في آذار (مارس) من العام 1860 قام الموسيقي الألماني فاغنر بزيارة زميله الإيطالي جاكينو روسيني في باريس حيث كان هذا الأخير يقيم ممضياً آخر أيامه بعد انتقاله من ايطاليا وطنه الى فرنسا التي تبنته واعترفت به أكثر كثيراً مما اعترف به الإيطاليون. حين زار فاغنر روسيني، كان يزوره كمعلم كبير من معلمي فن الأوبرا، وكمثال يحتذى في الإخلاص للفن وفن الموسيقى بشكل خاص. من هنا فإن فاغنر، الذي كان يقول دائماً ان اعظم حرية ينالها مؤلف الأوبرا، تكمن في ان يكتب نصوصه، او على الأقل يختارها بنفسه، معتبراً ان هذه حال روسيني، كانت مفاجأته كبيرة حين سمع هذا يقول له حرفياً، في معرض تبريره لبعض اعماله الضعيفة: «الحقيقة انني ابداً لم استمتع بأية حرية في اختيار النصوص التي بنيت عليها بعض الأوبرات التي كتبتها.. ذلك ان هذ النصوص كانت تفرض عليّ فرضاً من جانب وكلاء الأعمال. وآه كم كان كبيراً عدد المرات التي لم اكن اتلقى فيها سوى جزء يسير من السيناريو، ويطلب اليّ ان ابدأ التلحين فوراً، من دون حتى ان يروي لي احد ماذا سيحدث بعد ذلك؟ كان الأمر بالنسة اليّ ان عليّ ان اطعم والدي ووالدتي وجدتي! وهكذا، كنت كالبدوي، اتنقل من مدينة الى مدينة واكتب ثلاث او اربع اوبرات في العام الواحد. وصدقني يا عزيزي اذا قلت لك ان هذا كله لم يوفر لي ابداً، ما يمكنني من ان اعيش عيش السادة الكبار». هذا الكلام كان فاغنر نفسه هو الذي نقله عن روسيني، وجاء ذكره في نص كتبه المؤرخ ميكوتي في كتاب عنوانه «زيارة فاغنر الى روسيني». طبعاً، كما قلنا، كانت مفاجأة فاغنر كبيرة. وهنا تكمن مفاجأة اخرى... كيف فوجئ هذا الموسيقي الكبير؟ ألم يكن، وهوالضليع في الشعر والرواية وفن الأوبرا، وعلم الموسيقى بشكل عام، قد لاحظ تهافت نصوص العديد من اعمال زميله؟ وألم يكن قد لاحظ ذلك التفاوت الكبير بين موسيقى يكتبها روسيني فتبدو خارقة ينتج منها اعمال اوبرالية كبيرة وبين مواضيع هذه الأوبرات؟ الحقيقة ان هذا الواقع يقودنا دائماً الى ذلك الموضوع المثير للسجال: هل يمكن لفن كبير ان يطلع من مقدمات تافهة؟ بالنسبة الى فاغنر كان هذا مستحيلاً. والدليل اعماله نفسها: اوبرات كبيرة بموسيقى كبيرة، انطلقت من نصوص شعرية متميزة. بيد ان روسيني، اكّد النظرة المقابلة: بلى... يمكن لفنان حقيقي ان ينطلق من نصوص ساذجة، ليحقق اعمالاً كبيرة. والدليل على هذا بعض اعماله! فالحقيقة اننا اذا اخذنا، مثلاً، اوبرا «تركي في ايطاليا» لروسيني (1814) وحاولنا ان نفهم موضوع هذه الأوبرا سنجدنا امام عمل سخيف جداً، من النوع الذي يمكن ان يقدمه أي فريق مسرحي في مسرح شعبي، امام جمهور لا يهمه لا الحبكة ولا الموضوع، بل تلاحق الأحداث. ومع هذا لنجرب ان نستمع الى مقدمة هذه الأوبرا... بل حتى كل موسيقاها من الفها الى يائها.. عند ذلك سنجدنا امام موسيقى كبيرة، ما يؤكد ما قاله روسيني لفاغنر. والمؤكد ان «تركي في ايطاليا» عمل ما كان له ان يوجد، وما كان لروسيني ان يكتبه لولا النجاح الكبير الذي كان حققه قبل عام من ذلك عمل كبير له هو «ايطالية في الجزائر» . فروسيني كان وضع هذه الأوبرا في العام 1813 - ايضاً بناء لطلب من وكيله - ولم يهتم بالنص أو بالحبكة ابداً. بالنسبة اليه كانت هناك فرصة لكتابة اوبرا يحقق فيها بعض رغباته الموسيقية بأن يكتب مثلاً ألحاناً «متوسطية» أي تجمع قواسم مشتركة بين ضفتي المتوسط. وهو فعل ذلك حقاً، ما جعل ألحان «ايطالية في الجزائر» مزيجاً خلاقاً من روحي الشرق والغرب، تتدفق عبره حيوية هذا البحر المتوسط، في اعلان صارخ وجدّيّ عن وحدة الفنون من حول المياه الزرقاء الدافئة الطيبة. ولقد كان من شأن النجاح الكبير، الفني ولكن السياسي ايضاً، الذي حققته «ايطالية في الجزائر» ان اندفع الوكلاء الفنيون راغبين في الاستفادة من النجاح، عبر الطلب الى روسيني ان يعيد الكرة، ولكن هذه المرة عبر موضوع معاكس: لن نأخذ الأوروبية الى «الشرق»، بل سنأتي بالشرق الى اوروبا. وبعد هذا هل يهم حقاً ما سيكون عليه الموضوع؟ وقيمة النصوص؟ وصدقية الحبكة؟ وتطور الشخصيات؟ على الإطلاق... وهكذا كتب فيلتشي روماني النص خلال اسابيع قليلة. وأعطي النص الى روسيني، لينجزه هو الآخر بعد اسابيع قليلة، ليقدم العمل في آب (اغسطس) من العام 1814، في وقت كان الجمهور العريض لا يزال متلهفاً لمشاهدة «ايطالية في الجزائر». وهو نفسه كان الجمهور الذي كان في ذلك الحين يؤمّن النجاح لكل عمل فني يحتوي شخصيات شرقية او مسلمة... لأن الأمر كان على الموضة، بعد سنوات قليلة من حملة نابليون على مصر، وبدء اكتشاف «الشرق» على الطريقة الغربية. و «الشرق» هنا في هذا العمل الملوّن الصاخب تمثله سعيدة، البوهيمية التي تعيش الآن في نابولي بعد ان فرّت من حريم تركي، كما يمثله سليم، الأمير التركي الذي كان في الأصل صاحب الحريم الذي هربت منه سعيدة، وها هو الآن يقيم لفترة في نابولي، حيث ارتبط بعلاقة مع سيدة ايطالية حسناء هي فيوريلا... الشخصية النسائية الرئيسية في الأوبرا. وهنا اذا كنا قد ذكرنا هذه الشخصيات الثلاث التي تمثل لب هذه الحكاية، هل سيصعب علينا، حقاً، تصور بقية الأحداث، وكيف ستبدأ هذه الأوبرا وكيف ستنتهي؟ حسناً... سنسردها على اية حال: تبدأ اوبرا «تركي في ايطاليا»، في معسكر للغجر البوهيميين في نابولي، حيث يطالعنا منذ البداية الشاعر بروسدو سيمو، الذي يجول في المكان بحثاً عن مصدر الهام يعطيه فكرة ينطلق منها لكتابة كوميديا جديدة كلف كتابتها. وهو يلتقي هنا في المعسكر الثري جيرونيو، الذي سرعان ما سيتبين له ان البوهيمية سعيدة قد اسرّت اليه بأن زوجته الحسناء فيوريلا تخونه.. وبالفعل ما ان عاد جيرونيو الى منزله ذات مساء حتى وجد زوجته مع الأمير التركي سليم. وإذ لا تكتفي سعيدة بما كشفته وما يحدث... ها هي الآن تتنكر في زي فيوريلا لتنتظر سليم وقد قررت بينها وبين نفسها ان تعقّد حياة الجميع. ولكن فيما سعيدة على تلك الحال، تصل فيوريلا الحقيقية الى المكان برفقة زوجها جيرونيو... ويشتبك الجميع مع الجميع كل يتهم الآخر بالمخادعة والكذب. لاحقاً يخطط سليم وعشيقته فيوريلا للهرب من المدينة معاً، مستغلين اقامة حفل تنكري.. غير ان الشاعر بروسدو سيمو، اذ استطاب اللعبة ورأى ان مزيداً من التعقيد سيخدم مصادر وحيه، يعرف كل شيء عن مخطط العشيقين، فلا يكون منه الا ان يخبر الزوج المخدوع بالأمر... فيما تصل سعيدة بدورها الى الحفل، وقد راحت تتنكر حيناً موحية بأنها سليم، وحيناً موحية بأنها فيوريلا. وتتعقد اللعبة ويسود العراك بين الجميع من جديد، وتتوالى الخبطات المسرحية، حتى اللحظة التي يكون فيها الكل قد وصلوا الى المكان عينه وراحت تنكشف خيوط اللعبة التي تشارك اصلاً، في حياكتها سعيدة وبروسدو سيمو، وهنا ازاء انكشاف كل شيء نشهد قرب مياه البحر مصالحة عامة وسط الموسيقى والغناء، ويستعيد سليم سعيدة، ويعود الزوج الى زوجته وقد نسيا كل ما حدث. اما الشاعر فإنه بدوره يذهب سعيداً: لقد اكتمل الموضوع الذي كان يبحث عنه، وصار في وسعه الآن ان يكتب مسرحيته. انطلاقاً من هذه الحبكة التي لا معنى لها على الإطلاق، وكان من شأنها الا تجتذب أحداً لو قدّمت - كما يليق بها - على مسرح البوليفار، تمكّن روسيني من ان يكتب الحاناً، لا تزال حتى اليوم حية وقوية - ولا سيما منها لحن المقدمة - تبرر وحدها، دون أي شيء آخر، نجاح هذا العمل. وهكذا كان دأب هذا الفنان، الذي كتب طوال حياته التي امتدت ستة وسبعين عاماً (1792-1868) عشرات الأوبرات: يصنع شيئاً من لا شيء همه الأساس ان يعيش وأن يكتب، خلال عيشه، اعمالاً موسيقية كبيرة. ومن بين ابرز هذه الأعمال، كما نعرف «حلاق اشبيليا» و«سندريلا» و«فتاة البحيرة» (عن قصيدة والترسكوت المعروفة) و«قورش في بابل» و«ويليام تل» و«سلّم من حرير» و«سميراميس». [email protected]