أثارت تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما في شأن تعليماته الجديدة للتنقيب عن النفط في الولاياتالمتحدة، تساؤلات عن القلق الذي يعمّها في شأن إمدادات النفط. فأوباما أشار إلى أن ارتفاع أسعار النفط دفعه إلى السماح بالتنقيب عن النفط حتى في المناطق التي سبق حظر التنقيب فيها لأسباب تتعلق بالمعايير البيئية. ومعلوم أن الولاياتالمتحدة واجهت قبل أكثر من سنة كارثة بيئية نتيجة تسرب نفط من بئر معطوبة في خليج المكسيك ما جعل مناصري حماية البيئة يدعون إلى وقف التنقيب عن النفط وإنتاجه في البحر. أثبتت التجارب والأحداث أن إنتاج النفط من الآبار البحرية عملية محفوفة بأخطار ومؤذية للحياة البحرية وملوثة للمياه وقد تتسم بالاعتداء على البيئة. ولم يكن الحادث الأخير الأول بل سبقت ذلك حوادث في ألاسكا وغيرها. لكن النهم الاستهلاكي وتزايد الاعتماد على النفط كبديل أساسي لتوليد الطاقة، دفع إلى تغييب المعايير المتعلقة بحماية البيئة. ولا يقتصر الأمر، بالنسبة إلى قرار الرئيس الأميركي، على زيادة التنقيب عن النفط في المناطق البحرية بل ثمة مناطق مستهدفة في ألاسكا والوسط والجنوب المطلين على المحيط الأطلسي. وأدى ارتفاع أسعار النفط إلى زيادة حادة في أسعار البنزين المستخدم في وسائط النقل إذ اقترب سعر غالون البنزين العادي من أربعة دولارات. مؤكد أن ارتفاع سعر البنزين يمثّل هماً سياسياً في الولاياتالمتحدة ويشعر الأميركيون بأهمية المسألة، نظراً إلى تنقلهم وتجوالهم المستمرين واستخدامهم السيارات بكثافة، وكذلك لبعد المسافات ووجود عدد كبير من السيارات التي لا تزال بعيدة من الكفاءة في استهلاك الوقود. وعندما يُطرح على الأميركيين سؤال عن أهم الهموم التي يعانونها، لا بد من أن يكون الجواب أن ارتفاع سعر البنزين من أولويات تلك الهموم. وارتفعت أسعار البنزين ما بين بداية كانون الثاني (يناير) ونهاية نيسان (أبريل) بنسبة 25 في المئة، وهي زيادة مهمة. ويأمل الاقتصاديون بتراجع أسعار النفط وترشيد استهلاك البنزين في الولاياتالمتحدة التي تُعتبر أكبر دولة مستهلكة للنفط، وكذلك على مستوى معدل الاستهلاك الفردي. لكن كيف يمكن الولاياتالمتحدة أن تزيد الإنتاج على أسس اقتصادية فيما كلفة إنتاج النفط هناك عالية ولا تمكن مقارنتها بنظيرتها في كثير من البلدان الأساسية المصدرة للنفط مثل بلدان الشرق الأوسط؟ لا يزيد المخزون الطبيعي المعلوم من النفط في الولاياتالمتحدة عن 21 بليون برميل، ناهيك عن الكميات المتوقعة في مناطق ممنوع فيها التنقيب، مثل مناطق الحياة الطبيعية في عدد من الولايات، والمقدرة بنحو 134 بليون برميل من النفط. بيد أن المراقب يجب أن يحدد طبيعة الوضع الشمولي لسوق النفط ومحددات العرض والطلب، ليقرر بعد ذلك التوقعات للاقتصادات النفطية في المدى المنظور. وترجّح «منظمة البلدان المصدرة للنفط» (أوبك) أن يرتفع الطلب على النفط هذه السنة بمقدار 1.4 مليون برميل يومياً، فيما ترجح منظمة الطاقة الدولية أن يفوق الطلب على النفط 90 مليون برميل يومياً، في حين يظل العرض ما دون ذلك بقليل بحدود 88.5 مليون برميل يومياً، ويمكن «أوبك» أن تزود السوق بمقدار 30.1 مليون برميل يومياً. لكن معظم الزيادة في الطلب ستنشأ في البلدان غير المنضوية في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، خصوصاً الصين والهند وغيرهما من الاقتصادات الناشئة، وربما يؤدي التخوف من أخطار المفاعلات النووية المولدة للطاقة في البلدان الصناعية المتقدمة، مثل ألمانيا، بعد كارثة اليابان الأخيرة، إلى تحسن الطلب على النفط في البلدان المذكورة. ولا بد أن التطورات المتلاحقة سياسياً وبيئياً لا تزال تعضد الطلب على النفط وتؤكد أهميته كمولد أساسي للطاقة، على رغم ارتفاع أسعاره. ويستمر اقتصاديون كثيرون في البلدان الصناعية المستهلكة للنفط في الدعوة إلى الحد من استهلاك النفط وتخفيف الاعتماد على النفط المستورد، ومن هذه الدعوات فرض ضريبة على استهلاك البنزين في الولاياتالمتحدة واستخدام إيراداتها لتمويل بحوث الطاقة البديلة. لكن هل يمكن أن تتحقق هذه المطالب في ظل التطورات الراهنة في أسواق النفط، وهل يمكن ترشيد الاستهلاك النهم للطاقة، وللنفط تحديداً، في البلدان المستهلكة، خصوصاً أن في كثير من هذه البلدان ذات الاقتصادات الناشئة، لا يزال معدل استهلاك الفرد منخفضاً على رغم أنها في نمو اقتصادي مطرد؟ تحتم هذه الحقائق الاقتصادية والسياسية على بلدان «أوبك» التمعن في أوضاع سوق النفط وكيف يمكن لها أن تعزز الاستقرار. قد تكون أسعار النفط المرتفعة مغرية لبلدان لا تزال تواجه التزامات إنفاق واسعة، إلا أن هذه الأسعار ربما تؤدي إلى دفع البلدان المستهلكة في ظل أوضاعها المالية الصعبة إلى انتهاج سياسات اقتصادية متشددة تؤدي إلى تراجع الطلب على النفط بعد سنوات معدودة. وهكذا يصبح مفيداً تبني سياسات إنتاج ملائمة تؤدي إلى تسعير معقول للنفط بما يعزز الاستقرار ويحد من التضخم في البلدان المستهلكة ويؤكد أهمية النفط كمولد أساسي للطاقة لا تمكن مضاهاته ومنافسته. وفي الوقت ذاته يجب على بلدان «أوبك»، خصوصاً دول الخليج المصدرة للنفط، أن تراجع برامجها الإنفاقية وترشّدها تجنباً لهدر الإمكانات المادية والبشرية. وغني عن البيان أن السياسات الإنفاقية المعتمدة عززت مفاهيم وسلوكات في البلدان المنتجة لا تتوافق مع متطلبات التنمية المستدامة ورفع الكفاءة وترشيد استخدام الموارد المالية. فهل يمكن للمستهلكين والمنتجين أن يتوافقوا على سياسات تسمح بالاستفادة من النفط لزمن طويل مقبل؟ * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت