فيروس الاحتجاجات الشعبية عَبَرَ الحدود إلى الشارع الأردني، وكسر ساسةٌ ونشطاء سياسيون، بمن فيهم التيار الإسلامي، خطوطاً حمراً في بازار الطروحات السياسية بين المطالَبة بملكية دستورية قوامها «انتخاب» رئيس الحكومة تحت ظلال القصر، وإحداث إصلاحات تدريجية من خلال تفعيل بنود دستور 1952 لصيانة النظام السياسي القائم منذ 1921. فالملك عبد الله الثاني، الذي يتعامل مع أكبر تحدٍّ داخلي منذ جلوسه على العرش مطلع 1999، يبدو أكثر تفهماً لضرورة تداول السلطة سلمياً، لكن على نحو متدرج، عبر تنافس كتل وتيارات وأحزاب للوصول إلى المجلس النيابي، في إطار تعزيز دستور ينص على أن نظام الحكم في الأردن «نيابي ملكي وراثي» لضمان أمن النظام واستقراره. على الأرض «ثمة اعتصامات (مطلبية) بالجملة، وتصعيد في أجندة الإصلاح السياسي»، على ما يلاحظ المحلل السياسي فهد خيطان، راصداً تسجيل بين خمسة وعشرة اعتصامات يومياً. «وفي أحيان كثيرة، يتداخل المطلبي مع السياسي ويتعاظم سقف المطالب لمستوى يصعب مجاراته»، في دولة شحيحة الموارد تئن تحت عجز يناهز الملياري دولار. في الأثناء، تتقاطر استحقاقات إقليمية متوقَّعة مع انسداد أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة غربي النهر، بالتلاقي مع ثورتي تونس ومصر. كل ذلك غَيَّرَ المزاج الشعبي وفتح شهية الجميع على نقل الصورة بالصيغة التي تناسبهم، فيما ارتفع منسوب الضغوط الأميركية والأوروبية على الحلفاء، بمن فيهم الأردن، الذي زارته أربعة وفود رسمية أميركية خلال الأسابيع الماضية. لكن المعضلة في الأردن أنه، باستثناء التيار الإسلامي الذي يستحوذ على نسب تأييد في الشارع تتراوح بين 5 و 25 في المئة، فإن غالبية الأحزاب - من يسار إلى يمين - غير فاعلة، وذلك يعني أن تشكيل حكومة مدعومة برلمانياً تساوي استحواذ الإسلاميين على القسم الأكبر من السلطة، ما لم تنضج، وبسرعة، أحزاب لها امتدادات نخبوية وامتدادات في الشارع. لذلك، وبعد سنوات من المراوحة والتخبّط في صنع القرار، يدفع الملك باتجاه تعديل قوانين الانتخابات والأحزاب السياسية والاجتماعات العامة، لخلق حوافز لقيام تعددية سياسية تكسر احتكار الإسلاميين وتضمن تشكيل حكومات مستقبلية بتحالفات قوية، قبل الدخول في تفاصيل مثل انتخاب رئيس وزراء، وهو ما سيتطلب تعديل الدستور. لكن التحدي الحقيقي اليوم يكمن في توصل القوى السياسية المتعددة - التي تتحرك في الشارع أسرعَ من الحكومة وسائر مفاصل الدولة - إلى وصفة توافقية للإصلاح، بما يحقق مصالح الدولة بمكوناتها كافة، ويضمن نقلة نوعية في المعادلة السياسية نحو نموذج ديموقراطي، وسيادة القانون في مجتمع مقسوم. القاسم المشترك الوحيد لهذه القوى، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، هو الحفاظ على «الصيغة الملكية» لنظام الحكم الهاشمي، الذي يحظى بشرعية سياسية ودينية ويشكّل صمام الأمان في مجتمع بكتلتين رئيسيتين: شرق أردنيين، وأردنيين من أصول فلسطينية، يليهم ذوو الأصول الشامية والسعودية، وأقليات دينية وعرقية أخرى. دون ذلك، كل شيء خاضع للنقاش. مطالب الشارع بعقد اجتماعي جديد للجميع، تكبر وتتمدد يوماً بعد يوم. الحكومة الجديدة، برئاسة معروف البخيت (شخصية سياسية/ عسكرية محافظة)، تحاول اللحاق بركب الشعب، الذي تدرجت شعاراته من المطالبة برحيل حكومة سمير الرفاعي وسن قانون انتخاب جديد، إلى حل مجلس النواب، لأنه منح حكومة الرفاعي ثقة شبه عمياء، على وقع شبهات تزوير طالت الانتخابات (أواخر العام الماضي)، إلى إقرار تعديلات دستورية، لتأخذ منحى تصاعدياً صوب عنوان الملكية الدستورية. ومِن أكثر المتشددين وراء توجه سياسي يُفضي إلى تطبيق شعار «الملك يملك ولا يحكم»، القيادي البارز في الإخوان المسلمين أرحيل غرايبه، ومعه نواب معارضة سابقون، مثل ليث شبيلات وتوجان الفيصل. فما كان مجرد أحاديث همس وتمنيات خلف الأبواب المغلقة، غدا مطالِبَ تنادي بها القوى السياسية والنقابية في مسيراتها واعتصاماتها وأمام عدسات التلفزة والفضائيات والإذاعات، بما فيها حكومة منتخَبة، تماشياً مع مبادرة قدمَتْها إلى رأس الدولة عام 2009 شخصياتٌ سياسية «وطنية»، بينها د. غرايبه. حتى الآن، لم يتبنَّ التيار الإسلامي طروحات الغرايبه ورفاقه، لأن ما ينادون به قد يشكل عنواناً للصدام منذ البداية، وحدّاً أعلى للخطاب، لكن أفكاراً كهذه لم تأت بمحض الصدفة. وقتذاك حوربت تلك الأفكار بشدة، بعدما صُوِّرَتْ للملك على أنها «خطر داهم يستهدف تقويض الملكية والانتقاص من صلاحياتها»، مع أن عبد الله الثاني، كان تحدث في مقابلات صحافية غربية بدايةَ عهده، أنه مع تحديث النظام النيابي الملكي الوراثي ليوائم متغيرات المرحلة، لكن الإعلام الرسمي والخاص لم يسلط الضوء على تلك التصريحات. اليوم عاد الحديث وبوتيرة متنامية حول «دسترة» النظام الملكي، وإسناد تشكيل الحكومات، وتكليف رؤسائها إلى نظام انتخابي متطور يوزع المسؤوليات على الجميع، يحصّن الملكية، ويريح النظام، ويمتّن الجبهة الداخلية في مواجهة مختلف التحديات. الحكومة غير متحمسة لهكذا طروحات، ويوم الخميس قال د. البخيت للنواب، «إن الحديث عن الملكية الدستورية يعد إخلالاً بتوازن نظامنا السياسي ودستورنا (1952)». خطاب التيار الإسلامي يمر الآن بتحولات جوهرية عنوانها «فتح حوار إستراتيجي مع مطبخ القرار على قاعدة واحدة، هي الإصلاح السياسي»، على ما يشرح الباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية د. محمد أبو رمّان. هذا الخبير في شؤون الحركات الإسلامية يتحدث عن بروز جيل جديد في هياكل الحركة – التي انطلقت عام 1946 - تتمحور مقارباتُها حول أبعاد ثلاثة: «قضية الإصلاح السياسي الداخلي تطغى على الاعتبارات الأيديولوجية التقليدية (الإسلام هو الحل)»، «تطور اللغة السياسية صوب الدعوة إلى حكومة منتخبة على قاعدة الملكية الدستورية»، و «رفع سقف الخطاب من إصلاحات عادية وحجم محدود في المشاركة السياسية إلى نقد مباشر»، مثل المشاركة العسكرية في أفغانستان. هذا الجيل يريد تطوير دور الجماعة وذراعها السياسية («جبهة العمل السياسي») من «المشاركة التقليدية إلى الشراكة السياسية بما يوازي حجم الجماعة في الشارع». العناوين التي يطرحها الإسلاميون تحت شعار الإصلاح: «تعددية سياسية»، «تداول سلطة»، و «حكومة منتخَبة». في المقابل، مقاربة السلطة من الإخوان تتفاوت بين «النظرة الأمنية» التقليدية باعتبارهم مصدرَ تحدٍّ وتهديد (...)