بعد ستة أشهر من اندلاع الاحتجاجات في تونس، بات العالم العربي مكاناً مختلفاً. فالدعوات الشعبية إلى التغيير دوّت من المغرب إلى اليمن. وفي الأنظمة الجمهورية، إثنان منها دخلا إلى مرحلة انتقالية إلى الديموقراطية وثلاث تصارع من أجل بقاء النظام؛ هذا في حين تتدافع الملكيات إلى رص الصفوف ومحاولة إبقاء موجة التغيير بعيداً من شواطئها. مصر، وبكونها أكبر وأكثر البلدان أهمية في العالم العربي، قد تكون المؤشر للمستقبل: فإذا ما نجحت في بناء ديموقراطية مستقرة ومتفتّحة، فإن هذا الأنموذج سيلقي بظلّه بقوة على باقي العالم العربي. لكنها إذا ما تعثّرت وفشلت، فإن موجة الدمقرطة قد تنقلب على أعقابها لمصلحة قوى سلطوية ومُحافظة. البعض قارن حالة مصر بوضعية بولندا في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، حيث إن نجاح هذه الأخيرة سهّل في خاتمة المطاف التحوّل الديموقراطي لمعظم بلدان أوروبا الشرقية والوسطى. ولو أن انتفاضة حركة «تضامن» البولندية فشلت، لكانت أوروبا الشرقية والوسطى مكاناً مختلفاً للغاية الآن. في زيارة حديثة لي الى مصر، شعرت بالثقة بأنه على رغم التحديات الكثيرة والكأداء، يبدو أن بلاد النيل تسير قدماً نحو إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية ذات صدقية، ونحو صوغ دستور جديد. بالطبع، الانتخابات والدساتير لا تمثّل الحصيلة النهائية للديموقراطية، لكنها مع ذلك عناصر اساسية. ثم إن مستوى الاعتزاز والاعتداد والالتزام بالأهداف الديموقراطية التي صدحت بها ساحة التحرير، أصبحت جزءاً من الهوية الوطنية في مصر اليوم، ويُحتمل أن يكون لها تأثيرات قوية طيلة سنوات عدة مُقبلة. صحيح أن الجيش سيواصل ممارسة نفوذ قوي في مصر الجديدة، وكذا الأمر بالنسبة إلى شخصيات من السياسيين ورجال الأعمال المرتبطين بالنظام القديم، إلا أن هؤلاء سيتفاعلون ويتنافسون على النفوذ في نظام سياسي أكثر انفتاحاً، وتعددية، وأكثر خضوعاً إلى المساءلة. في تونس، مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية تبدو أيضاً على الطريق القويم، على رغم الخلافات حول موعد إجراء الانتخابات المقبلة وبعض التباينات في صفوف القوى السياسية في البلاد. بيد أن الانتخابات ستمضي قدماً وستؤدي إلى صوغ دستور جديد قبل إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة أخرى وإقامة نظام سياسي جديد في البلاد. في مصر كما في تونس، التحديات قد تكون في الواقع اقتصادية أكثر منها سياسية. فكلا البلدين يُواجه مشاكل هبوط معدلات الاستثمار والسياحة، فيما إنفاق الحكومتين يتزايد لتلبية الحاجات الاجتماعية للناس. هذا إضافة إلى أن السياسة الاقتصادية الجديدة والتعافي الاقتصادي القوي سيحتاجان إلى سنتين أو اكثر كي يُقلعا. وفي هذه الأثناء، تُواجه الحكومتان عجوزات كبيرة في الموازنة وطلبات واسعة على الوظائف والنمو الاقتصادي. ولذا، التعهدات بالدعم من جانب الأسرتين الدولية والعربية جاءت في وقتها تماماً. فقد وعدت مجموعة الثماني الكبار بتقديم 20 بليون دولار في صيغة قروض، وسيوفّر صندوق النقد الدولي أكثر من 35 بليون دولار في شكل قروض جديدة إلى الدول المستوردة للنفط في الشرق الأوسط، وسيعرض البنك الدولي 6 بلايين دولار لدعم الموازنات ومشاريع المساعدات في مصر وتونس. هذا إضافة إلى تمويل إضافي من بنك التنمية الإفريقي. ويأمل المصرف الأوروبي لإعادة البناء والتنمية بمباشرة استثمار نحو 5,3 بليون دولار في المنطقة، فيما وعدت قطر بتقديم مساعدات بقيمة 10 بلايين دولار إلى مصر، كما وعدت السعودية ب4 بلايين دولار. وهكذا، وبقدر مناسب من القيادة الحكيمة، قد تكون كلٌ من مصر وتونس قادرتين على موازنة الانتقال السياسي بوتيرة معقولة من النمو الاقتصادي، ما يُعزز جاذبية نموذجهما للدول الأخرى. في ليبيا واليمن وسورية، رياح التغيير تهب بعنف. وعلى رغم أن العقيد القذافي قد يتمكّن من الصمود لبعض أشهر أخرى أو أقل، إلا أن ليبيا الجديدة ستتشكّل في خاتمة المطاف من دونه. وهي ستستند إلى اتفاق