كان يمكن روسيني ان يستعين بالنص الشعري التمثيلي الرائع الذي كتبه فردريك شيلر عن حكاية «ويليام تل» ليحوله الى تلك الأوبرا التي كانت خاتمة حياته الأوبرالية، لكنه لم يفعل، بل فضل ان يستعين بنص ثانوي الأهمية من ناحية قيمته الشعرية، وضعيف الحبكة من حيث قيمته الدرامية، كتبه بالفرنسية فكتور اتيان، عن الشخصية نفسها، شخصية ويليام تل. استعان روسيني بهذا النص ولحنه، وكان يلعن الساعة التي اختاره فيها وراح يعدله احيانا بشكل جذري. ووصل به الأمر أيضا الى ان يلجأ الى كاتب آخر لإبدال فقرات وعبارات بأسرها. وفي النهاية انجز العمل، وكانت النتيجة على أي حال، واحدةً من أفضل الأوبرات التي كتبها جياكومو روسيني في حياته -هو الذي كتب عدداً كبيراً من الأوبرات-، وعملاً استثنائياً في مساره. وكان من شأن استثنائية هذا العمل ان ملحنه الكبير قرر من بعده ان انجازه الأوبرالي قد اكتمل وانه لن يعود الى كتابة أي أوبرا بعد ذلك. وكان هذا هو ما حدث بالفعل، فكانت أوبرا «ويليام تل» واحدة من تلك الأعمال التي يختتم بها مؤلفوها مرحلة من حياتهم، ويشعرون انهم قالوا فيها كل ما تبقى لهم ان يقولوه في مجال معين، فإن جرأوا بعد ذلك وواصلوا، لن يتمكنوا ابداً من بلوغ مستوى مرضٍ. أوبرا «ويليام تل» هي واحد من تلك الأعمال الوطنية التي ستصاغ على نمطها، كتابة ولحناً، أعمال أوبرالية كثيرة كتبت في القرن العشرين وحملت سمات «العمل البطولي». وذلك بالتحديد لأنها -حتى خارج اطار قيمتها الموسيقية البحتة- أتت لتتحدث عن شعب تاق الى حريته واستقلاله فكان له ما أراد، بكفاحه -كما يقول العمل- ولكن ايضا بفضل تلك البطولة الفردية التي كانت تمثل في ذلك الحين آخر ما تبقى من بقايا النزعة الرومانطيقية التي كانت ترى في الفرد، غاضبا وثائرا ومتطلعا الى الأفضل، محركا لثورة المجموع، غير ان وجود هذه الإرادة الفردية في «ويليام تل» يجب ألا يحول بيننا وبين ان نرى في هذا العمل تمهيدا لنزعة بدت واضحة في بعض أعمال برتولد بريخت، في القرن العشرين، وفيها يجد «البطل» نفسه مساقاً الى أفعاله البطولية، ليس تحت ضغط عامل ذاتي ارادي، بل تحت ضغط ظروف خارجية تدفعه الى البطولة والفعل دفعاً. في أوبرا «ويليام تل» تقدّم لنا شخصية هذا البطل الشعبي السويسري، وهو يذرع الكانتونات، أيام النضال الوطني الذي كانت تخوضه الكانتونات السويسرية للتحرر من الاقطاعيين السائدين مرتبطين بالمحتل النمساوي. ويمثل هؤلاء السيد غيسلر الذي يتحكم بالعباد كما يشاء ويقمع انتفاضات الفلاحين. وتبدأ الأوبرا بفتى سويسري من أبناء الشعب هو أرنولد، المقيم في كانتون اوري قرب ألتفورد. وأرنولد مغرم بماتيلدا سليلة العائلة الحاكمة. وهذا الغرام يمنعه من مشاهدة حقيقة الاحتلال، حتى اللحظة التي يقترف فيها المحتلون فظائعهم فلا يكون من أرنولد الا ان ينضم الى الثورة مصرّحا لماتيلدا بأن الوطن، عنده، أهم من الحب. وفي الوقت نفسه يصل رامي السهام الشهير ويليام تل وابنه جيمي. وما ان يظهرا حتى يتكالب الجمع من حولهما اذ يعتقد انهما من الثائرين ويساقا الى مقام غيسلر الذي يعد ويليام تل بأن يعفو عنه ان هو وضع تفاحة فوق رأس ابنه جيمي وأصابها بالسهم. يتردد الأب، لكن ابنه يشجعه، ويصيب ويليام التفاحة بالفعل. ولكن في تلك اللحظة وإذ يستعد غيسلر للعفو عنه، يسقط سهم آخر من بين ثياب ويليام، وحين يسأله غيسلر عن الغاية منه يقول له وقد طفح الكيل: «كنت سأرميك به لو قتل السهم الآخر ابني». وعلى الفور يقبض غيسلر على ويليام تل، بينما تأخذ ماتيلدا الفتى جيمي تحت حمايتها. ولكن الأمور سرعان ما تنقلب على غيسلر، حين يروح أرنولد مجمّعاً الثوار الفلاحين في منطقة البحيرات، وقد قرروا ان يشنوا هجوما ساحقا على قلعة السيد، في وقت كان هذا على متن مركب يأخذه الى القلعة وفي رفقته اسيره ويليام تل. وفجأة تهب عاصفة عاتية يكاد المركب معها يغرق، فلا يكون من ويليام تل الا ان يمسك بالدفة منقذا المركب وركابه من الغرق. ويتمكن من ايصال المركب الى صخرة يتوقف عندها. وفي اللحظة نفسها يأخذ ويليام سهما ويردي به غيسلر قتيلا. ويعم الحماس الشعب الذي يحيط بويليام تل مادحا بطولته، في الوقت الذي تأتي فيه الأخبار مؤكدة ان الثوار قد استولوا على القلعة وان سويسرا قد تحررت من المحتلين. تعتبر أوبرا «ويليام تل» أفضل عمل كتبه روسيني في مجال الأوبرا الدرامية، كما تعتبر اوبرا «حلاق اشبيليا» أفضل ما كتب في مجال الأوبرا الهزلية. ولكن، لئن كان روسيني، بعد النجاح الكبير الذي حققته هذه الأخيرة، قد استشاط حماسا وانكب على المزيد من الكتابة للأوبرا، فإنه بعد «ويليام تل» صمت تماما عن كتابة الأوبرا، وظل صامتا عنها حتى رحيله في العام 1868، أي طوال نحو أربعين سنة، إذ ان «ويليام تل» قدمت للمرة الأولى في صيف العام 1829، فور انتهاء روسيني من كتابتها. ولكن لماذا صمت روسيني من بعدها؟ سؤال ظل على الدوام من دون اجابة، خصوصا وان روسيني كان حين ألف هذه الأوبرا الأخيرة، لا يزال في السابعة والثلاثين من عمره، وهو وضع العدد الأكبر والأهم من أعماله الأوبرالية، خصوصا، خلال ذلك القسم الأول من حياته، مفضّلا في القسم الثاني ان يعتزل في الدارة التي اشتراها لنفسه في منطقة باسي الفرنسية الراقية، مخلدا الى هدوء وكسل غريبين، سرعان ما اصبحا اسطوريين. والغريب انه حين رحل عن عالمنا في العام 1868 خلف ثروة طائلة نادرا ما قيض لموسيقي في زمنه ان يخلف مثلها. ومن المؤكد ان روسيني قد جمع تلك الثروة بفضل عمله الكثيف والغزير الذي انكب عليه خلال فترة شبابه، حيث كتب وعرض الكثير من الأوبرات التي، إذ لقيت اعجاب الجمهور وهواة الأوبرا في ذلك الزمن، لقيت في الوقت نفسه إعجاب كبار الموسيقيين الذين رأوا في روسيني استاذا لهم، ومن هؤلاء مواطنه الكبير فيردي وفاغنر وسوليفان ومندلسون، فهؤلاء جميعا، ولا سيما بعد «ويليام تل»، صاروا من زوار روسيني الدائمين واحيانا من مقلديه. ولد جياكومو روسيني العام 1792 في بيزارو بإيطاليا. وكان والده، الموظف في ادارة المسالخ في تلك المنطقة، يمضي أوقات فراغه في عزف آلة «الكور» مع أوركسترا الكنيسة. وهكذا حين نشأ روسيني الفتى وجد نفسه منقادا بشكل طبيعي ناحية الموسيقى، خصوصا وان امه كانت ايضا موسيقية. ومنذ طفولته راح روسيني يغني في جوقة الكنيسة. وكان الفتى في الثامنة عشرة حين ابدع عمله الأوبرالي الأول (مسرحية غنائية من فصل واحد عنوانها «وثيقة الزواج» قدمت في فينيسيا وأثارت اعجابا عاما)، ومنذ ذلك الحين، وحتى العام 1829، حين قدمت «ويليام تل» وتوقف بعدها، كتب روسيني عشرات الأعمال، من أهمها «الايطالية في الجزائر» و «حلاق اشبيليا»... وفي العام 1824 توجه روسيني الى باريس ليعمل في بلاط الملك شارك العاشر. وهو منذ ذلك الحين استوطن فرنسا، وعمل فيها. قبل ان يرحل... وهو في قمة مجده وكسله. [email protected]