، وبين إعادة هيكلية العلاقة للاستفادة منها في التعامل مع الشارع الغاضب. ثمّة تساؤل ما يزال في طور الاختبار: «من هي الجهة التي ستحمل ملف الإخوان لاحقاً؟». في السابق كانت توليفة أمنية - مخابراتية ثم تشاركت الحكومة في حمل الملف، وأخيراً دخل القصر على الخط، في إشارة إلى أول لقاء بين الملك وقيادات إسلامية رسمية منذ عشر سنوات. مؤيدو نقل ملف الإخوان من أمني إلى «سياسي» ينتمون إلى الدائرة اللصيقة بالقصر. د. أبو رمان يرى أن «الدولة تبحث عن شركاء في الشارع والقوى السياسية، والجماعة أكبر ممثل للشارع ورقم صعب في المعادلة الأردنية». رئيس وزراء أسبق يُجْمِل غضبة الشارع ب «الشعور بالقهر والتهميش وتفشي الفساد مع ضبابية إجراءات مكافحته». الحكومة شُكِّلت يوم الخميس لجنة حوار وطني حول قوانين الإصلاح السياسي برئاسة رئيس مجلس الأعيان طاهر المصري، لصياغة مشروع إصلاح سياسي توافقي متكامل، حول ثلاثة قوانين أساسية: الانتخاب، الأحزاب، والاجتماعات العامة. ستطرح اللجنة مشاريع القوانين على الحكومة قبل أن تحيلها إلى مجلسي النواب والأعيان، ثم إلى القصر لتوشيحها بإرادة ملكية قبل نهاية العام. وفي حال تم التوافق على قانون انتخاب للمرة الأولى منذ قيام الأردن الحديث، سيكون خيار حل مجلس النواب خياراً أولياً، تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة، ما شحن اجواء مجلس النواب الذي انتخب قبل أربع شهور. هدف تشكيل لجنة برئاسة المصري، المولود في مدينة نابلس (الضفة الغربية) ويحظى باحترام غالبية مكونات المجتمع الأردني، هو إعطاء شرعية أكبر لمخرجات الحوار ضمن محددات الأجندة الوطنية (وثيقة أقرّت عام 2005 كخارطة طريق صوب إصلاحات شاملة على مدى عشر سنوات، لكنها ظلت حبراً على ورق). في البال تجربة «اللجنة الملكية للميثاق الوطني»، التي شكّلها الملك الراحل الحسين بن طلال عام 1990، بعد عامين على التحول صوب الديموقراطية والتعددية السياسية، لإنهاء حال التشكيك الحزبي بشرعية النظام. المصري رئيس وزراء أسبق، اختار الاستقالة عام 1991 في مواجهة مجلس نيابي ثلثه من الإسلاميين آنذاك بدلاً من البقاء وحلّ المجلس. وكان رئيس المحور السياسي في الأجندة الوطنية، التي طرحت نظاماً انتخابياً مختلطاً يجمع بين صوتين، لمستقل وقائمة على مستوى الوطن. الأجندة الوطنية لم تحدد النسبة المخصصة للقائمة والتصويت الفردي، بل اكتفت بالتوصية باعتماد النظام المختلط. الأجندة لم تحظ بتوافق وطني، لأن الشخصيات السياسية التي أشرفت على رسمها لم تحظَ بقبول في المجتمع. وزير التنمية السياسية السابق موسى المعايطة يرى أن الأولوية يجب أن تصب في إصلاح سياسي متدرج، من خلال تعديل قوانين الانتخاب، الاجتماعات العامة (أقرته الحكومة قبل أسبوعين)، والأحزاب، إلى جانب تعديل بنود محددة في الدستور لتحسين المناخ السياسي. ومن بين البنود: إطالة مدة دورة مجلس الأمّة (أربعة أشهر حالياً تمدَّد بدورات استثنائية)، نقل صلاحية البت في الطعون الانتخابية من مجلس النواب إلى القضاء. ويجادل المعايطة بأن إحداث الإصلاحات من القاعدة إلى القمّة لا يتطلب تعديلات جوهرية في الدستور، بل بدء عملية إصلاح لاختيار حكومة أغلبية حزبية على أساس برامج قابلة للتطبيق – على غرار الأعراف في بريطانيا –، إذ لا يوجد نص يحدد للملك من يختار لتشكيل الحكومة. وحدثت سابقة في الأردن عام 1956، حين كلّف الملك حسين سليمان النابلسي – زعم الأكثرية - بتشكيل حكومة متعددة الألوان. الدستور مر ب 28 تعديلاً بين 1954 وعام 1984، في مقدمة هذه التعديلات تقليص النصوص الدستورية الضابطة للسلطة التنفيذية وصلاحياتها، ما أطلق يدها، بخاصة بعد التعديل الذي أعطى الملك الحق في تأجيل الانتخابات النيابية من