تعتبر كلفة الاستشفاء في لبنان باهظة، في بلد لا يتخطى فيه الحد الأدنى للأجور ال 500 ألف ليرة (حوالى 330 دولاراً أميركياً). كلفة تدفع بالعديد من اللبنانيين إلى البحث عن بديل يجنبهم هذا الوضع، وبين الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي ووزارة الصحة، يجد اللبناني متنفساً في المستوصفات الطبية وأخيراً في كليات الصحة في الجامعات التي تقدم معاينة طبية بأسعار زهيدة، كما يلجأ البعض إلى «استيراد» أدويتهم الخاصة من بلدان مجاورة، بحثاً عن السعر الأفضل... ترفع رأسها في محاولة لكظم غيظها. تحاول السيطرة على أعصابها كي لا تثور غضباً في وجه الستيني الذي ينقر على الكومبيوتر في إصبع واحد. تلتفت إلى الخلف تجد أن الصف يطول والمنتظرين أصبحوا جموعاً على رغم الوقت المبكر. ينتفض العجوز معلناً أن عطلاً تقنياً أصاب الكومبيوتر. تقول له بنبرة مرتفعة: «هذا المال، اعطني ورقة كي يبدأوا بالصورة الشعاعية، إلى حين إصلاح العطل». يرمقها بنظرة ساخرة: «لا يمكن ذلك فنحن نعطي الأمر من هنا لمركز التصوير الشعاعي، عبر الكومبيوتر... عليك الانتظار». تمتص دمعتها، يدور في رأسها ما مرت به منذ الخامسة فجراً حتى السابعة، مرت ساعتان عرّجت فيهما على المحاسبة في المستشفى ثلاث مرات، فور إدخالها أختها إلى قسم الطوارئ وهي تنزف من رأسها بعد أن فقدت توازنها ووقعت أرضاً. دفعت 325 ألف ليرة (218 دولاراً أميركياً) إلى ما قبل العطل التقني، وفور إصلاحه يتوجب عليها دفع 250 ألف ليرة (170 دولاراً) من أجل الصورة الشعاعية... وقبل الخروج من باب الطوارئ دفعت 35 ألف ليرة (23 دولاراً) ثمن ثلاث غرزات في الرأس، التي بدت أنها المشكلة الوحيدة بعد انتظار خمس ساعات. ساعات تخللتها سلسلة فحوصات، وزيارة ما يقارب ثمانية أطباء متدربين (وهم من تلامذة كلية الطب في إحدى الجامعات العريقة، ويتدربون في هذا المستشفى)، وتصوير... وحوالى 411 دولاراً أميركياً. حالة توصف بالسهلة على أبواب مستشفيات لبنان، إذا ما قورنت بعشرات الحالات التي ترفضها أقسام الطوارئ، إذا لم يتم تأمين مبالغ تصل إلى الملايين قبل البدء في معاينة المريض. والصدمة أمام شباك المحاسبة في المستشفى لا تعتبر استثناء لا سيما إذا كان المريض لا يملك أي تغطية طبية من الضمان الاجتماعي أو شركة التأمين، ما يطلق يد المستشفى في التسعيرة من دون أدنى رقابة. تساؤلات كثيرة عن الجدوى من إجراء فحص مخبري للسكري على سبيل المثل يطلقها أهل المريض الذي نقل إلى المستشفى وهو يعاني من حروق، ولكنهم ما يلبثون أن يخضعوا لطلبات الطبيب «على أساس أنه خبير». ويخضع الأهل لكل طلب من طلبات الطبيب المناوب ويبدأ ذهابهم وإيابهم إلى شباك المحاسبة، وفي رأسهم هاجس واحد هو سلامة مريضهم. وخوفاً من أن يقصروا بأي أمر يفتحون الباب على مصراعيه لأي طلبات، يصفها بعض الممرضين في غرف الطوارئ «المنهل الأساسي لأرباح المستشفى». والوصف نابع من السعر الذي يطلبه المستشفى مقارنة بالكلفة العامة لأي من الفحوصات أو الصور الشعاعية. وفي حين يقدر البعض أن المستشفيات لا سيما «العريقة» منها تحصل على سعر الكلفة مضروباً بثلاث مرات على الأقل، لا يجد المواطن من طريقة إلاّ استبعاد مستشفى تلو الآخر عن لائحته، ويلجأ في كل مرة إلى المستشفى الذي يسمع بأن أسعاره أفضل. تفاوت الأسعار بين المستشفيات، يفتح الباب على سؤالين على الأقل، مدى جودة الخدمات الطبية في المستشفى «الأوفر»، وإذا ما كانت متطابقة فلماذا لا يتم توحيد كلفة الاستشفاء؟ أسئلة تعتبر «عصية» على الإجابة، ويصبح استخدام المواطن لعبارة «أصحاب ضمير»، الوصف الوحيد الذي يمكن استخدامه. ويشرح موظف في مستشفى «متوسط الأسعار»: «نحصل في المستشفيات على أدوية جينيريك، وهي أدوية مطابقة للأدوية الأصلية إلاّ أننا نحصل عليها بسعر أقل، ولكن بعض المستشفيات يبيعها للمريض على أنها أصلية». الفارق الكبير في الفاتورة لا يقتصر على الدواء، وإنما يتعداه ليشمل التصوير الشعاعي وكلفة الفحوصات المخبرية، والتي أصبح من المتعارف أن المستشفى يلزم «مريضه» بإجرائها في مختبراته بحجة أنه «لا يعترف بنتائج أي مختبر آخر». الحجة عينها يستخدمها كثير من الأطباء الذين ينصحون بمختبر معين، وأخيراً باتوا يجبرون مرضاهم على التعامل مع مختبر من دون آخر، وحقيقة الأمر أن الفارق لا يكمن في جودة الخدمة التي يقدمها هذا المختبر أو ذاك وإنما تحديداً «في النسبة التي يدفعها المختبر للطبيب عن كل مريض «يرسله» وتصل هذه النسبة إلى 30 في المئة من سعر الفحص»، علماً بأن هذه الطريقة في التعامل غير قانونية. التمسك بمختبر صحي يخضع له المريض تماماً كخضوعه للوصفات الطبية المختلفة، وإن يشكك البعض بترويج الأطباء لأدوية معينة على حساب أخرى، مستندين بذلك إلى كمية مندوبي التي تزور الطبيب وطريقة تعامله معهم. اللبنانيون المستفيدون من التقديمات الصحية للضمان الاجتماعي يبلغ عددهم حوالى مليون و300 ألف مستفيد، والشريحة المتبقية من المواطنين تعتمد في غالبيتها على وزارة الصحة في تقديم الخدمات الطبية، وتبقى هناك شريحة كبرى تعاني من «الحرمان الصحي»، ومعظم هؤلاء من الأجانب المقيمين في لبنان، مع العلم أنه يتوجب على العامل الأجنبي دفع رسوم للضمان الاجتماعي كاللبناني ولكن من دون الاستفادة من خدماته. والمحظوظون منهم يتعاملون مع شركة تأمين خاصة، تساهم في سد الثغرة التي يتركها الضمان الاجتماعي والذي يغطي ما نسبته 80 إلى 90 في المئة من كلفة الاستشفاء والأدوية. ولكن لا يلبث اللبناني أن يجد نفسه مراوحاً مكانه في دوامة تكبر مع ازدياد الخدمات، فالتأمين الصحي غالباً ما يرفض تغطية أي علاج أو مرض أو جراحة لا يغطيها الضمان الاجتماعي، ومع الإشارة إلى أن المضمون لا يحق له الاستفادة من تقديمات وزارة الصحة، يجد المريض نفسه «فجأة غير مغطى من أي جهة تماماً كالمحروم صحياً». تتراوح تسعيرة الطبيب المختص بين 50 ألف ليرة و 120 ألفاً، في حين أن الضمان الاجتماعي يدفع 24 ألفاً عن الزيارة الأولى للطبيب، و16 ألفاً عن الثانية إذا تمت في الشهر ذاته، ما يدفع بكثير من الأطباء للتعاطف مع مرضاهم وتوزيع الكشفيات على أكثر من ورقة بفارق شهر بين التاريخين. تحايل يعتبره الكثيرون مشروعاً في ظل الضغط المعيشي الذي يرزح تحته المواطن، لا سيما وأن استرداد المال من الضمان بات معضلة كبرى. وفي حين تجري معاملات الضمان في شكل جيد في كثير من المناطق في لبنان، إلاّ أن المضمونين التابعين لمراكز بيروت، يسترجعون كلفة طبابتهم بعد عامين على الأقل. أمر يعيده المدير العام للضمان الاجتماعي الدكتور محمد كركي «إلى أن مكتب بيروت على سبيل المثل يعمل ب60 في المئة من طاقته، ما