عن الموت المجاني وفوضى الحرب، والقنابل، والبراميل المتفجرة، وفتاوى الدم، ووكلاء السماء المزعومين، والجنرالات، يأتي ديوان الشاعرة المصرية أمل جمال «لا وردة للحرب» (بتانة)، متكئاً على موقف احتجاجي من العالم، فيسائل خسة الواقع، وتماهيه المستمر مع العنف والثأر والتوحش، ومن ثم تتواتر صيغ الإنشاء المحمَّلة بالنداء والاستفهام والتمني، لتخلخل البنى المستقرة إزاء عالم قاس درَج على الموت: «يا إله المحبين/ دماؤنا/ معلقة على/ فتوى وقنبلة/ والأنبياء الكذبة/ يتنزهون في شوارعنا/ فأعطنا من حنانك/ ما يوقف الكوابيس/ ويعيد لنا الأحلام». في نهارات تبدأ بالقتل لا شك أن ثمة شيئاً نبيلاً قد تسرب من هذا العالم، ومن ثم يصبح النهار الجديد محض أمنية فارغة، تتسع معها مساحات المجاز الشعري. تحيل مفردة «النهار» بحمولاتها الدلالية والإيحائية إلى إنسان ينفض عن كاهله غبار النوم، ويتأهب لطرح الأسئلة: «إنه نهار جديد/ يزيح هدأة النوم عن جسده/ ويغسل أسنانه ويُحَضّر/ قهوته الممزوجة بالأسئلة/ ترى كم عدد القتلى اليوم/ وكيف صعدوا إلى الله؟/ ذبحاً أم بقنبلة صغيرةٍ/ تتعلمُ الموتَ/ أم ببرميلٍ يئس من الحياة/ في القرى ففجَّرها/ أم بالغازات الطيبة/ التي تترك الأطفال/ نائمين هادئين متناثرين/ في الشوارع/ ترى أين يحلق/ شبح الموت الآن/ وأين سيزرع حديقته/ الجديدة/ ومتى سيفجر نهر الدماء؟» (ص 14). وعبر 28 قصيدة تتفاوت بين الطول والقصر، يتشكل المتن الشعري للديوان، الذي تهيمن عليه روح الأسئلة القلقة حول عالَمٍ فقدَ صوابَه، وتضاءلت فيه الأماني لتصبح عين ما طرحه ألبير كامو الذي تُصدر الشاعرة ديوانها بجملته الدالة: «لسنا ننشد عالماً لا يُقتل فيه أحد، بل عالماً لا يمكن فيه تبرير فعل القتل». يرصد الديوان عالماً عبثياً إذاً، يحتفي بالموت، ويجعله خبزاً يومياً، وتصبح تيمة الموت المجاني بمثابة البنية المهيمنة على النص، وتتقاطع معها جملة من التيمات المحفزة للمعنى، والمنتجة لأفق دلالي وسيع، حيث نجد حضوراً للقتل، والغدر، والخوف، والعصف، والتشرد، والسبي، والجنون، والتوحش في قصائد من قبيل: «صلاة الخوف/ عصف/ أكذب/ قالت البنت/ أيتها المدافع المشرعة/ أيها الجنرال/ سيدتي العولمة/ حذر/ غدر/ سبايا/ لاجئون». تبدو «قالت البنت» القصيدة المركزية في الديوان، وإلى متنها الشعري يحيل العنوان «لا وردة للحرب»، وإلى روحها المؤرقة بيُتم العالم وخسته تتواتر المقاطع التسعة غير المُرقمة التي تشكل جوهر القصيدة، بدءاً من اليقين العارم الذي بدا موظفاً آلية النفي بنعومة شديدة، ومستعيناً بالمجاز: «لا وردة أضعها على جبيني/ هذا الصباح لينزل الندى/ على الحروب فيطفئها/ لا قلب يشرق/ من قنبلة»، ومروراً بالسؤال الذي يتلو الإقرار: «أنا يتيمةٌ يا رب/ ودموعي لم تعد تضيء/ فكيف أعبر إلى الضوء وحدي؟»