بخسارة مدينة البوكمال الحدودية بين سورية والعراق، وآخر المراكز الحضرية الكبيرة التي كانت بيد «داعش»، يواجه التنظيم انهياراً كاملاً لخلافته المزعومة وسقوطاً حتمياً لمشروعه في المنطقة. وبرغم استمرار سيطرته على جيوب محاصرة في سورية والعراق، إلا أن التنظيم فقد عملياً مصادر تمويله وتجنيده وغالبية موارده وطرق إمداده وممرات تهريبه. وبدلاً من القتال حتى الموت في معركتهم الأخيرة في مدن وبلدات وادي الفرات بالقرب من الحدود بين العراق وسورية، استسلم العديد من المتشددين أو هربوا. ولا يزال مصير ما تبقى من قيادات التنظيم مجهولاً، هل قتلوا في القصف أو في المعركة؟ هل ألقي القبض عليهم لكن لم تُكتشف هويتهم؟ هل احتموا في مخابئ أعدت منذ زمن طويل للتدبير لحملة جديدة؟ وتتجه أنظار الاستخبارات الغربية إلى بقايا عناصر التنظيم تحسباً لهجمات يقومون بها في الغرب أو في الشرق الأوسط عبر خلاياهم النائمة. كما تتخوف جميع القوى التي تقاتل التنظيم من مرحلة جديدة من حرب التفجيرات المفخخة في العراق وسورية. وقال مسؤولو أمن غربيون إن فقدان الأراضي لا يعني انتهاء هجمات «الذئاب المنفردة» باستخدام البنادق أو السكاكين أو الشاحنات التي تستهدف المدنيين، كما فعل مؤيدو التنظيم في عدة مناطق بالعالم. وقد تبقى قيادة التنظيم «تحت الأرض» الآن كما فعلت بعد نكسات سابقة وتنتظر فرصة جديدة للاستفادة من الفوضى في الشرق الأوسط. وقد لا يطول الانتظار. ففي العراق، أثار استفتاء حول استقلال إقليم كردستان في شمال البلاد مواجهة كبيرة بين حكومة الإقليم المتمتع بحكم شبه ذاتي والحكومة المركزية في بغداد المدعومة من إيران وتركيا. وفي سورية، كانت حملتان متنافستان تحاربان «داعش» في شرق البلاد وهما القوات النظامية وحلفاؤها، و»قوات سورية الديموقراطية» وحلفاؤها مصدراً للتوتر والتصعيد في سورية. وأطلق إعلان أبو بكر البغدادي عن الخلافة في عام 2014 حقبة جديدة من الطموح لدى المتشددين. فبدلاً من اتباع إستراتيجية تنظيم «القاعدة» المتمثلة في شن هجمات مسلحة ضد الغرب، قرر التنظيم الجديد ببساطة إنشاء «خلافة إسلامية» جديدة. وأدى ذلك إلى زيادة أعداد معتنقي الفكر المتشدد ودفع آلاف الشباب المسلمين إلى «الهجرة» إلى الدولة الفاضلة التي عرفوها من الأفلام الدعائية. وضمت قيادة «داعش» مسؤولين عراقيين سابقين يعرفون جيدا أساليب إدارة الدولة. وأصدر التنظيم وثائق هوية وعملات نقدية وأنشأ قوة شرطة للأخلاق. وخلافاً للحركات المتشددة السابقة التي اعتمدت على تبرعات من المتعاطفين، فقد منحت سيطرة التنظيم على أراضٍ الفرصة لإدارة اقتصاد حقيقي. وقام التنظيم بتصدير النفط والمنتجات الزراعية وفرض الضرائب وتاجر في الآثار المسروقة. وفي ساحة المعركة، عدل التنظيم أساليبه باستخدام الأسلحة الثقيلة التي استولى عليها من أعدائه خلال الانتصارات العسكرية التي حققها في بادئ الأمر وأضافت دبابات ومدفعية للانتحاريين والمقاتلين في صفوفه. وسجن التنظيم أجانب وعذبهم وطلب فدى لإطلاق سراحهم وقتل الذين رفضت بلادهم دفع الأموال ونشر لقطات فيديو وحشية لقتلهم على الإنترنت. ولا يمثل عدد الذين تمت معاملتهم بهذه الطريقة شيئاً مقارنة بالعدد الكبير من السوريين والعراقيين الذين قتلوا بسبب سلوكهم أو كلماتهم أو جنسهم أو دينهم أو عرقهم أو عشائرهم. وأُحرق بعضهم أحياء وقُطعت رؤوس آخرين وبعضهم ألقي بهم من أسطح المباني العالية. كما بيعت النساء اللاتي تم أسرهن كسبايا في أسواق النخاسة. لكن خلال العام الجاري واجه التنظيم حملات عسكرية مكثفة بهدف طرده من العراق وسورية وخلال فترة وجيزة بدأ بخسارة مصادر تمويله وموارده الأساسية. كما فقد قدرته على تجنيد المزيد من المقاتلين وتدريجياً بدأ التنظيم في التهاوي والتراجع، فقد خسر 60 في المئة من الأراضي في العراق وسورية وليبيا. كما خسر 80 في المئة من مصادر تمويله أبرزها آبار النفط في شرق سورية، أما العوائد المالية للتنظيم فقد تراجعت من 81 مليون دولار شهرياً إلى 16 مليون دولار شهرياً مع تراجع قدرته على تهريب الآثار وبيع النفط.