هامة المحبوبة.. ويحقننا في شيء كالسرية أنها كانت تعود منكسرة بعد كل فراق تحمل الراية البيضاء طالبة الصفح والبداية الجديدة.. كأني وبالإشارة إلى تكرار هكذا موقف بأنه جاء ليعطينا الانطباع باعتدال ميزان الانكسار -إلى حد ما- حيث ِزيدَ في كفتها مثقال الخنوع للعشق هذه المرة.. وهذا المقطع لو فُكك تركيزه فإن في جوفه نصًا بوحيًا مستقلًا بذاته ومتكاملًا.
وبعدها تعود تطلب اللقاء في رجاء
وفي العودة إلى الانكسارية التي اكتسحت بوح المحب.. نشعر بالتحول الذي يحدث في الخط البياني لهكذا خطاب.. حيث يمكن القول إنه تفنن في تبني السلام انحدارًا مع الرغبة في الإبقاء على عشقه.. وأنه على غرار المحبين بعمق العذرية في ذلك.. يأبى أن يصحو يومًا وهو خارج دور العاشق.. رغم متاعبه التي غالبًا ولسبب أو لآخر يكون مصدرها -في حالته هو- الطرف الآخر من وجبة العشق هذه.. ونلاحظ أن عبدالعزيز خوجة أجاز لنفسه التكرار ليس لأنه يعرف بأن التكرار فن لمن يعرف اللعب على أوتاره.. ولكن هذا الأخير ليس سوى جزء فقط من صفقة قطبها الآخر هو الإصرار للاطمئنان على إبلاغنا بأن حجم الذي كان يعتريه قبل الذوبان (الصفح) ليس أقل من مقارنته بالصلابة التي لا يلينها ولا يُخضعها غير فعل (الذوبان).. ويستطرد مترجمًا موقفه التسامحي بتصوير غاية في العمق يسند بطولته للطفولة.. راميًا بخبث الشعر في اتجاه العبثية منها ليصل بها أو بنا نحن إلى بوهيمية الطفل لحدِّ مشاكسته للمطر.. وأثقل منها عمقًا معانقة للقدر.. هذا المنحى السريالي الذي لا يحط الرحال بنا فقط.. بل يوقفنا في شدوه أمام هالة من الأسئلة التي تعاقبت وستتعاقب الأمم والأجيال والمجلدات على محاولة السبر بحثًا عن ماهيتها.. وكأني بالشاعر يجنح بنا لهذا البعد الميتافيزيقي ليُصعِّب علينا التعرف على ما بداخله.. هو الذي يعيش فترة المجد الذهبية بالصفح عن المحبوبة.. ولأن عمق هذا المقطع جعله أكثر تضرسًا مما سبق من هذا النص.. فهو يستدل بمنحيين مختلفين.. فالريح حتى في فعلها الملموس لا تخرج عن زئبقيتها ومع ذلك نحن في حاجة دائمة لها.. والسريالي منها هو فعل العناق فقط.. حيث ورغم أن العلم أثبت أن الهواء ليس مرادفًا للخواء المطلق باعتبار أن هناك كائنات جد مجهرية لا نقوى بالعين وحدها على رؤيتها تشغل حيوه أو جزءًا منه.. إلا أننا ما زلنا وسنظل نتعامل معه على أنه فراغ.. وبالتالي فعناق الخواء هو درب من غير العقل المعقول.. أما القدر فلا أرى استعارته إلا باعتباره (المقدَّر) والذي -عند العاشق الشاكي- هو ما يجسده هذا النص الشعري من تورط في هكذا عشق وأحداثه حلوها ومرها بما في ذلك حالة الصفح البطولية هذه عن المحبوبة.
تذوب غضبتي تذوب ثورتي
كالطفل عابث المطر
كالطفل عانق الرياح و القدر
يفتتح الشاعر عبدالعزيز خوجة المقطع الموالي بالعمل في اتجاه أن نسلم أولًا وعلى شكل تأشيرة أو دمغة للمرور بأن فِعل الرحيل عند المحبوبة عادة متعارفًا عليها عند الحبيب.. وهو بذلك يستوقفنا لنشهد معه معاناته معايشًا ومنتظرًا لهكذا فعل منها بين الفينة والأخرى وأنه هو وحده من يتلقف نوائب ذلك.
وحان عندها الفراق
وقد ختم الشاعر المقطع السابق بعد إشهادنا على عادة الهجر عند المحبوبة مبقيًا على انتباهنا للترجمة التي تلي ذلك.. وهي إفرازات لخوالجه المكلومة مخاطبًا النفس منه أو القلب مباشرة.. ولكن في مساءلة عن التحول إلى الحجرية وهو ليس جازمًا في ذلك.. وعدم الجزم هذا لا شك في أنه يعود إلى أنها ليس المرة الأوحد التي تأتي فيها المحبوبة على فعل الهجر.. و(بعدها) هذه المرة توسطت الكلام كإشارة إلى طفْح الكيل.. وأن هذا آخر منزح للصبر.. حيث انه جسَّد نسيج هواه وما تفتق عنه من الألم والكوارث على مسرح المساء كما صورت له.. وحيث أسند دور العشق للقمر معتمدًا على تاريخ هذا الأخير في ملاحم العشق والعشاق.. لينعي القلب منه بعد تحجره عبر سماعه الشهيق الذي تقمص دور الجسر بين القمر الفاني -وهو ترجمة لإفراغ القلب من العشق وآلامه- وبينه هو صانع هذا القرار.. وكما عودنا عبدالعزيز خوجة في تأكيده وبإصرار على وضعنا أقرب ما يكون إلى عمق الحدث والاستشعار بوقعه.. أبقانا في أجواء التمثيل السمائي في طريقه إلى مأتم مسح ملامح الهوى من القلب.. وشدّ بتعنت في ذلك حيث ان النجوم التي أرى أنها تجسد لحظات الإيجاب -على الأقل- عند العاشق في رحلة عشقه.. والتي تزامل القمر في رحلته بين دفوف مجلدات سير الحب والمحبين.. جعلها تأفل هي الأخرى ليجسد خوجة الرغبة القوية عند المحب (أو عنده) في عدم الإبقاء على أي ملمح يذكره بالذي مضى.
أقول هل غدوت بعدها حجر
وأسمع النشيج في السماء أن مات القمر
وترحل النجوم تهجر الطباق
وأعود إلى خبث الشعر لنرى أن عبدالعزيز خوجة وهو متأبط للرغبة في أن لا يُشْردنا في ختام بوحه هذا.. استعار من النص المقطع الأكثر عمومية واستقطابًا لمجمل ما تُرجم ومما وقع على المحب من أهوال الهوى.. وفي مأمن من أي تجزئ في هكذا رسالة لجأ إلى الجملة الأكثر احتواء لذلك في النص كله.. حيث اجتمعت الكلمتان (الأشياء + الكل) وكأنه بعد هذا البوح العميق المركز يسحب ستارة سوداء ليضع أمام عين من يهتم -دون حيثيات- بالنتائج فقط.. مسحا جد مركز لمأساة عشق خرج من بيدائه بقلب غير مراح لعمق الجراح.
وتصبح الأشياء كلها سواء


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.