لنسأل بلا خجل: هل تعرف الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence؟ بالأحرى، هل تعرفه بما يكفي كي تفهم بأريحيّة عبارة من نوع «الذكاء الاصطناعي يصل إلى النظم والبرامج والتطبيقات في 2020» التي تضمّنها تقرير صدر عن مؤسّسة «غارتنر» Gartner العالميّة أخيراً؟ ربما تبدو غير مفهومة كفاية، لأنه يفترض بديهيّاً أن الذكاء الاصطناعي موجود فعليّاً في نُظُم تشغيل الكومبيوتر، والتطبيقات الرقميّة كلّها، والبرامج المختلفة في الحواسيب وغيرها. إذاً، فما الذي جدّ للقول إنه سيصل إلى تلك الأشياء في 2020، بدل الالتفات إلى أنه موجود فعليّاً فيها! وللخروج من الإشكاليّة، يجدر تذكّر أن المصطلح يستخدم دوماً للإشارة إلى ذكاء الآلات، ما يعني أن الكومبيوتر والأدوات الإلكترونيّة الذكيّة كلها، هي المساحات التي يتمدد فيها الذكاء الاصطناعي، لأنها لا تعمل إلا بفضل قدراته. وفي المقابل، قصد تقرير «غارتنر» الإشارة إلى نوع معيّن منه، هو ذلك الذي يتّصل بقدرة الآلات على أن تتعلم ذاتيّاً، بمعنى أن تُعلِم نفسها بنفسها. وفي معظم الآلات الإلكترونيّة الشائعة، هناك ذكاء اصطناعي يتحرّك بالطُرُق التي بُرمِج فيها، فلا تتعلّم بذاتها من تلقاء ذاتها. ومثلاً، لا يستطيع كومبيوتر المكتب يستخدمه حاضراً محاسب في شركة ما، أن يتعلّم ذاتيّاً من الطُرُق التي يستخدم فيها، فيصبح قادراً على أن يستحضر برنامجي «وورد» و «إكسيل» ويربطهما مع الإنترنت، بمجرد بدء تشغيله. وفي مثل آخر، يستطيع برنامج المصحّح الإملائي في «وورد- مايكروسوفت» أن يؤشّر إلى أخطاء الإملاء، فماذا لو أنّه علّم نفسه بنفسه، الأخطاء التي يكرّرها مستخدمه، فتوقّعها قبل حدوثها؟ عندما تغيّر البرامج نفسها بنفسها إذاً، قصد تقرير «غارتنر» لفت النظر إلى تطوّر الذكاء الاصطناعي للأجهزة الإلكترونيّة، ليصل إلى مرحلة أن يعلّم نفسه بنفسه، فيتعرّف بنفسه على الصفات المميزة لكل مستخدم فرد للبرامج والنظم والتطبيقات، فيعدّل بنفسه أيضاً مواصفات تلك الأشياء. لنقل أنك عند استخدام تطبيق للعبة «حرب الحضارات»، تميل إلى اتّخاذ شخصية معينة فيها كأن تكون رامي القنابل. ولكنها شخصية سرعان ما تصل إلى حتفها، وهو أمر يزعجك بوضوح لأنك تكرّر العودة إلى البداية، بعد مقتل شخصيتك الافتراضيّة المحاربة، أو لا تعود تتدخّل في مجريات اللعبة. ماذا لو «فهم» التطبيق ذلك الأمر، ثم «تصرّف» من تلقاء ذاته، فمنع أن تُقْتل بسهولة، بل أجّل حدوث ذلك إلى نهاية اللعبة! كيف ستنظر إلى تلك اللعبة التي تمارسها عبر أجهزة تحملها بيديك، عندما يتصرف الذكاء الاصطناعي بطريقة تفاجئك تماماً؟ بعبارة اخرى، قصد تقرير «غارتنر» القول إن النُظُم والبرامج والتطبيقات ستكون قادرة على العمل خارج ما هي مبرمجة له أصلاً، بل إنها تضيف بنفسها إلى «ذكائها» الاصطناعي، ما تتعلّمه بالخبرة من التعامل مع مستخدمها. عندها، يصل الذكاء الاصطناعي القادر على تعليم نفسه بنفسه، إلى يديك كمستخدم، مثيراً سؤالاً مقلقاً عن علاقتك مع تلك الأشياء كلّها. وكمؤسّسة معنية بالبحوث المتعلّقة