بعد مرور عام على الربيع العربي، تسير مناطق الشرق الأوسط في اتجاهات متباينة. ففي شمال إفريقيا، تتحرّك مصر وليبيا وتونس في مرحلة انتقالية نحو الديموقراطية، فيما يسير العراق وسورية في المشرق، وكذلك حليفتهما إيران، نحو مجابهات داخلية وخارجية خطيرة. وعلى أطراف العالم العربي، يحاول المغرب والجزائر استيعاب موجة التغيير من ضمن الأنظمة القائمة، في حين أن مجلس التعاون الخليجي اخمد الانتفاضة في البحرين، واستوعب المطالب في دول المجلس الخمس الأخرى، وأدار عملية الانتقال المضطربة في اليمن متفادياً ثورة كاملة أو انهياراً كلّياً هناك. وهكذا، يتضح أن الربيع العربي أدّى إلى مسارات مغايرة جدّاً في أنحاء مختلفة من العالم العربي والشرق الأوسط. تقود تونس اليوم المسيرة باتجاه التغيُّرات الإيجابية. فكانت هي الأولى التي انتفضت ضدّ الطغيان، والأولى أيضاً التي أجرت انتخابات حرة ونزيهة، مُدشِّنة المرحلة الانتقالية لما بعد الثورة إلى الديموقراطية. علاوة على ذلك، أن نموذج الحزب الإسلامي الذي يتبنى الاعتدال ويبني تحالفاً مع أحزاب وطنية وعلمانية، يمكن أن يكون مثالاً يُحتذى بالنسبة إلى أحزاب إسلامية أخرى. أما مصر، فهي تنتهج طريقاً مختلفاً بعض الشيء، لكنها هي أيضاً أجرت انتخابات ناجحة بعد الثورة، وأكدت جماعة «الإخوان المسلمين» المنتصرة في الانتخابات التزامها بضمان الحريات السياسية والمدنية والدينية. ويحتمل أن تكون الجماعة هي الحزب السياسي الأقوى في مصر خلال السنوات العشر أو العشرين المقبلة، وتتشارك في السلطة مع بعض الأحزاب الوطنية الأخرى ومع القوات المسلحة في صيغة حكم يهيمن عليه محور «الإخوان» - الجيش ضمن نظام ديموقراطي. وعلى أي حال، إذا نجح حزب «الحرية والعدالة»، المنبثق من جماعة «الإخوان»، في تطوير المهارات والإنجازات التي حققها حزب «العدالة والتنمية» التركي، فثمة فرصة أن تنجح مصر في تثبيت الانتقال إلى الديموقراطية وإطلاق عجلة النمو الاقتصادي. بعد زيارة أخيرة لي إلى ليبيا، عدت متفائلاً على رغم التحديات الأمنية والسياسية العديدة التي يواجهها هذا البلد. إذ يُرجَّح أن تنجح ليبيا، في نهاية المطاف، في التغلُّب على الإرث الثقيل ل 42 سنة من حكم القذافي وعلى الأوضاع المضطربة التي برزت غداة الثورة. لا ريب أن ثمة اختلافات قبلية وجهوية في ليبيا، لكن هذه الاختلافات طفيفة مقارنة بالانقسامات الطائفية والإثنية العميقة في المشرق. ثم أن ثمة هوية وطنية ليبية قوية رغم التنوع الداخلي، وشعوراً بالاعتزاز بالثورة التي أطاحت الطاغية، وإجماعاً واسعاً حول ضرورة التحرُّك نحو استيعاب الثوار وإجراء الانتخابات وصياغة دستور وبناء دولة ديموقراطية جامعة. بالطبع، إن عشرات آلاف الثوار المسلحين يفرضون أخطاراً أمنية جمة، لكن هؤلاء يريدون وظائف ومستقبلاً افضل لا صراعات وحرباً مفتوحة. والحكومة الموقتة هي الآن في صدد دمجهم في سلك الجيش والشرطة أو أن تعرض عليهم مجالات لاستكمال تعليمهم أو تأهيلهم. أما عائدات النفط الليبية فقد تكون نعمة تساعد على إعادة بناء المجتمع والدولة والاقتصاد، أو إذا أسيء استخدامها فقد تنقلب إلى نقمة وإلى فخ يفتح المجال أمام استشراء الفساد والصراعات الداخلية. وأخيراً، ليبيا تعيش جغرافياً في بيئة هادئة إذا قارنّاها ببيئة دول المشرق، حيث تحدّها مصر وتونس والاتحاد الأوروبي، وكل هذه الأطراف ليست في صراع في ما بينها وتريد أن ترى لبيبا موحّدة ومنطلقة نحو الديموقراطية والازدهار. هذا في شمال إفريقيا، أما المشرق فهو يتحرّك في اتجاه معاكس. فالنظام السوري في حالة حرب مع شرائح واسعة من شعبه، وهو رفض أي شكل من أشكال التغيير