فاجأني إبني الصغير ذو السنوات الخمس، عندما طلب مني أن أشتري له «آي فون» بلون أبيض. زاد من دهشتي أن هذا النوع وغيره من الهواتف الذكيّة، لا وجود لها في المنزل. وعند سؤاله عن غايته، أجاب أنه سيلعب به كما يفعل إبن الجيران. وإبني تلازم أصابعة جهاز الألعاب الإلكترونية «بي أس بي» معظم الوقت. وحاول إقناعي بأن هناك ألعاباً رقمية متنوّعة في ال «آي فون»، مُضيفاً أنه شاهد أحد الأطفال يحمل اثنين من الهواتف الذكيّة واحد له وآخر لوالدته. قابلت طلب ابني بالرفض. وحاولتُ الحديث عن ألعاب كنا نخترعها في طفولتنا، وعن لعبة القفز بالحبل وغيرها. لكنه لم يقتنع وساق حججاً أصبحت بديهية لدى الأطفال، حتى الصغار منهم. وثار في نفسي سؤال عن سرّ تعلّق الأطفال الشديد بالألعاب الإلكترونية في الكومبيوتر وال «الآي باد» وال «بي أس بي» وغيرها. أهي محاولة لتقليد أطفال آخرين أم نوع جديد من الإدمان؟ هل هذه الألعاب نعمة على الأطفال وأهاليهم أم أنها نقمة عليهم؟ «الجيل الرقمي» يركّز بصعوبة في العصر الرقمي، بات الطفل يمضي شطراً كبيراً من أوقاته مع أجهزة إلكترونية. والسؤال المحيّر هو: ما مدى تأثيرها على تطوّره وتفكيره؟ حاول تحقيق أجرته مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية بحث هذا السؤال أخيراً، وتسليط الضوء على أهميته حاضراً. تحدّث التحقيق عن طفل صغير عمره سنة وثلاثة أشهر يمضي جلّ وقته في اللعب بالتلفون الذكيّ، وعن طفل آخر أكبر منه قليلاً، يستيقظ صباحاً على مُنبّه ال «آي باد» الذي يعتبره أحد أفضل... أصدقائه! وفي إحدى المدارس الفرنسية، سألت إحدى الطالبات معلمتها عن جدوى التعلّم، مع توافر المعلومات كلها في الموسوعة الإلكترونية المفتوحة «ويكيبيديا». واعترضت طالبة اخرى على دراسة قواعد اللغة الفرنسية، لأن والدها يستخدم المُصحّح اللغوي الموجود على الكومبيوتر... ورفض طالب الكتابة بقلم الحبر، مُطالباً بالسماح بإدخال الكومبيوتر المحمول إلى المدرسة. وأورد آخرون أنهم لا ينامون ليلاً لأنهم مشغولون بالحديث على ال «شات» في مواقع «تويتر» و «فايسبوك» عندما ينام أهاليهم. ربما لا تتعدى تلك الأمور كونها واقعاً للطفولة الطبيعية في العقد الثاني من القرن 21. «حدثت ثورة غيّرت الانسانية، ولم يعد هناك شيء كما كان من قبل. ربما بتنا نرى مسوخاً بشرية تصنعها يد التقنية الرقمية»، وفق كلمات أحد علماء النفس البارزين في فرنسا. وأضاف: «لدينا أطفال صغار صوّرهم أهلهم بجهاز الموجات فوق الصوتية («إيكو») الثلاثي الأبعاد وهم في بطون أمهاتهم. وفتحوا أعينهم في عالم رقمي. ووجدوا أنفسهم محاطين بشاشات ولوحات وكومبيوترات وألعاب فيديو، ثم درجوا على الشغف باستخدامها، قبل أن يستطيعوا الكلام أحياناً. وعند دخولهم المدرسة، يمضون على الأقل خمس ساعات يومياً مع هذه الأجهزة التي احتلت مكان الألعاب التقليدية. وفي الجامعة، يمتلكون كومبيوترات محمولة، ويرسل كل منهم يومياً 83 رسالة بشكل وسطي. والسؤال هو: كيف نثق بأن هذه الأجهزة المستجدّة لن تكون لها آثار سلبية؟ ما هو تأثير هذه العوالم الجديدة على نمو الأطفال وذكائهم وطريقتهم في العيش والتفكير»؟ ووفق وسائل الإعلام، تتضارب آراء الجمهور الواسع في الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا الشمالية بصدد العوالم الرقمية وآثارها، إذ يرى مؤيّدوها أن «الرقميين» غالباً ما يكونون أكثر فضولاً، ويتمتّعون بالحيوية والليونة، مع تنامي ملحوظ في سرعتهم في الفهم. ويوضح المؤيّدون أيضاً أن الثورات التكنولوجية ربما أثارت قلقاً لدى بعض الناس، لكن الماضي يشهد على تخوّف فيلسوف بقامة سقراط، من تأثير الكتابة على ذاكرة الناس! الدماغ في نشاط و... إدمان في المقلب الآخر من هذا المشهد، يشير معارضو الثورة الرقميّة، كالبروفسورة سوزان غرينفلد، وهي اختصاصية بمرض «ألزهايمر» في جامعة أوكسفورد، إلى معاناة الجيل الرقمي أعراضاً كصعوبة التركيز، وعُسر التواصل مع الآخرين والتشارك معهم، وتراجع المشاعر العاطفية وغيرها. في سياق متّصل، أجرى الباحث الفرنسي أوليفيه آوديه، بحثاً حول الذكاء وطُرُق تشكّله. ومنذ العام 2000، اهتم بتأثير الشاشات على الأطفال منذ نعومة أظفارهم. وأوضح أنه في السنوات الأولى من عمر الانسان، ينمو الدماغ بسرعة، ويكون هشّاً وحسّاساً جداً لكل ما يراه ويلمسه ويحسّ به. وفي مختبره، راقب آوديه نشاط أدمغة مجموعة من الأطفال باستخدام صور «الرنين المغناطيسي»، إضافة الى قياس النشاط الكهربائي للشبكة العصبية عندما يكون الأطفال أمام الكومبيوتر. ولاحظ آوديه أنه «بعد اختراع المطبعة، تطوّر نمط من الذكاء يتّسم بالبطء والتراكم. ومع شاشات الكومبيوتر، سلك الذكاء نمطاً جديداً يتميّز بالانسيابية والسرعة والتقطّع والآليّة. وأصبحت المناطق الخلفيّة من الدماغ هي الأكثر نشاطاً، كما زادت سرعة تنبّه قشرة الفصّ الجبهي في الدماغ، التي تُسمّى «جهاز الحضارة» وأحياناً «مركز توليف الشخصية». وأضاف آوديه أنه «ليس أمراً كارثيّاً القول إن هناك شيئاً من الممكن أن يغيّر ذكاء الإنسان. ويرتبط هذا الأمر حاضراً بالوقت الذي يمضيه الطفل أمام الشاشة، وبوجود شخص بالغ بقربه، إضافة الى نوعية ما يشاهده. ثمة مؤشّرات تدلّ إلى أن بعض البرامج الإلكترونية «التعليمية» تُسرّع من إتقان القراءة، وبعض ألعاب الفيديو تُحسّن الانتباه الانتقائي والقدرة على التحكّم، شرط أن يستخدمها الطفل في شكل معتدل». خطر الكآبة إذا استُعمِلَت لوقت طويل، من الممكن أن تؤدي هذه الشاشات الساحرة إلى تصرفات إدمانية. هذا بعض ما خلُص إليه جان مارتينو، وهو اختصاصي فرنسي في علم نفس الأطفال. وأورد أنه لاحظ لدى المراهقين المهووسين بألعاب الفيديو، بمعنى أنهم يقضون ما يزيد على تسع ساعات في الأسبوع في اللعب بها، زيادة في حجم جزء مركزي من الدماغ. وأوضح مارتينو أن ألعاب الفيديو تحفّز إحدى مناطق الدماغ التي تنقاطع فيها المعلومات القادمة من الفصّ الجبهي. واستنتج أن ممارسة هذه الألعاب، كمستخدمي الانترنت، تؤدي إلى إفراز منبه نفسي قوي، هو ال «دوبامين» Dopamine، على غرار ما يحصل عند المتعلّقين إدمانياً بالتبغ أو الكحول أو ألعاب القمار أو الكوكايين.