شعبها الذي لن يقبل، على رغم تعدديته القبلية والمناطقية، إلا بإطار موحّد وديموقراطي لنظامه السياسي الجديد. وفي اليمن، تم بالفعل التفاوض على إطار مرحلة الانتقال، و «الإخلاء الصحّي» للرئيس علي صالح من البلاد قد يوفّر السيناريو لمثل هذه الخطوة. وفي سورية، فشلت محاولة إخماد الاحتجاجات بالقوة، ويبدو أن أجزاء من البلاد بدأت تخرج عن سيطرة النظام. ولذا، حتى أقرب أصدقاء سورية المقربين باتوا ينصحونها بالدخول في مفاوضات سياسية مع المعارضة حول عملية انتقال جدّية، بعيداً من الديكتاتورية السلطوية ونحو نظام سياسي أكثر ديموقراطية وانفتاحاً، وإلا فقد يواجه النظام حرباً أهلية أو انهيار الدولة. في عرين الجمهوريات السلطوية كانت الجزائر فقط، بما تملكه من عائدات النفظ والغاز الضخمة، قادرة على تدبّر أمر الاحتجاجات بكوكتيل من الإنفاق العام والاصلاحات الجزئية او الموعودة. لكن حتى في الجزائر، قد تتحرّك الاحتجاجات مجدداً بعد أن يهدأ غبار البركان الليبي. أما السودان فهو غارق حتى أذنيه في صراعاته الداخلية بين الشمال والجنوب حول موارد النفط عشية الاستقلال الفعلي للجنوب الشهر المقبل، ولذا لا يبدو (حتى الآن على الأقل) أنه تأثّر كثيراً بموجة التغيير. على صعيد آخر، من سوء الحظ أن بلداناً عربية تتمتع بقدر من الديموقراطية، على غرار العراق ولبنان، غاطسة في مستنقع الانقسامات الطائفية والإثنية ولم تكن قادرة على لمّ شعث حكومة فعّالة. بالفعل فقد منح هذان البلدان الديموقراطية سمعة سيئة، ولذا نأمل أن تكون النماذج في مصر وتونس، ونظراً الى وجود مستويات اعلى من الوحدة الوطنية، أكثر توفيقاً. ماذا الآن عن الأنظمة الملكية؟ لقد كان لموجة التغيير تأثير كبير، وإن سلبي، على الملكيات في المنطقة. فمجلس التعاون الخليجي تحرّك بسرعة لإخماد حركات الاحتجاج في البحرين، وعرض على الأردن والمغرب العضوية فيه، في ما اعتبره الكثيرون محاولة لمنع الانزلاق نحو الملكية الدستورية. والأرجح الآن أن ينضم الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي، بما سيتضمنه ذلك من مضاعفات على مدى ومضامين الإصلاح فيه. اما انضمام المغرب فهو امر اكثر تعقيداً، بخاصة حين نضع في الاعتبار البعد الجغرافي عن منطقة الخليج، وروابطه بأوروبا وبلدان أخرى في إفريقيا الشمالية. ثم إن ملك المغرب وعد بالفعل بإدخال إصلاحات دستورية عميقة في خطابه في آذار/مارس الماضي وبعرض الإصلاحات على استفتاء وطني في المستقبل القريب. قبل مقدم السنة المقبلة، سنشاهد إفريقيا شمالية مختلفة تماماً تتبرعم فيها ديموقراطيتان جديدتان في مصر وتونس، وتبرز مرحلة انتقالية محتملة إلى الوحدة والديموقراطية في ليبيا، ويحدث تطوّر دستوري في المغرب. وفي المشرق العربي، سيتوسّع مجلس التعاون الخليجي ليشمل الأردن، لكن اليمن وسورية قد تبدآن الانتقال إلى مرحلة ما بعد الأنظمة السلطوية، فقد تنضمان بالتالي إلى العراق وتركيا ولبنان كبلدان تتحرّك إلى ما بعد الحكم السلطوي. إن مجلس التعاون الخليجي قوة اقتصادية جبارة للمنطقة، لكنه أطلّ حتى الآن في شكل سلبي على مطالبات مواطنيه بمزيد من المشاركة. بيد أن بلدان المجلس تُعاني هي الأخرى من مشاكلها الخاصة، حيث لا يزال الكثيرون يعيشون تحت خط الفقر، ويتوالى تقلّص الطبقة الوسطى، وتبرز معدلات عالية من الفساد. هذا علاوة على بروز نسبة مرتفعة من جيل الشباب المنخرط بعمق في تطلعات وآمال الربيع العربي. وبالتالي، فإن السماح بحريات أوسع ومشاركة سياسية أكبر سيُعزّز بدل أن يضعف استقرار دول مجلس التعاون الخليجي، ويسمح بمساءلة وشفافية أكبر، ما يؤدي إلى نمو اقتصادي اكثر سرعة وثباتاً. بعد ستة أشهر من فعل الشهادة، يستطيع محمد بوعزيزي أن يشعر بالرضى لأن تضحيته أثمرت وأينعت. فروح التغيير أيقظت المواطنين وحفّزتهم على التحرّك في طول المنطقة وعرضها. لذلك، فلنأمل بأن يختار مزيد من القادة السير قدماً نحو التغيير والإصلاح، بدل التعرّض إلى مخاطر الوقوف في وجههما. * مدير مركز كارنيغي للشرق الاوسط - بيروت