يعني أن كل سنتين ونصف نتأخر سنة إلى الوراء». نسبة الوظائف الشاغرة في ملاك الضمان الاجتماعي تصل إلى 39 في المئة، ويتوقع أن يرتفع هذا العدد في السنوات المقبلة، ما يعني أن الوضع سيتفاقم، إلاّ في حال قيام مجلس الخدمة المدنية بإجراء الامتحانات اللازمة وتعيين موظفين جدد. وفي ظل التوقعات السلبية لواقع العمل داخل ملاك الضمان والذي يصل إلى 68 مستخدماً كمعدل وسطي سنوياً. يقترح كركي «دفع 480 ألف ليرة سنوياً (320 دولاراً أميركياً) للمؤسسة عن كل مستفيد من الضمان، وفي المقابل تقوم المؤسسات بتغطية متطلبات المضمون أجمعها من دون العودة إلى الضمان والغرق في زواريبه البيروقراطية». اقتراح يعتبره كركي منصفاً للجميع لا سيما الموظف، مشدداً على أن أي شكوى عن تخاذل المؤسسة يوصل إلى فضّ الاتفاق معها والعودة إلى الطريقة المتعارف عليها في التعامل. من جهتها أعربت بعض المؤسسات عن رغبتها في الدخول في هذه المعادلة الجديدة، في حين أبدت مؤسسات أخرى تحفظها عن ذلك، لا سيما المؤسسات التي يعتبر متوسط عمر موظفيها مرتفعاً وبالتالي تجد أن المعادلة «خسارة مادية لها». ومن الجدير ذكره، أنه فضلاً عن توقف الضمان الاجتماعي عن تغطية المريض عندما يبلغ سن ال 64 وهو سن التقاعد، فإن معظم شركات التأمين تقلص خدماتها وتضع شروطاً أكثر صرامة مع تقدم الفرد في العمر. الواقع اللوجستي للضمان، يدفع بكثير من اللبنانيين إلى شراء أدويتهم من سورية، حيث يشترون بعض الأدوية بأسعار أقل بكثير من السوق اللبنانية. وعلى سبيل المثل فان أحد أدوية الصرع كلفته في سورية 20 دولاراً بينما يصل سعره في لبنان إلى حوالى 70 دولاراً. أسعار الدواء العالية في لبنان يعيدها المعنيون إلى كلفة استيراده، في حين أن سورية لديها مصانع أدوية خاصة. ويُذكر أن تفاوتاً محدوداً يطاول سعر الدواء بين صيدلية وأخرى. وكانت نقابة الصيادلة أصدرت قرارات لتنظيم عمل الصيدليات ومنها منع هذه الصيدليات من التعامل مباشرة مع شركات التأمين. مشكلات متعددة يعمل الضمان الاجتماعي على الالتفاف عليها من أجل تأمين خدمات أفضل للمواطن، وكان كركي اقترح أخيراً تسوية على المؤسسات تقضي بالتخلص من التراكم عبر وضع كلفة إجمالية بعد أخذ عينة عشوائية، شهر من كل عام، والعمل على الوصول الى اتفاق على نسبة مئوية بهدف التخلص من المعاملات المتراكمة، وتقوم المؤسسات من جهتها بإعطاء براءة ذمة مالية للضمان، على أن تبدأ صفحة جديدة بينهما». تسوية قبل فيها الكثير من المؤسسات الكبيرة لا سيما المستشفيات، التي تشكل كلفة الطبابة داخلها 55 في المئة من إجمالي التقديمات الصحية لصندوق الضمان. علاقة متضاربة بين المؤسسات، تبقى مصلحة المواطن وحدها على المحك، إذ يمكن اعتباره الخاسر الأكبر. وتصبح المستوصفات الاجتماعية والتي تتركز في معظمها في الأحياء والمناطق الشعبية المتنفس الوحيد لكثير من اللبنانيين لا سيما محدودي الدخل. وقد انضمت مؤخراً عدد من كليات الصحة في الجامعات لتلك المستوصفات، حيث يقدم "الأطباء الطلاب"الخدمات الصحية بأسعار زهيدة. وفي حين يخاف البعض من "تسليم نفسه إلى طالب"، يمني آخرون أنفسهم بأن هؤلاء الطلاب يعملون تحت إشراف نخبة من الأطباء الخبراء، معتبرين أن الحالة في طوارئ كثير من المستشفيات في لبنان هي نفسها حيث يقوم الطلاب ب"التدرج بصحة الناس".