يكاد «الكاباريه» - كمكان - يكون في زمننا هذا، ومن بعض الزمن ايضاً، صِنْواً لبيوت الهوى، ونَدُرَ خلال السنوات الاخيرة أنْ قَبِلَ فنانون كبار بالغناء في الكاباريه... بل حتى من غير المستحب للعائلات او لعِلْيَة القوم الذين يحترمون انفسهم، ارتياد تلك الاماكن في المدن، حتى وإن زعموا انها يمكن ان تقدم فناً حقيقياً، غنائياً او راقصاً او استعراضياً. غير ان الامر لم يكن على هذا النحو دائماً... ففي أزمان باتت اليوم بعيدة بعض الشيء، وتحديداً قبل انتشار الفنون الجماهيرية الآلية، من سينما وتلفزة ووصول الفنون عبرها، وعبر الإذاعات من قبلها، الى كل البيوت، كان نوع معيّن من الكاباريهات يشكِّل الحيِّزَ الذي يقدَّم فيه جديدُ الفنون الاستعراضية والغنائية نفسه، مجتذباً زبائن محترمين، وأحياناً عائلات لا تتورع عن ان تقصد تلك الاماكن للتسرية عن نفسها. وبإمكاننا ان نرصد كيف ان الكاباريهات البرلينية، خصوصاً خلال الربع الاول من القرن العشرين، كانت الاماكن التي ولدت ونهضت فيها فنون احتجاجية وجدّية لعبت ادواراً اسياسية في تطوير المجتمعات، وحسبنا للدلالة على هذا ان نذكر كيف ان برتولد بريخت، اليساري وأحد كبار كتاب المسرح في القرن العشرين، كان الكاباريه مكانَ ابداعه المفضل، ولطالما شكلت اغاني الكاباريه جزءاً من اعماله التي احدث معظمها ثورات سياسية واجتماعية في الوقت نفسه. وما نقوله هنا عن الكاباريهات البرلينية، يمكن قوله ايضاً، وإنْ مع شيء من التحفظ، عن الكاباريهات الباريسية، التي كانت - ولا تزال حتى اليوم - تشكّل جزءاً اساسياً من سمعة باريس ومكانتها العالمية، حتى وان كان من غير الممكن اعتبارها، كلياً، أماكنَ فوق الشبهات. في باريس، كانت الكاباريهات، ولا سيما خلال ما يسمى بالعصر الذهبي، اي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، اماكن للهو والمجون، ولكنها كانت اماكن للغناء وللإلهام الفني أيضاً... إذ كانت الصورة فيها أشبه بمرآة لحياة بأسرها. ولأن في الحياة كل شيء قائم وموجود... كان يمكن أي شيء، بما في ذلك أعتى التناقضات، ان يوجد في الكاباريهات الباريسية. ويقيناً ان فناننا عميد المسرح العربي الكبير يوسف وهبي حين كان يقول: «ان الحياة لكاباريه كبير»، كان يفكر بتلك الكاباريهات الباريسية التي كان اشهرها - ولا يزال الى يومنا هذا - «المولان روج» (الطاحونة الحمراء). لكن يوسف وهبي لم يكن، بالطبع، الفنان الوحيد الذي استلهم الكاباريه الفرنسي - وتحديداً «المولان روج» و «الفولي بيرجير» إكسسوارياً - في اقواله ومواقفه، اذ ان هذا الاستلهام كان شغفاً فنياً يعود الى الظهور في كل حين من جديد. ولنتذكر ها هنا آخر العنقود: فيلم «مولان روج»، للاسترالي باز ليرمان، من بطولة نيكول كيدمان، قبل نحو عشرة اعوام. بيد ان كل هذا الاهتمام الفني يكاد يكون لا شيء بالمقارنة مع فن رسام فرنسي كرّس معظم ايامه ومعظم لوحاته وكل روحه لحياة الكاباريه، وللتركيز على ارتباط الكاباريه بالناس المحترمين ارتباطَه بالحثالة، في اعمال لا تزال خالدة مثيرة للدهشة الى ايامنا هذه... وذلك على رغم نبل اصله، اذ انه يتحدر من اسرة عريقة ما كان لأسلافه فيها علاقة بالفن... بل كانوا من اعيان البلد، اما هو، فإن اعتلال صحته وتشوّه جسده قاداه باكراً الى الكاباريه، فوجد حياة غير الحياة، وعثر على تعويض له على عاهاته. هذا الرسام هو هنري دي تولوز - لوتريك... طبعاً. باكراً، أُغرم تولوز - لوتريك بحياة الكاباريه في باريس، وفتنته نجومه وزبائنه، وسحرته أجواؤه العابقة بحيوية وتفاعل ما كان في وسعه