لا يعرف أسلوب فان دونجين معنى للصمت أو الخواء والسكون، فهو فنان الصخب اللوني والموضوعات الأنثوية التي تضجّ بالحياة والشباب والصحّة الجنسية حتى حدود الشبق. الشفاه البركانية والصدور العامرة والعيون الأنثوية المتكحلة باتساع أجفان الشهوة. تبدو الخدود بلون الدم والشعور مقصوصة مثل الصبيان في الليل الحالك. أما تشريح الوجوه والقبعات والأكتاف العارية، فهي مسرح من تحولات انعكاس أضواء الليل المقزّحة. سواءً في الكاباريه أم ملاهي الليل أو البارات ومسارح رقص الكونكان والسيرك الشعبي، مهرجانات من الألوان الصريحة والصاخبة، هي التي تتصل بأسلوب ديفا (عن راقصات الباليه) وبموضوعات هنري تولوزلوتريك (عن العاهرات). هو ما يحيلنا إلى شراكته في فضيحة معرض صالون الخريف عام 1905 واتهامه مع ماتيس وديران وبراك وفلامنك بالوحشية. ولكنه في الواقع رهيب اللون والعاطفة والمجون على غرار فان غوغ. أما المعرض الحافل الراهن في متحف «الفن المعاصر لمدينة باريس» والذي تعانق جدرانه تسعين لوحة من أجمل أعماله، ناهيك عن الرسوم وقطع السيراميك وتصاميم الإعلانات، فيمثّل الوجوه المتعددة الخصبة لنشاطات هذا الفنان، ولكن اختيارات المعرض تخصصّت «بمرحلته الباريسية» أو بالأحرى بين عامي 1895 و 1930 والتي تمثل أغلب مسيرته وإقامته الفنية، ما بين حي الفنانين في باريس (مونمارتر) وباتولافوار، وحي مونبارناس. هذا يسمح بتجاوز المرحلة المتعثرة الأولى التي يمثلها نشاطه المراهق في بلد مولده «روتردام» في هولندا (بلد رامبرانت)، وتسمح بتجاوز مجاملاته للنازية خلال الحرب العالمية الثانية، هي التي تنضم إلى سقوط أسلوبه الوحشي الأصيل في الأسلبة والنمطية والأرستقراطية المتحذلقة بخاصة في مجال بورتريهات النسّاء زوجات الموسرين، بأجسادهن البالغة النحول والأناقة والمبالغة في الزينة والأكسسوارات الفضية والذهبية والأقراط والعقود والأساور المرصعة بالأحجار الكريمة الباهظة الثمن. لعل هدف المعرض في اقتطاعه هذه الفترة هو تثبيت هوية الفنان الباريسية أكثر من أصوله الهولندية، وتثبيت انتسابه إلى حركة الوحشيين اللونية التي كان يقودها هنري ماتيس. ماتيس كان إعجابه بالغاً بحدة التعّبير الإنفجارية في اللون عند دونجين. يستمر العرض حتى 17 تموز (يوليو). يمتاز دونجين (1877 – 1968) ليس فقط بمعيشته البوهيمية في باريس، وإنما أيضاً بكثرة أسفاره خارجها، يتردّد على هولندا بلده الأصلي وعلى مجون إيطاليا وعوالم إسبانيا التي استقى من صخبها اليومي عناصر مثل الشال والكاستانيت والأصابع النحيلة لراقصات الفلامنكو «الموريسك» الإستشراقية القريبة التي قادته إلى الإستشراق الأندلسي البعيد في بلاد المغرب العربي. نجده مثل صديقه بيكاسو يحاول أن يعثر على موازٍ للفنون البدائية. ولكنه في كل مرة يحتك فيها بتجربة وثقافة جديدة تزداد لوحته احتداماً، واشتعالاً بألوان إستشراقية أنثوية غير مسبوقة أو معهودة بطزاجتها ومجونها وسلوك فرشاتها الهذياني. ولكن النقاد يجدون أنه ابتداءً من العام 1910 أصبحت هذه البوهيمية قناعاً «للسنوب» والحذلقة باعتباره النموذج الاجتماعي والفوضوي اللاملتزم في آن واحد. هو ما يفسر إقامة محترفه بجانب الكاباريه الشهير «الفولي بيرجر» ثم عروض لوحاته في القصور الموسرة في غابات بولونيا التابعة لباريس وأغنياء فرنسا. هذا ما قاده إلى التخصص بتصوير نساء المجتمع المخملي: جميلات، أنيقات، نحيلات، يغرقن في الإكسسوارات البازخة. نساؤه مثل أسلوبه. فن لا يخلو من الإستفزاز. كان هو نفسه وسيماً مغرياً مطوقاً بعاشقات. ساحر يوقع في حبائله إناثاً من شتى الأصناف والطبقات. كان يحتفي بزهو المجتمع المتخم في وقت كان الشقاء يسيطر على شتى الطبقات. ابتدأ بنموذجه الأنثوي الأول (الآنسة أوليفييه)، في مجموعة لونية لا تخلو من العبقرية بعنوان «القبعة الزهر» عام 1907. لكن وجوهه منذ ذلك الحين لم تعد تملك البعد البسيكولوجي خارج أصوات ألوانه الصاخبة، التجديدية بالنسبة الى عصره. ولكنه بالنتيجة استطاع أن يقتنص نموذج المرأة في «سنوات الجنون» قبل أن يغطس في ثلاجة لوحاته وشخوصه المفتعلة. شخصيات لوحاته المتحذلقة شبه الإستهلاكية أخّرت حصوله على التقدير الذي يستحقه.