سنة إلى سنتين، عقب خسارة الضفة الغربية في حرب 1967. هذا التعديل يخلّ بمبدأ دورية إجراء الانتخابات ومرتكزات النظام الديموقراطي القائم على فصل السلطات، ذلك أنه يعطي الحكومة حق إدارة البلاد من دون رقابة برلمانية. يستتبع ذلك منح الحكومة سلطة إصدار قوانين مؤقتة في ظل غياب مجلس الأمّة، في ضوء تعديل أزال قيود إصدارها في «حالات الكوارث، الحروب والطوارئ» إلى نص يرهنها بظروف «تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية»، وهي عبارات مطاطة منحت الحكومات حق التشريع. في الذاكرة نزوع حكومة علي أبو الراغب إلى إصدار 111 قانوناً مؤقتاً بين عامي 2000 و2003، وحكومة سمير الرفاعي أكثر من 50 قانوناً مؤقتاً، خلال فترتي حل المجلس. وثمّة تعديل يلغي حق «كل نائب عين باقتراح القوانين»، ومنحه لعشرة نواب أو أعيان، كما تقلصت مدة الدورة البرلمانية من ستة إلى أربعة أشهر، مع دورات استثنائية لا تناقش إلا قضايا محددة في الدعوة الملكية. تعديل آخر مسَّ رئاسة المجلس العالي لتفسير الدستور ويحاكم الوزراء، وحوّل قيادته من أعلى محكمة نظامية إلى رئاسة الأعيان، وبذلك نقل مهمة سياسية أكثر منها قضائية، ما ساعد الحكومات على توظيف ذلك لخدمة أجنداتها. وقلصت أيضاً مدة مجلس الأعيان من ثماني إلى أربع سنوات تجدد كل سنتين. الآن الملك عبد الله الثاني (49 عاماً) في سباق مع الزمن، يحاول تسجيل نقاط سياسية لدى الشارع والنخب من جهة، ولدى قوى خارجية مثل واشنطن وعواصم أوروبية أخرى تعطي أولية قصوى في سياساتها الخارجية لإصلاحات جذرية. يقول رجل دولة ل «الحياة»، إن الملك بات يدرك اليوم «أنه لضمان بقائه في الحكم سيحتاج إلى تقليص صلاحياته، على نحو تدريجي، واستعادة روح الدستور بعد تعديلات متلاحقة أفرغت مبدأ فصل السلطات من مضمونه، وكرّست السلطة بيده، ما بات يمس بشعبية مؤسسة العرش». فموازين القوى الداخلية والخارجية انقلبت إلى غير رجعة، بينما تتعمق المخاوف من أن تسعى إسرائيل إلى إشعال فتنة داخلية بين المكونين الرئيسيين، لأنها تسعى إلى حل القضية الفلسطينية على حساب المملكة عبر استحضار الوطن البديل مع انسداد أفق دولة فلسطينية مستقلة - رهان الأردن الإستراتيجي منذ عقدين -. ... على مفترق طرق هناك قوى تتحدث عن ضرورة تحقيق إصلاحات تدريجية لا تهدد النظام والهوية السياسية للبلاد في غياب حل للقضية الفلسطينية. قوى أخرى تتحدث عن أولوية إلغاء معاهدة السلام (1994)، فيما يطالب ناشطون بإطلاق سراح الجندي أحمد الدقامسة الذي قتل طالبات إسرائيليات عام 1997. أطراف أخرى تفضل تقديم الإصلاحات الاقتصادية، العودة إلى دولة الريع الاجتماعي أو دولة المواطَنة، المساواة والأمان. التيار الإسلامي رفع سقفه قبل أيام عبر شعار «الشعب يريد إصلاح النظام». مطالبة العودة لدستور 1952 بات شعار لاعتصامات العديد من القوى الاجتماعية والسياسية، قومجية، يسار، وحتى الأحزاب التقليدية وعدد كبير من المتقاعدين العسكريين. مطالبات كهذه تؤرق شخصيات شرق أردنية تخشى أن تشكل مدخلاً للتوطين السياسي وإضعافاً لصلاحيات الملك. لكن القصر يصر على ضرورة بناء توافق وطني حول خارطة طريق صوب إصلاح سياسي في محاولة لترسيم المسار المقبل، بما فيها تحديث قوانين الانتخابات التشريعية، تشجيع قيام أحزاب حقيقية لكسر احتكار الإسلاميين وترك الاختلافات على عمق الإصلاحات الدستورية إلى مرحلة لاحقة.