أن يجد لهما أثراً حقيقياً في الحياة الطبيعية، بل إنه أدرك حقاً ان الكاباريه هو الممكن الذي تجتمع فيه الأضداد، وتثار الشهوات، وتتجاور المآسي والمهازل، والصفقات وحكايات الغرام، والنبلاء والأفّاقون، والنجوم والخدم، والبورجوازيون واللصوص، والكُتّاب وأبناء العائلات المدللون في بوتقة واحدة، وكأنه كان هنا في رسط حياة افتراضية تبدو اصدق من الحياة الحقيقية نفسها. وهو عبر عن هذا كله في عشرات اللوحات، ولا سيما في مجموعة من لوحات كانت حياة كاباريه «مولان روج» تحديداً عالَمَها. وإذا كان تولوز - لوتريك خلَّد لنا كل تلك الحياة وكل تلك الرؤى في العشرات من اللوحات، فإن ثمة، من بين هذه، لوحةً قد لا تكون الأهمَّ والأجمل، لكنها - في عُرْفنا - الأقدرَ على التعبير عن ذلك كله. وهذه اللوحة عنوانها، في كل اختصار «في المولان روج» رسمت في العام 1892، أي في عام خصب رسم فيه هذا الفنان المتيم نحو دزينة من لوحات تنتمي الى ذلك العالم نفسه، من دون أن تكون تنويعاً على مشهد واحد، بل ان ثمة في ما بينها اختلافات تعكس دينامية الحياة داخل الكاباريه وتنوع دراماتها ولحظاتها، وتعكس أيضاً تفاعل تولوز - لوتريك المتغير، تركيباً وشخصيات وألواناً، مع ما يشاهد ويعيش. لوحة «في المولان روج» المعلقة الآن في «معهد الفن» في شيكاغو الأميركية، يزيد عرضها قليلاً عن 140 سم كما يبلغ ارتفاعها 123سم... وهي ليلية الطابع داكنة اللون يشغل فيها زبائن الكاباريه، لا نجومها، المكانَ الرئيس، على عكس ما يحدث عادة في لوحات الرسام الأخرى حول هذا الموضوع. في هذه اللوحة، حرص الرسام في شكل خاص على تركيبية المشهد، من دون أن يهتم بأن يقدمه في مواجهة المشاهد. ومن هنا يدرك هذا الأخير منذ اللحظة الأولى أنه مدعوّ هنا الى لعب دور البصاص لا دور المتفرج الواضح، فالمشهد الذي يمثِّل عدداً من الزبائن متحلِّقين وسط الكاباريه تجالسهم امرأتان - من المحتمل أن تكون واحدة منهما جين آفريل، نجمة الكاباريه في ذلك الحين، والتي رسمها الفنان في لوحات كثيرة وفي ملصقات دعائية تعتبر اليوم تحفاً فنية -، يبدون - وعلى عكس ما هو متوقع من جلسة في كاباريه - غارقين في سجال حول أمر مهم، ولا يلتفتون أبداً الى مشهد راقص تؤدّيه امرأتان في خلفية الصورة، فيما أسى كبير يلوح على وجه الشخصية الوحيدة في اللوحة، والتي تبدو مهتمة بأن ثمة من يراقب هذا المشهد: المرأة الى يسار مقدمة اللوحة. والفنان، إمعاناً في إضفاء طابع التلقائية الفريد في عمله على هذه اللوحة، صوّرها من وراء طاولة رسمها مواربة وفي شكل يتوازى مع الخط الوهمي الذي يمتد من أعلى قبعة الرجل الواقف في خلفية اللوحة وصولاً الى ياقة السيدة التي تنظر الى الرسام. وهذا كله، اضافة الى الألوان البنية والبرتقالية والحشيشية الزجاجية، يضفي على هذه اللوحة طابعاً تجريبياً، انطباعياً، نَدُرَ ان دنا منه تولوز - لوتريك في أعماله التي كانت دائماً أكثر شفافية ومباشرة. وهو ما يجعل لهذه اللوحة سحرها الخاص في الوقت نفسه الذي عبَّرت فيه عن حياة الكاباريه. حين رسم هنري دي تولوز - لوتريك (1864-1901) هذه اللوحة كان يقترب من الثلاثين من عمره، لكن الأيام والأمراض والعاهات كانت صقلته وجعلته يبدو شيخاً عجوزاً، على رغم مرحه الدائم. ومن المعروف أن هذا الفنان الذي غلبت الحيوية وزهو الحياة على لوحاته وملصقاته، عاش حياة عذاب ومرارة، لكن ذلك لم يفقده ايمانه بالحياة ولا بالفن... ولا بالإنسان، وهو ما يبدو واضحاً في لوحاته، ولا سيما في هذه اللوحة التي يغني مشهدها عن أي شرح اضافي. [email protected]