منذ ظهور حكاية «سندريلا» للمرة الأولى، والتقاط الجمهور لها بصفتها حكاية اطفال تُسَرِّي عنهم قبل النوم، اذ تحكيها لهم الأمهات درساً في الإنسانية والأخلاق، وهذه الحكاية الحاملة ألف دلالة ودلالة تفتن الصغار، لكنها لم يفتها بين الحين والآخر ان تفتن الكبار أيضاً. وفي اطار الافتتان الأخير، الذي يستند إلى باطن ما في الحكاية من أبعاد سيكولوجية واجتماعية، وربما طبقية -مضمَّنة- أيضاً، صِيرَ دائماً إلى اقتباس هذه الحكاية في انواع أخرى من الفن، غير الفن المكتوب. وهكذا، شاهدناها ممسرحة، وفي السينما، وفي الفن التشكيلي، لكننا شاهدناها واستمعنا إليها أيضاً مموسقة، وأحياناً في شكل متتابعات سيمفونية، وأحياناً في شكل أوبرا. ومن المؤكد ان «سندريلا» حققت في الموسيقى نجاحها الأكبر، حين ظهرت في شكل اوبرا، لا سيما حين اشتغل عليها الإيطالي الكبير جاكومو روسيني ووضع لها تلك القوالب الموسيقية الرائعة التي لا تزال حية حتى ايامنا هذه، تشي كم أنَّ في مقدور ثنايا هذه الحكاية ان تقدم من الأحاسيس ومجالات التفاعل الذاتي مع عمل يبدو للوهلة الأولى شديد البعد من الذات. لم يكن روسيني أولَ من فكّر بتحويل حكاية «سندريلا» إلى أوبرا، اذ سبقه إلى ذلك ثلاثة من المؤلفين الموسيقيين الذين كان كل منهم شهيراً في زمنه وعلى طريقته، لكنهم جميعاً افتقروا إلى ذلك القدر من العبقرية الموسيقية الذي تمتع به روسيني: ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ظهرت أوبرا بالاسم نفسه للفرنسي جان-لوي لارنيت (1731- 1792)، وفي العام 1810 قدم في باريس العرض الأول لأوبرا بالاسم نفسه لحّنها نيكولا ايزدار (1775- 1818)، وقبل ذلك بعام كانت قدمت في مدينة سانت بطرسبورغ (روسيا) أوبرا «سندريلا» لدانييل شتيربرت (1765- 1823). غير ان تلك الحكاية كان عليها ان تنتظر العام 1817 قبل ان تجد معادلها الموسيقي الكبير، حين قدّم روسيني أوبراه للمرة الأولى في روما، انطلاقاً من نص كتبه جاكوبو فيريني. وكانت أوبرا «سندريلا» ثاني عمل كبير يكتبه روسيني لهذا الفن، الذي يُعتبر دائماً فناً إيطالياً بامتياز، وكانت أوبراه السابقة «حلاق إشبيلية» حققت نجاحاً كبيراً دفع بصاحبها إلى الذروة. ومن هنا، حين قدم «سندريلا» كان الجمهور في انتظاره، متلهّفاً للتعاطي مجددا مع موسيقي أثبت جدارته، وخفة ظله، ومعرفته بكيفية التعاطي السيكولوجي مع شخصيات اعماله والمواقف التي تمر بها تلك الشخصيات. على يد روسيني جاءت حكاية سندريلا ميلودرامية الطابع، لا تخلو من لحظات المرح طوال الفصلين اللذين قسم الفنان الأحداث عليهما. فهو هنا، وكما سبق ان فعل في «حلاق إشبيلية»، حتى وإن كان البناء لديه جاء هذه المرة -أي في «سندريلا»- اضعف منه في الأوبرا الأولى، لم يفته ان يركز على الطابع الهزلي-الدرامي للعمل. ولعل ما أجبر روسيني على هذا هو ان النص الذي لحنه خلا اصلاً من الأحداث الخابطة، التي يمكن ان تعطي الملحن مجالاً للإبداع والتصعيد، فإذا أضفنا إلى هذا عدم تركيز النص على الأبعاد التي يمكن ربطها بالعديد من الشخصيات الثانوية -ما كان من شأنه ان يضفي على البعد الدرامي تنويعات تلاحق تنوع الشخصيات- يمكننا ان نفهم «المعجزة» الصغيرة التي تمكَّنَ روسيني من تحقيقها، اذ اشتغل على نص فقير فأضاف إليه غنى ما بعده من غنى. وما لا شك فيه، ان روسيني استغل إلى ابعد حدود الاستغلال، تلك العبارة التي كانت الحكاية تحملها في الأصل كعنوان ثانوي: «انتصار الطيبة»، ما جعله يركز في موسيقاه كلها، لا سيما في التوزيع الأوركسترالي في المواقف الدرامية، على نغمات حنون تسرّ بمكنونات فؤاد بطلته الصغيرة، ومن ثم بمكنونات صدر الأمير حين يقع في غرام فاتنته الغامضة ويبدأ رحلة البحث عنها. ومن الواضح ان روسيني، اذ ضمن موسيقاه الجانب الميلودرامي، عبر الألحان التي اشتغلها بالترابط مع هاتين الشخصيتين: سندريلا وأميرها، التفت إلى الجانب الهزلي، ليؤمّنه