بصناعة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة، رأت «غارتنر» أن ذلك الأمر يتحقّق في سنوات قليلة مقبلة، بل يكون شائعاً تماماً مع حلول عام 2020. وفي التقرير ذاته، أشارت «غارتنر» إلى أنّ مصطلح الذكاء الاصطناعي لم يكن ضمن المئة الأكثر انتشاراً في عمليات البحث عن المعلومات التي يُجريها الجمهور الإلكتروني، في مطلع عام 2016. وانقلب الحال تدريجاً. واحتل المصطلح ذاته المرتبة السابعة في ربيع العام الحالي، ما يدل على زيادة شعبية علم الذكاء الاصطناعي، واهتمام شركات التقنيات الرقميّة به. البساطة بديلاً من «التهويل» تملك مؤسّسة «غارتنر» علاقات وثيقة مع ما يزيد على 11 ألف شركة تعمل في صناعة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، ما يجعلها مرجعاً موثوقاً في بحوث تلك الصناعة. وتأسّست «غارتنر» (مقرّها ولاية «كونيكتيكت» الأميركيّة) في عام 1979، وتشغّل 9000 موظف، من بينهم 1900 محلّل واستشاري بحوث المعلوماتية المعاصرة. وتوقّع التقرير ذاته أن يصبح الذكاء الاصطناعي ضمن أهم 5 أولويات للاستثمار بالنسبة إلى ما يزيد عن 30 في المئة من مديري شركات التقنيّات الرقميّة مع حلول عام 2020. ولم يفت التقرير ملامسة واقع سوء الفهم الذي يلحق أحياناً بمصطلح الذكاء الاصطناعي، مشيراً إلى أنّه يتضمّن ما سمّاه «دورة التهويل» («هايب سايكل» Hype Cycle)، بمعنى توقّع أشياء متطرفة من الآلات الذكيّة سواء لجهة ما تستطيعه فعليّاً (وهو محدود بالبرامج وشيفراتها والطريقة التي كتبت فيها من قِبَل خبراء بشريين)، أو توقّع الأسوأ بمعنى أن تقصي الإنسان من أعماله كافة، متسبّبة ببطالة هائلة مع صراع معلن أو مضمر بين البشر والآلات الذكيّة. ومن يتابع أفلام الخيال العلمي الهوليووديّة بإمكانه أن يلاحظ بسهولة ظاهرة «دورة التهويل» فيها. وفي السياق ذاته، تحدّث التقرير عن ظاهرة «الغسل بالذكاء الاصطناعي»، بمعنى تكاثر الادعاءات من قِبَل الشركات بأن برامجها أو نُظُمها أو تطبيقاتها، هي فريدة من نوعها في تضمّنها ذكاءً اصطناعيّاً يقدر على التعلّم ذاتيّاً. وشدّد التقرير على أن انتشار ذلك النوع من الذكاء يضرب الإدعاء بالتفرد والتميّز، بل يجعله أقرب إلى الكذب المضر بصاحبه أولاً. كيف يمكن تصديق إدعاءات الفرادة عند معرفة أن ما يزيد عن ألف شركة منخرطة كليّاً في تطوير الذكاء الاصطناعي القادر على تعليم نفسه بنفسه؟ واستطراداً، حضّت الشركة على تبني التقنيّات المبسطة في ذلك النوع من الذكاء الاصطناعي، بدل اللهاث خلف تقنيّات معقّدة على شاكلة «التعلّم العميق» Deep Learning الذي يحتاج إلى خبرات متطوّرة وواسعة ربما تكون خارج متناول معظم الشركات والمؤسّسات. استطراداً، أورد التقرير أنّ نصف الشركات التي تتعامل مع «غارتنر»، أقرّت بأن معظم موظّفيها ليست لديهم خبرات كافية في التعامل مع الذكاء الاصطناعي. وخلص التقرير إلى القول إأنّ قدرة الذكاء الاصطناعي في التعلّم ذاتيّاً، تكون مرتفعة الأهمية عندما يجري التنسيق بين البشر والآلات الذكيّة، بمعنى أن يتولى البشر تدريب الذكاء الاصطناعي في تلك الآلات على ما يريدونه أن يتعلّمه منهم.