باريس الثالثة، ناقشت الباحثة اللّبنانية سيلفانا الخوري أطروحتها بعنوان «الجسد والكلام والسلطة في روايات علوية صبح» بالفرنسية تحت إشراف المستعربة هايدي توليه. ومنحتها لجنة المناقشة أعلى درجات الاستحسان. وضمّت لجنة المناقشة الأساتذة بطرس الحلاق من جامعة السوربون الجديدة- باريس الثالثة، وفريديريك لاغرانج من جامعة السوربون- باريس الرابعة، وبرونو باولي من جامعة ليون الثانية. افتُتحت المناقشة بعرض أكاديمي للخوري لخّصت فيه رؤيتها إلى روايات علوية صبح، التي هي موضوع الأطروحة، ونقاط انطلاقها في دراستها والنتائج الأساسية لبحثها. ترى الباحثة أنّ عمل الروائية البنانية علوية صبح ينطوي على علاقة حميمة وجوهرية بين الجسد المتحرّر وعلاقته بممارسته الكلام، وكذلك بين الجسد المقموع وانحباسه في الصمت. وهذا كلّه موصول في نظرها بخوفٍ من الأنوثة في تجلياتها الجسدية واللّغوية سواء بسواء. وفي وجه الأعراف القامعة، نرى إلى لغة الشخصيات الروائية، هذه اللّغة التي هي محلّ لتمفصُل المعرفة والسلطة، كما نرى إلى أجساد النساء، التي هي محلّ لتكبّد الهيمنة الذّكورية، نرى إليها وهي تُصبح بؤراً لمناهضة السلطة، «ذاتيّاتٍ في صيرورة» وفق تعبير ميشال فوكو. هكذا يُطرح في روايات صبح الثلاث الصادرة حتّى هذا اليوم، «مريم الحكايا» (2002) و «دنيا» (2006) و «اسمه الغرام» (2009)، سؤال تمثُّل النساء لمصائرهنّ وإمكان اضطلاعهنّ بالكلام وإسماع كلامهنّ الخاصّ للآخرين. في النسق البطريركي الذي تكشف عنه هذه الروايات وتعرض مَشاهده وإجراءاته، يشكّل الصمت في نظر الباحثة المعيار الذي ترتفع ضدّه أصوات بعض الشخصيّات– نسائيّةً ورجليّة. وعندما تُفلح هذه الشخصيات في صوغ حكاياتها الخاصة أو تحقيق كلامها الخاصّ، كلامٌ يتموقع بالضرورة في تخوم اللّائق والمقبول في نظر الأعراف القائمة، فإنّ ذلك يكتسب على الفور قيمة خرقٍ أو انتهاك. وبتحقّق هذا الكلام، وبهذا الشرط وحده، تستعيد المرأة صوتها وصورة جسدها الذي هو الموضع الذي يتمظهر فيه الاستحواذ البطريركي على خطاب المرأة، والعلامة الأولى والأساس لكلّ انعتاقٍ ممكن لها. هكذا تتأسّس «لغة» أنثويّة لا تطمح إلى الشمول بقدر ما تتيح انبثاق خطاب أقلّي أو هامشيّ يفلت من رؤية إلى العالم متمركزة عقلانيّاً ولاهوتيّاً. وبالعودة إلى روايات صبح الثلاث، أكّدت الباحثة أنّها لا تشكّل ثلاثيّة مترابطة الأجزاء ولكنّها تظلّ شديدة الانسجام في كليّتها، وذلك من خلال عالمها الأساس وموضوعاتها الرئيسة وفنونها السردية. إنّ هذه الروايات المفعمة بالأسئلة ذاتها: النساء، الصّمت، الكلام، الجسد، الكتابة، الذاكرة، الخوف من الموت ومن النسيان ومن عدم تحقيق الذات، هذه الروايات تتبع في الواقع مسار الجيل الذي كان في سنّ العشرين عشية اندلاع الحرب الأهلية اللّبنانية (جيل الكاتبة نفسها)، وتصف كيف «صاغت» هذه الحرب علاقة أبناء هذا الجيل بالعالم وأعادت كتابة مصائرهم الفردية والجماعية. لإظهار هذا كلّه، تمارس الكاتبة لغة متحرّرة على غير ابتذالٍ، تصف العنف والمحظورات مباشرة وبلا تزويق. ثمّ عرضت الخوري أقسام عملها، حيث بدأت بمهادٍ نظريّ وتحليليّ واسع عرضت فيه الآفاق الراهنة والنتائج الثرية ل «دراسات التابع» (راناجيت غوها، غاياتري سبيفاك...) وما غذّاها من أعمالٍ فلسفيّة (دولوز، دريدا، ليوتار...) وسوسيولوجيّة (بورديو، سكوتّ) وألسُنيّة (أوستن)، وأبانت عن إمكان الإفادة منها في دراسة أعمال الروائية اللّبنانية. ثمّ عملت في القسم الثاني على استنطاق العلاقة التي تجمع ساردة كلّ من الروايات الثلاث بمؤلّفتها التي حضرت في هيئة شخصيّة روائيّة في كلّ منها. تُرينا الباحثة كيف أنّ كلّ شخصيّة لا تحقّق انعتاقها إلاّ بثمن التحرّر من خطاب الكاتبة ووصايتها. قرار الاضطلاع بالحكاية الذاتية هذا ينتج منه تحرّر متدرّج واستعادة للصوت وملامح الوجه الخاصّة، تحرّرٌ حلّلت هي مراحله وأطواره وتجلّياته. وفي القسم الثالث، درست الباحثة الصّمت، صمت المرأة ودلالاته في هذه الروايات، وذلك انطلاقاً من ثلاثة عناصر سرديّة أساسية بدت لها متمتّعة بقوّة استعارية ورمزية بالغة: البئر الذي تُرمى فيه رَوْضة في «مريم الحكايا»، والضبع الذي تطوّعه سعديّة في «دنيا»، ومرض الألزهايمر الذي تُعاني منه نهلا في «اسمه الغرام». انها وقائع تُعليها الكاتبة إلى مستوى الرموز، تمثّل فراغات شاسعة أو مهاوي ومغارات ظلماء يُرمى إليها بكلّ كلامٍ أنثويّ متمرّد أو محظور. كلام تدرس الخوري في القسم ذاته بلاغته وإجراءاته من خلال نماذج وتعبيرات دالّة. ثمّ يأتي القسم الرابع، وقد خصّصته الخوري للنظر في الفوائد التعبيرية والمزايا السردية والشعرية التي يأتي بها التناوب الذي عملت به الكاتبة بين العربية الفصحى في السرد والمحكية اللّبنانية في كلام الشخصيات. عبر هذا التناوب الخصب أبانت علوية صبح في نظر الباحثة عن انتباهٍ دائم لكلّ التبادلات الممكنة بين مستويَي اللّغة هذين، فهي لا تفوّت مناسبة لتفجير تعاونٍ فعّال بينهما، من تداعيات الأفكار إلى التداعيات الصوتية- اللّغوية، من دون أن تنتج من ذلك محكيّة مُختَرَعة أو تلفيقيّة بل هي محكيّة منبثقة من قلب الواقع ومنتمية تماماً إلى مَعيش الشخصيّات الروائيّة وهواجسها.