بفضل شخصيتين على الأقل، أتت كل الألحان المتعلقة بهما لتذكرنا بأجمل لحظات «حلاق إشبيلية»: شخصية دون ماغنيفيكو، والد سندريلا المبتذل، الذي غالباً ما نراه يتواطأ بخسة مع أختيها ضدها، وشخصية الوصيف دانديني، الذي ارسله الأمير دون روميرو ليبحث له عن فتاته الضائعة. وعلى هذا النحو المبتكر، الذي ابتعد فيه روسيني بعض الشيء عن الجانب «الطفولي» في النصّ الأصلي، كما ابتعد عن الجانب الأكثر جدية، والذي كان يمكن ربطه بالبعد السيكولوجي للشخصية المحورية (سندريلا)، ليدنو اكثر من جانب ما كان في إمكان الحكاية الأصلية ان تؤمنه، ونعني به هنا جانب «الكوميديا ديلاّرتي»، الذي كان اصلاً من السمات التأسيسية للمسرح الهزلي على الطريقة الإيطالية، وهو جانب كان روسيني اصلاً قد خاضه ناقلاً اياه من عالم المسرح -المسرح الموسيقي على وجه الخصوص- إلى عالم الأوبرا، ولا سيما في اوبراه الأشهر والمبكرة «حلاق إشبيلية». وفي هذا المعنى، يكون روسيني قد قدّم افضل مساهمة واضحة الملامح والأبعاد في مجال المزاوجة بين المسرح الهزلي والأوبرا، وتحديداً في عمل (هو «سندريلا») ما كان يمكن ان يخطر في بال احد من قبل أنه قابل لاحتواء مثل تلك المزاوجة، وبتحديد اكثر: في عمل ما كان يبدو اصلاً صالحاً لا ليكون عملاً اوبرالياً، ولا عملاً ينتمي إلى «الكوميديا ديلاّرتي». غير ان هذه اللمسات الروسينية الفنية الخالصة والتجديدية، باعتراف كبار النقاد والمؤرخين، تظل ثانوية الأهمية في مقابل التجديد الأسلوبي والانقلاب المسرحي في الموضوع، اللذين حققهما روسيني في مجال تفسيره لشخصية سندريلا، موسيقياً على الأقل. سندريلا هنا ليست فقط ضحية بائسة متواضعة، تدفع طيبتها الآخرين، بل حتى القراء، إلى النظر إليها على انها حمقاء حقيقية، بل هي فتاة ماكرة في الوقت نفسه، إذ اننا نكتشف ذات لحظة انها تعرف حقوقها، وأن في امكانها ان تكون هي الأخرى ساخرة من الآخرين، لا سيما حين يتبين لنا مدهوشين -اذا كنا من قراء الحكاية الأصلية واتخذنا لأنفسنا صورة معهودة لسندريلا-، أن هذه المراهِقة المظلومة تعرف الكثير عن جشع اهلها ومخاتلتهم، وأنها لئن كانت قد صمتت كل ذلك الزمن عن ذلك، فلأنها تعرف ان ساعة عتقها ومكافأتها آتية لا محالة. والحال ان ادراكنا هذا وسط عرض الأوبرا، يضفي على الحكاية كلها معاني اخرى لا تكون اصلاً في البال. وما لا شك فيه هو ان روسيني عرف كيف يرسم هذا كله في موسيقاه، وكذلك في اختياره نوعية اصوات ممثليه-مغنِّيه الرئيسيين، ثم خصوصاً في تلك اللحظات الحاسمة، حين تأتي الموسيقى من دون مغنّين، محاولةً ان تقدم شرحاً لما يحدث، ذلك ان روسيني يعمد هنا، كما كان دأبه وسيظل على الدوام، إلى تقديم موسيقى تفسيرية تضع متفرجه/ المستمع في قلب الحدث، ناقلة إليه ما يشاء من عواطف لعل افضل ما يقال عنها في مجال المدح، إنها لا تبدو لنا عواطف ميلودرامية، وذلك منذ اللحظة التي ندرك فيها -نحن معشر المتفرجين- أن سندريلا ليست تلك الحمقاء «البريئة» التي نعتقد، وبالتالي ندخل معها في لعبتها متواطئين فرحين بكل انتصار تحققه، متوجسين عند كل نكسة او تراجع لها، مع ايماننا المطمئن إلى انها هي التي سوف تفوز في نهاية الأمر. مهما يكن من هذا الأمر، وإن ظلت أوبرا «حلاق إشبيلية» هي الأشهر والأقوى بين اعمال روسيني جميعاً، فإن «سندريلا» التي لحنها وكان بعدُ في الخامسة والعشرين من عمره، تُعتبر واحدة من اجمل اعماله وأكثرها شفافية. ويرى كثر من النقاد أنها من الناحية الموسيقية البحتة، وبصرف النظر عن المضمون الذي يحمله العمل، تُعتبر فتحاً في عالم الأوبرا الكوميدية، حيث إن لحظات الانتقال فيها بين ما هو درامي وما هو هزلي بالكاد تبدو واضحة -موسيقياً-، وهو كان تجديداً في ذلك الحين سيسير كثر على هديه مقلِّدين روسيني (1792 - 1868)، لا سيما منهم الفرنسي ماسينيه حين لحن بدوره أوبرا «سندريلا» في العام 1819. [email protected]