، ثم تقارب القصيدةُ الموتَ ذاته، وتؤنسنه، وتتجه الذات الشاعرة صوب السخرية من مضائه الذي لا يرحم، من مباغتته الدائمة للفقراء الذين طحنهم تجار الدين والسلاح والأوطان المهشمة: «على درج الفقراء/ يجلس الموت منتظراً/ حذاءك الذي يكبس زر الانفجارات/ أيها الموت: تفضل هاهنا/ لست غريباً عن عائلتي/ أيها الموت استرح/ سأصنع لك شاياً/ وأفتح التلفزيون/ وأصمت/ حتى تنتهي الحرب/ من ترتيب قوائمك الجديدة»، ووصولاً إلى النداء المسكون بالحسرة والاستنكار والغضب في نهاية القصيدة: «أيها الجنرالات/ ماذا تبقى لي؟/ فردةٌ من حذاء أبي/ وصورةُ أمي التي لم أعرفها/ ونصف نظرة على الخواء» (ص26). تبدو عناوين القصائد بنية دالة قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار الشعري للنصوص، ففي «رسائل» يهيمن خطابٌ يناهض الموت والحرب، فيصبح بمثابة الرسالة الصادرة من الذات الشاعرة صوب هذا الجنون اليومي المسمى بالعالم: «أيها العالم/ أغلق ترسانة أفواههم/ وفوهات المدافع/ واسمح لعصفورة الروح/ أن تكمل أغنية؛ أغنية واحدة/ تمنى قابيلُ/ أن يكتبها لنا، بعد أن نبش له الغراب». (ص28). وهذا الوعي الرسولي بمثاليته المفرطة يبدو ابناً لعالم رومانتيكي في جوهره، لم تزل فيه الذاتُ الشاعرةُ تعتقد في قدرتها على تغيير العالم، ومغالبة قبحه اللانهائي. وتحيل الشاعرة هنا أيضاً إلى بدايات الصراع الإنساني عبر قصة قابيل وهابيل، كما تتناص مع القرآن في ما يتعلق بحكاية الغراب الذي علَّم قابيل كيف يواري سوأة أخيه. تتواتر صيغ النداء المحمل بطاقات إيحائية ودلالية تكشف عنها قصائد «أيتها المدافع المشرعة/ أيها الجنرال/ سيدتي العولمة»، ويبدو الاستفهام حاضراً في «انفجار»، بدءاً من الاستهلال: «لمن هذه الأحلامُ/ المغموسةُ في دم الموت؟»؛ ووصولاً إلى المختتم: «لمن نتضرع/ في الأرض/أن تخرس/ آلة الدم/ عن يُتم أطفالنا؟» (ص 36). ثمة إحالات تفتح أفق الدلالة في النص، من قبيل الإشارة إلى «أنتيغون»، والتَّماس مع الأسطورة اليونانية الشهيرة، والإحالة أيضاً إلى مارتن لوثر كينغ؛ حيث الإشارة إلى فكرة الإصلاح الديني، في تفعيل لآلية الإسقاط على عالمنا العربي المستسلم لماضيه، والذي يبدو بحاجة حقيقية إلى مغادرة هذه السياقات الجاهزة. تنهض القصائد القصيرة على آلية المفارقة، وتتشكل بنيتها من مقطع واحد صغير، كاشفة عن واقع مأسوي، يختلط فيه العبث بالدمار: «تحت ظل القصف/ قالت طفلة: - أقعدَتها الحرب بساقٍ واحدة-/ كيف سأجري؟/ فطارت إلى الله/ بصاروخ جديد» (ص50). وتحضر تقنيةُ المفارقة أيضاً في النصوص القصيرة (أيها الجنرال/ حذر/ غدر) متخذة أبعاداً دلالية مختلفة. ففي «حذر»؛ مثلاً؛ ثمة حس شاك، متسائل، يخشى العالم ويجابهه في آن. عن آلة جهنمية تحيلُ الحياةَ إلى ظلالٍ خربة، ينهشها الوجع، ويأكلها الموت، تبني أمل جمال عالمَها الشعري، بلا تكلف وبلا ادعاء، وإنما عطفاً على تلك البساطة الآسرة، التي تتجلى في الرهافة الداخلية للنصوص؛ على رغم قسوة المعنى الظاهري، الذي يرصد عالماً لم يزل يرقص على «موسيقى الكلاشنيكوف»، و «طبول الانفجارات».