أو الحلول الوسط. كما أنه في حالة مواجهة مع تركيا ومعظم الدول العربية والغرب. وفي العراق، تحاول حكومة المالكي، غداة الانسحاب الأميركي، أن تستخدم بلايين البترودولارات المتراكمة والقوات المسلحة التي رعى بناءَها الأميركيون للتحرّك في خط سير معاكس لموجة الدمقرطة العربية، بهدف فرض نظام سلطوي جديد وإضعاف الشركاء السابقين في الحكم، من سنّة وأكراد. أما إيران، فهي تُواجه مروحة كاملة من التوترات، وقد تجد نفسها في عام 2012 أمام تحديات صعبة للغاية. ففي الداخل، لا تزال التوترات بين النظام وبين ملايين المواطنين معلّقة من دون حل بعد التظاهرات الصاخبة التي انطلقت العام 2009، كما لاتزال التوترات متفاقمة بين معسكر الرئيس أحمدي نجاد وبين سلطة مرشد الثورة علي خامنئي. ثم تأتي العقوبات الاقتصادية الدولية، التي أشعلت تضخماً جامحاً وفرضت صعوبات جمة على الشعب الإيراني، لتفاقم كل هذه التوترات الداخلية. أما خارجياً فإن برنامج إيران النووي يضعها على خط صدام عسكري محتمل مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل. هذا النمط من الانقسام الداخلي والنزاع الخارجي يحدد «قوس تأزّم» يمتد من إيران إلى العراق وسورية. مثل هذا القوس يتضمن في ثناياه أخطار نزاع إقليمي وحروباً أهلية داخلية، وهذا ما يجعل هذه المنطقة تقف على طرفي نقيض مع مسار التغيير الإيجابي في مصر وشمال إفريقيا حيث يسود نمط المصالحة الداخلية والتعاون مع الخارج. وفي هذا الإطار قد يُطرح السؤال حول ما إذا كان في وسع لبنان أن يكون جسراً للتناقضات بين نمطي هذين الجناحين من العالم العربي في العام 2012. في هذه الأثناء، تشق السعودية طريقاً مغايراً. فلأنها (ومعها شركاؤها في مجلس التعاون) قلقة من الفوضى التي تكتسح المشرق، وغير جاهزة للتكيُّف السريع مع المطالب الديموقراطية للربيع العربي، فهي عمدت إلى زيادة التقديمات الاجتماعية وشدّ التعاون في إطار مجلس التعاون، كما أنها نشطت لتدبُّر أمر انتقال مستقر نسبياً للسلطة في اليمن. والواقع أن شبه الجزيرة العربية تبرز الآن وكأنها منطقة شبه منفصلة في الشرق الأوسط لها خصوصيّتها ومناعتها وإدارتها الإقليمية. والتحديات الرئيسية التي تواجهها هذه الدول في المستقبل المتوسط تكمن في المضي في الإصلاح السياسي التدريجي إلى جانب المزايا والهبات الاقتصادية الكبيرة التي تستطيع هذه الدول النفطية أن تقدمها إلى مواطنيها. والأهم أنه يتعيّن على السعودية وبقية دول مجلس التعاون أن تفكر ملياً في كيفية إنقاذ اليمن من الغرق أكثر في لجج الهاوية، عبر دمجه في شكل أفضل في اقتصاداتها الغنية وفي مؤسسات مجلس التعاون. وكما أن ألمانياالغربية ساعدت على خلق الاستقرار في أوروبا الوسطى والشرقية بعد انهيار جدار برلين، يجب أن تكون السعودية ومجلس التعاون قادرة على المساعدة، على الأقل، على دمج اليمن ودفعه نحو الاستقرار. إن عام 2012 قد يكون صاخباً كما عام 2011، لكن، في حين أن عناوين 2011 غصّت بأخبار ثورات شعبية تدفع بلدانها نحو الديموقراطية، وبالأخص في منطقة شمال أفريقيا، قد تكون العناوين الرئيسية للأحداث في عام 2012 قاتمة وتشير إلى نزاعات داخلية وحروب إقليمية/دولية في محور المشرق العربي وإيران. ومع ذلك نلاحظ ونؤكد أن توق الشعوب، من تونس إلى طهران، هو واحد، وهو باتجاه الإصرار – عاجلاً أم آجلاً – على الإصلاح السياسي الذي يؤمّن كرامة المواطن وحريته وحقّه في تقرير مصيره. وهذا هو المسار التاريخي الذي عبّر عنه الربيع العربي وأعاد العرب للمشاركة في – لا بل في صنع! – التاريخ. * مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط - بيروت