ما الفارق بين اللعب واللهو عند جيل يعبر طفولته ومراهقته في بيوتنا راهناً، في ظلال الكومبيوتر والخليوي وال «تابلت» و «إكس بوكس» و «نينتندو» وغيرها، وبين ما عاشه الآباء من لهو وألعاب؟ ربما يجدر التأمّل في السؤال عائلياً وتربوياً، بدل التأفف الشائع من ميل الصغار والمراهقين ل «التسكع» في رفقة الشاشات الرقميّة، والتضجّر المتكرّر من الأوقات اللانهائية التي يقضيها الصغار وأيديهم لا تكف عن ملاعبة الشاشات المضيئة. لنتذكر أنّ جيلاً سبق، قضى أوقاتاً مماثلة في ما يشبه التبطّل واللعب الذي كأن لا طائل تحته، لكنه تعلّم منه كيف يصلح الألعاب والراديو والساعة والدرّاجة الهوائيّة (ونظيرتها الناريّة) وجهاز التسجيل الكاسيت وتفكيك الآلات على أنواعها، وإصلاح بعض أعطال السيارة، وتركيب ألعاب الليغو ومكعباتها، وصنع بعض أدوات اللعب البسيطة وغيرها. ومنذ آجال طويلة، لم يعد التربويّون يرون في تلك الأوقات، علكاً للوقت ولا ركضاً في الفراغ. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ ذلك النوع من اللهو ربما يبدو عبثياً ولكنه يقود إلى اكتساب مهارات قويّة، يختلف عن اللعب نفسه الذي يألف اختصاصيّو التربية والتعليم اعتباره أسلوباً لا يضاهى في التعلّم. هذا ليس لعباً، إنه لهو وتلهي وتسكع وحشريّة وتجارب من دون مُعلّم، وفيه كثير من «التخريب» والتكسير والتخبّط، لكنه يوصل إلى شيء ما، ويُكسب الطفل والمراهق مهارات يحتاجونها، وربما لا يجدون سوى أنفسهم مُدرّساً لها. لنترك الكلام النظري، ولنعط بعض الأمثلة. في لبنان مثلاً، عمد بعض المهتمين بالأجيال الرقميّة إلى إعطاء كاميرات فيديو رقميّة بسيطة لأطفال يعيشون في أمكنة محرومة تنحدر نوعية التعليم والتثقيف فيها. ولم يطلبوا منهم سوى تصوير ما يرون أنّه يهمهم، وصنع أشرطة عمّا يلفت نظرهم. وأعطت بعض تلك التجارب نتائج تستحق أن تكون موضوعاً لدراسة تربويّة معمّقة. وليس لبنان مثالاً فريداً، فثمة تجارب مماثلة في كثير من الدول العربية، ربما كان أبرزها ما يحصل في مصر، وعلى نطاق واسع، باستخدام كاميرا الخليوي. ومع النزوح الكثيف الذي رافق «الربيع العربي»، تكرّرت تجارب مماثلة في مخيّمات النزوح، بأيدي أطفال التشرّد. ما هو «التبطّل» رقميّاً؟ هناك مثل شديد القوة عن ذلك المعطى يأتي من الولاياتالمتحدة. وفي بلاد «العم سام»، تستخدم كلمة «تنكرنغ» Tinkering، لوصف الوقت الذي يقضيه الطفل أو المراهق في أعمال تافهة وغير مجدية ظاهرياً، مثل التمشية على الشاطئ لمغازلة الحسناوات أثناء العطلة الصيفية. ومن المستطاع ترجمة ذلك المصطلح عربياً بكلمات مثل التسكّع والتبطّل والتلهي وغيرها، مع تفضيل كلمة «لهو» في الإشارة إليها. وفي كتاب «ثقافة حرّة» الذي وضعه البروفسور لورانس ليسيغ، وهو أستاذ في المعلوماتيّة وقوانينها في «جامعة ستانفورد»، يظهر عرض لتجربة أميركية عن اللهو الرقمي. إذ يعرض وجهة نظر جون سيلي براون، الذي يترأس فريق علماء شركة «زيروكس»، عن ذلك الموضوع. وفي موقعه على الإنترنت، يصف براون عمله بأنه يتركز على: «التعلّم إنسانياً... وصنع بيئات معرفيّة تناسب عملية الابتكار». وينظر براون إلى التقنيّات الرقميّة في الابتكار، من منظور مختلف، بل يبدي براون حماسة للتقنيّات التي تُحسّن الديموقراطية، لكنه أشد حماسة لتلك التي تؤثّر في التعلّم. ويعتقد براون أن الأجيال المُعاصرة تتعلّم باللهو، ربما على غرار الآباء أيضاً. ويشرح ذلك قائلاً: «تمارس غالبيتنا اللهو في سنوات مبكرة، عبر ما تفعله بالدراجة والسيارة والراديو والموتورسيكل وآلة جزّ العشب وغيرها. ويبدو أن التقنيّات الرقميّة تفتح الباب لنمط آخر من اللهو يطاول الأفكار المُجرّدة، على رغم اتّخاذها شكلاً ماديّاً ملموساً. ومثلاً، ثمة مشروع في أميركا يضع في يد تلامذة المرحلة الثانوية أدوات رقميّة كي يستخدموها في التعبير عن أنفسهم. ويُسمى هذا المشروع «فقط فكّر!». وعمل بعض هؤلاء على الصور الشائعة للسياسيين. وأوصلهم استعمال التقنيّات الرقميّة إلى التمرّس بالأدوات التي تنتج الصور وتتلاعب بها رقميّاً. وفي مرحلة ثانية، صار أولئك المراهقون أكثر إدراكاً للطريقة التي تمارس تلك الصور تأثيرها في جمهور الناخبين، خصوصاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وبقول آخر، انخرط أولئك المراهقون في لهو رقمي، لكنهم تعلّموا الكثير، وتوسّعت آفاق معارفهم ثقافياً، وكذلك باتوا على معرفة بالطريقة التي تسخّر فيها الوسائل الرقميّة لإنتاج مواد إعلاميّة، خصوصاً لجهة تحريكها الجمهور على ال «سوشال ميديا».