يعود موضوع المستشفيات والطبابة في لبنان إلى الواجهة بين الحين والآخر، عبر قضايا فساد، أو موت مريض فقير على باب قسم الطوارئ وربما لخطأ طبي قاتل. وفي حين يعيش البلد اليوم خضّة بسبب قضية فساد في أدوية السرطان، نقلت وسائل إعلام لبنانية قبل بضعة أسابيع قصة لاجئة سورية اضطرت لوضع ابنها خارج المستشفى عند مدخل الطوارئ، وقيل حينذاك أن المستشفى رفض استقبال المرأة لأسباب مالية، وعادت إدارة المستشفى واستقبلت المرأة ووليدها مقدمة لهما العناية الطبية اللازمة. ومعلوم أن لبنان يتميز بقطاع طبي متقدم مقارنة بسورية المجاورة، إن على صعيد الخبرات البشرية المختصّة أو المرافق الطبية الحديثة، لكن تبقى الشكوى من تردي الخدمات المقدمة في بعض المستشفيات الحكومية، وارتفاع كلفة الاستشفاء في المستشفيات الخاصة. ووسط هذه الحالة المتشعبة والمكلفة على اللبنانيين أنفسهم، جاء اللاجئون السوريون ليواجهوا معضلة إضافية تتعلق بصحتهم، بعيداً من الحالات الطارئة والمستعجلة. فقد انخفض معيار العناية الطبية لكثر منهم إلى عتبة «البقاء على قيد الحياة». وفي بلدهم اعتاد كثر من السوريين على الاستشفاء أولاً لدى صيدلي الحي أو القرية الذي يقوم مقام الطبيب في حالات كثيرة، فيشخص المرض اعتماداً على خبرته ويصف الدواء، وفي حالات أخرى يحدد المريض بنفسه أي اختصاص طبي هو المناسب لحالته، فيتوجه من تلقاء نفسه إلى عيادة الطبيب المختص ليعرض حالته من دون المرور قبلًا بطبيب عام أو طبيب العائلة. عيادات الأطباء الخاصة تشكل جزءاً أساسياً وشبه وحيد من رحلة الاستشفاء في غالبية الحالات، فدخول المستشفى لا يكون إلا للحوادث الكبيرة والعمليات الجراحية أو الولادات. أما ثقافة التأمين الصحي فهي محدودة الانتشار لغياب المصارف وشركات التأمين الخاصة عن هذا البلد لعقود طويلة، ولانخفاض كلفة الطبابة على نحو عام وتوافر الاستشفاء شبه المجاني في المستشفيات العامة وإن بنوعية رعاية متدنية. لكن الوضع اختلف جذرياً بالنسبة إلى اللاجئين السوريين في لبنان حيث النظام الطبي مغاير كلياً. فزيارة الطبيب في عيادته داخل المستشفى بدل عيادته الخاصة أمر اعتيادي، فللمستشفيات موقع أساسي في دورة الاستطباب، أما ثقافة التأمين الصحي أو الضمان الاجتماعي فهي أساسية، ومن دونها يمسي الاستشفاء على نفقة المريض كابوساً لا يمكن لكثر تحمله. المفوضية العليا لشؤون اللاجئين و «بسبب الطلب الكبير ونقص في التمويل» تغطي كلفة 75 في المئة من حالات استشفاء محددة للاجئين السوريين، هي الحالات الطارئة والمهددة للحياة، لتبقى نسبة 25 في المئة على عاتق المريض نفسه، و100 في المئة لغير تلك الحالات المستعجلة. وفي الوقت الذي يحظر القانون اللبناني على السوريين العمل سوى في الأعمال التي تعتبر ثانوية كالبناء والزراعة، كأجراء لا كأرباب عمل، ينخفض معدل دخل أكثر من نصف السوريين العاملين في لبنان إلى ما دون 400 دولار شهرياً بحسب دراسة سابقة لمعهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، الأمر الذي يجعل اعتمادهم على أنفسهم في تغطية كلفة الاستشفاء يبدو مستحيلاً. يبقى الملاذ بالنسبة إلى هؤلاء هو الجمعيات الخيرية والمنظمات الإغاثية التي تقدم خدمات طبية مباشرة، أو التي تساهم على قدر استطاعتها في تغطية ال25 في المئة المتبقية من الكلفة، في دور مكمل لدور مفوضية اللاجئين. ويلعب المتبرعون الخاصون والتكافل الاجتماعي دوراً أساسياً ملفتاً في هذا الشأن على رغم التراجع الذي أصابه مع تقدم عمر الأزمة السورية. أبو حسن الذي قدم مضطراً من ريف حمص مع عائلته الصغيرة إلى لبنان فوجئ بحالة ابنته الصحية التي تبين أنها تعاني من ورم يجب استئصاله، ووافقت مفوضية اللاجئين على تغطية 75 في المئة من كلفة عملية الاستئصال فقط. أما الفحوصات السابقة للاستئصال من تحاليل دم وصور شعاعية وخزعة تكلف ما قد يصل إلى 900 دولار فلم تتعرف إليها، بينما معدل دخل الأب بمجمله هو 500 دولار. وبعد أن «عانت الطفلة آلاماً مبرحة لأيام وتراجعت حالتها النفسية، تم جمع المبلغ المطلوب من المجتمع المحلي ومن متبرع مقيم خارج لبنان»، ما أتاح إجراء التحاليل والصور ومن ثم العملية التي تأخرت عن موعدها. وفي وقت يشكو اللبنانيون أنفسهم من الكلفة الباهظة للاستشفاء في بلدهم، يحاولون تحصين أنفسهم من خلال اشتراكهم في الضمان الاجتماعي الذي يفترض أن يكون إلزامياً لكل موظفي وعمال القطاعين العام والخاص، أو بواسطة تأمين خاص عبر واحدة من شركات التأمين الكثيرة. وشكل لجوء أكثر من مليون مواطن سوري إلى لبنان على مدى السنوات الست الماضية ضغطاً كبيراً على المنظومة الصحية. فجزء كبير من هؤلاء اللاجئين تأثر صحياً بالأعمال العسكرية الدائرة في سورية، كما أن عدم توافر الشروط اللازمة من حيث الغذاء والسكن لشريحة واسعة منهم ساهم في تردي أحوالهم الصحية. هذا الضغط ترافق لحسن الحظ مع تمويل متعدد المصدر، منه ما يمر بقنوات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، ولكن يبقى التمويل المحقق دون المستوى الكافي لتغطية الحاجات الطبية للاجئين، فيصبر بعضهم على أوجاعه بينما تتدبر أمور آخرين جمعيات خيرية ومنظمات إنسانية محلية.