في روايته الجديدة «طيور النبع» (جداول،2017)، يطور الإعلامي والكاتب الموريتاني عبدالله ولد محمدي خطته التأليفية ذات البنية والإحاطة الرحلية التي أنجز منها كتابيه «يوميات صحافي في أفريقيا» (صحراء ميديا، 2013) و «تمبكتو وأخواتها» (جداول، 2015) لينتقل إلى تجربة الجنس الروائي، مستفيدًا من خبرته رحالةً ومحققاً صحافياً مميزاً في مهنته، قادراً على رصد الأسماء والأماكن والنفاذ بعين الاستكشاف إلى روح الأشياء، وكما كان يفعل العرافة قبل الحملات الاستعمارية حين يرتادون الآفاق فيما كانوا يمهدون الطريق. لقد مهّد ولد محمدي لنفسه طريق الرواية، برحلاته إلى إفريقيا وتشعّبه في أدغالها وثقافتها، وتمرينه على نقل الصورة برؤية جامعة، وعين مأخوذة بما ترى ومتغلغلة في بواطنها بلا إسقاط غرائبي أو من منظور عجائبي، وخبرته الموريتانية والواعية للبيئة ثقافة وأحوالاً؛ هكذا سعى الى حفر بؤرة مركزية هي ما يوافق فن الرواية عادة، منها تنطلق خطوط المحكيات وفيها تصب، موريتانيا الإطار الواسع، وبلدة ( النبع) المركز تبدأ منه المصائر وإليها تعود. أبناء نواكشوط عنوان الرواية اسم على مسمىّ. الطيور هم أبناء بلدة النبع، جنوب العاصمة نواكشوط، منها خرجوا وانتشروا، تفرقوا أيدي سبأ، كل بقصته ومساره ولمصيره. هو أحد أبنائها/أبطالها، سارد حياتهم وحياته معهم وبرفقتهم. بعد عشر سنوات في السفارة في مدريد بمنصب محاسب يعود إلى بلاده، حيث يعيش مفارقة المقارنة بين زمن خصب ومتمدن، ووضع محلي بائس بسمات مغروسة في نمط عيش القبيلة وسلوكها، وتبقى روحه منشطرة. هو نموذج عبرت عنه أكثر من رواية عربية، الطيب صالح ذروتها. ينتقل من ثمّ في المهمة ذاتها إلى بلدان الخليج، الكويت والدوحة، حيث يلتقي بابن بلدته عبد الرحمن طالباً وصاحبَ فكر متحرر وذا شخصية بمزاج وتناقضات شتى، ترمز الى شخصية صحراوي يأنف من القيود ومشبع في آن بروح الجماعة، القبيلة، ومعاً يعودان أخيراً إلى موطنهما لينكفئ مدار الوصف من خارج إلى الداخل فيتبأّر حول ثلاثة محاور: الشخصيات، الأمكنة، الأيقونات الثقافية (أنتربولوجيا). أسماء عديد شخصيات كلها مركزية، بوظيفة ودلالة، موصولة ببعضها، اجتماعياً وروحياً. وعلى رغم فرادة سيرتها وبحثها عن مصير خاص، لا يمكنها مهما شطّت مزاجيةً ونأياً عن مسقط الرأس، أن تحقق وجوداً فردياً خالصاً، إلى المحيط ثقافة وتقاليد وأسلوب عيش الرُّجعى. بعد الديبلوماسي السارد، عبد الرحمن ذو النزوع اليساري والقومي، رجب المتمرد، المتشبث بعزوبته في مجتمع مزواج، المتلاف والمثالي متذوق الشعر والموسيقى. مريم، قارئة الودع، التي تتمتع بسلطة روحية تمكنها من «تجسير الفتوى بين عالم الأموات وعالم الأحياء»، من رموز الكرامات المؤسسة للنبع، نباتية «تتكلم بلغات غير مفهومة أثناء نومها وتخبر عن المغيبات». محمدي الذي رحل من النبع إلى أعماق غينيا في (لابي) صار فيها فقيهاً ذا جاه وأي شان. مثله، محمد الحافظ الذي رحل إلى غينيا وفيها أصبح «ضليعًا في ما يُعرف بسر الحرف، الذي يعطي الإنسان قدرة على تسخير الجن وتطويعهم». ورجب معلم الصبية، الأعزب، من يغوي نساء الحي الصحراويات بغزل الشعر العذري، الماضي كعبتُه، والحاضر إن تحقق نكبتُه، أيّ بلوى أصابته لما علِمَ أن بعلبك قائمة البنيان بعد في لبنان، بينما كان يلقن طلابه فناءها بسبب فجور أهلها، شاهدُه بيت عمرو بن كلثوم: «وكأس قد شربت ببعلكَّ/ وأخرى في دمشق وقاصرينا». عندك الشاعر الحسين، وأغلب الشخصيات تملك هذه الموهبة (أوَلا تسمى موريتانيا بلد المليون شاعر؟!). يفتن في الحي بأشعار ماجنة تمسّ خاصة بسلّم التراتبية الاجتماعية، بتفضيل السمراوات على البيضان، يتقاسم مع السارد فكرة التمرد على القبيلة، هو ومجموعته الذين يتبارون في نظم القصائد ويسهرون الليالي يقصّون النوادرَ وأخبار العرب. كذلك الشيخ أحمد الموهوب بسر الحرف، هل ننسى شيخ بلدة «كنز الأسرار»، أو العجوز منيرة التي كانت حسناء وتختفي بغرابة. هذه الشخصيات وغيرها، تتواصل في المحيط الصحراوي نفسه غالباً تعيش تحت خيام الوبر في المجتمع المتشبث ببدويته، مقابل الحضري أو شبهه في نواكشوط بخاصة. إنها والمكان والفضاء، تشكّل هويةً واحدة، تضيع أو تتفكك وإما تستعاد وتنسجم بقدر البعد أو القرب، لذلك يمثل المكان الشخصية الأم، الكبرى، هي الرحم، منه تخرج وإليه تعود لتموت، إلا قسراً، عندئذ ترسل من يخبر أهل الديرة بقضاء الله، لتشيِّعه ويكون قد مات حقًا، كما حدث للشيخ محمدي أوصى ابنه سعيد بنعيه في النبع. وعبدالله محمدي عنى جيداً في سرده الذي ابتغاه روايةً هذا المعنى، وحوله شيّد بنيانه، بالأحرى دق أوتاده ونصب خيامه. فيه تمثل بلدة النبع بؤرة الحل والترحال بين زمنين، وجيلين، ومجتمعين، وبيئتين، وثقافتين. ثنائيات ونقائص هي ثنائيات حاضرة وناطقة بالعيان واللسان والنظم والقيان، بالأثافي والخباء ولبن الإبل وطقوس إعداد الشاي، لا بد يُشرب ثلاث كؤوس مثل دورة الحياة: حلوٌ، مرٌّ وباهت كالموت. تقابلها أو تعارضها من منظور السارد ووصفه وأحكامه المعلنة نقائضُ في مجتمع حضري قيد التشكل بهُجنة شديدة، كنايةً عن ثقافتين تتدافعان، واحدةٌ وإن راسخة، هي التي يعزف لها الكاتب (السارد) لحن الحنين، وفي الآن جنازَ زوال سيضرب كيانها، تتكهن به نبوءات سحرية بصور للقيامة تتطابق مع كوارث محتملة لتسونامي يهدد ساحل بلاد موريتانيا؛ أما الثقافة الثانية الوليدة، فجاءت أولاً مع الاستعمار، وتتنامى بعُسر بعد رحيله في شكل تحديث شائع، فيكيل لها أقذع الشتيمة مشنّعاً على بنيانها وسكانها وحكامها بخاصة. من هذا (الطباق) الدلالي، متجسداً في ثنائية وجدل الإنسان والعمران، لا يبدو عبدالله ولد محمدي يسعى إلى تركيب، نوع ولادة ل (جِناس) من جنس ثالث، يخضع لنزعة تشاؤمية من وحي اقتناعه وفهمه لتصادم وسطوة القوى المتحكمة في مجتمعه، والثنائيات الضدية المتقاطبة به. هي نزعة تصنع التراجيديا وتهيمن بمعتقدات القدر والخوارق و (سر الحرف) الإنسانُ معها لا يمكن أن يكون ويعيش إلا في البيداء لا تحت سقوف وسلطة الحضر، العساكر بالذات، لذا أي شغف عنده بالبائد، لكم نقّل فؤادَه في عواصم الغرب ويُشجينا بقيَ حنينُه لأول منزل. معلوم، أن هذا الشعور يفتِّق الشعرَ لا النثر، النزعة الغنائية، لا التوتر والتركيب الدراميين القرينين بالحبكة الروائية وعوالمها. وهذا مقترب ضروري ل «طيور النبع» كنص يبدو وهو يتنزل سردياً في المنزلة بين المنزلتين، بحكم مناطه ومجاله وشخصياته، ونظراً للرؤية الاجتماعية الثقافية، بنسغها الأنتربولوجي التي يصدر عنها وتنطبع في تأليفه. هل نحن في حاجة إلى التذكير بأن بنية الرواية الحديثة جزء وبتفاوت تحويرِ عملية التخييل انعكاسٌ لبنية اجتماعية قبْلية، وحصيلتها السردية بالصورة المنجزة تركيبٌ إبداعي للبنيتين. ونص عبدالله ولد محمدي، ما كان له مندوحة من أن يشتغل وفق نسقين إثنين للسرد: واحدٌ لحمتُه الحكاية، الحكاياتُ التي احتفى بها وشغلت قسمه الأوفر، وصفٌ وتعبيرٌ عن بيئة وإخبارٌ بأحوال ومعتقدات وأوهام أهلها بطقوس خارقة وتصالح مع الطبيعة وطاعة للخالق وامتثال لقالة الشيخ وصدع بحكمه، والحكاية نوع سردي تراثيٌّ شفويٌّ خارقٌ فوق أرضي؛ ونسقٌ ثانٍ سداتُه الرواية، بالأحرى الكتابة الروائية تتجسد كلما انعتقت من أوهام وكرنفالية الحكاية والتصق ساردُها بالواقع الصلد حين تتحرك شخصياته في المجال الحضري مرقتًا، وأحياناً لدى رصد أجواء وسلوك ساكنة النبع، بوصفهم أيقونة لساكنة إلى الزوال، رصداً لا يخلو من عجائبية فتنسج عبارتها عارية من الاستعارة والمحسنات اللفظية، معيّنة بالسبّابة والعين الجاحظة، وهو قليل وإلا فهي بهذه البلاغة ألصق، وبمعجمها المسكوك أشد اتصالاً. خلاصة القول، إن «طيور النبع» تمثل في قراءتي نصًا سردياً يغني من ناحيتين مهمتين. أولاً، رسم مجتمع ذي ثقافة صحراوية وتراثية، في أحوال إنسانية وعمرانية ومعتقدية، من خلال شخصيات بعضها ساكن، وبعضها متوتر، نزّاع إلى التغيير، في مرحلة تحول، الحياة والطبيعة فيهما أقوى من الإنسان، والرواية هي الجنس الأدبي المؤهل لرصد هذا التحول. ثانياً، يؤكد أن ثمة كتابة أخرى واجتهاداً إضافياً في أدب فتي لشعوب أخرى، منها الأدب الموريتاني، الذي لا نعرف كثيراً عنه من أسف، والروائي منه بوجه خاص، وهما يحقنان الرواية العربية ويسبغان عليها ألواناً من بيئة ووجدان وحساسية مميزة، هي بنت بيئتها وتفاعل أبنائها معها ورؤيتهم الشخصية، ذاتياً وموضوعيًا، لتاريخها وإيقاع تحولاتها. إن ما بدأه الكوني في ما اصطلح عليه جزافًا رواية الصحراء، واتصل مع الروائي الموريتاني موسى ولد ابنه، بخاصة روايته» مدينة الرياح» وعند عمر الأنصاري في حفرياته في تاريخ وشعب تومبكتو، في روايتيه « الرجال الزرق» و «طبيب تومبكتو»؛ هذا الطريق المديد، الفسيح، يعبّده عبدالله ولد محمدي أكثر، يضيف إليه زاد الرحالة وطريقة المحقق، ما أغناهما، بلغة كلاسيكية، محكمة التركيب، تذكرنا بلغة كانت للرواية العربية.