ينحو الشاعر المصري أحمد بلبولة في ديوانه الجديد «طريق الآلهة» تجاه التعبيد لمشروعه الشعري، محتفظاً للقصيدة بقدرتها على الإدهاش، وللنسق الجمالي بخصوصيته المتكئة هنا على لعبة الإيقاع المنتج للدلالة، والتي خطا من أجلها الشاعر طريقاً شاقاً أوصله إلى نصه الراهن الذي يعد – وباختصار - أكثر نضجاً من ديوانيه السابقين: «هُبل» و «طائر الهوملي»، وإن بدا الثاني «طائر الهوملي» حاوياً تجربة خاصة، ونزوعاً فلسفياً لا يمكن إنكاره. غير أنه وفي «طريق الآلهة» يبدو الشاعر أكثر قبضاً على لحظته الشعرية، متلمساً إياها ما بين «النماذج» و «الأبطال»، قسمي الديوان المركزيين، واللذين يشكلان متنه الشعري، كما تأخذ العلاقة بينهما طابعاً جدلياً، فيفضي أحدهما إلى الآخر ويحيل إليه، في نزوع ملحمي يمكن تلمسه لذا، فثمة استراتيجيات للقصيد هنا، تتحكم في مساراته، وتتعاطى معه على نحو منطقي، يحوي نزوعاً فلسفياً دالاً، كما يضرب في فضاءات سديمية، تتداخل وتتقاطع معاً لتشكل جدارية بديعة عن الحياة، والعالم، والأشياء. يصدر الشاعر ديوانه بمقطع دال: «الطريق رمية حجر منك/ الطريق فيك/ الطريق أنت/ أيها الإنسان» قادر على ابتعاث الأسئلة من جديد، وتفجير طاقات التخييل الشعري لدى المتلقي، عبر إفساح مساحات ضافية من التأويل، حيث تبدو الذات الشاعرة مدركة أن الطريق كان وسيظل في محاولة الكشف عن ذلك الجوهر الثري للإنسان، في استشكاف مساحات أدق من النفس البشرية المعقدة، وعبر هذا الفهم يمكن النظر إلى شعرية ديوان «طريق الآلهة» بصفتها طريقة في الاستبصار بالعالم، وأداة نافذة للتماهي معه، من أجل إعادة صوغه جمالياً، والنظر إليه وفق زاوية جديدة للحياة، والأشياء. في «طريق الآلهة» يعبر الشاعر عن تلك الروح الإنسانية في تبدلاتها المختلفة، وتحولاتها المتجددة. ثمة قصيدة مركزية في الديوان، يحمل عنوانها من جهة «طريق الآلهة»، وتعبر عن رؤيته للعالم من جهة ثانية، حيث نصبح أمام نص عن الزخم الإنساني في أشد تمثلاته خلقاً وابتكاراً، فعلى المستوى التقني يعيد الشاعر الاعتبار إلى العناصر الأكثر فنية في القصيدة، وعلى المستوى الرؤيوي، ترصد القصيدة هذا الارتحال القلق في الفضاءين الزماني، والمكاني، ارتحال وجودي قلق، وجهته الإنسان، وضالته في آن. في «طريق الآلهة» ثمة إحالات ذكية إلى سياق تاريخي/ ثقافي يصوغه الشاعر جمالياً، ويتتبع آثاره، وقد أشار إليه المفكر المصري جمال حمدان في مؤلفه «شخصية مصر. دراسة في عبقرية المكان»، بخاصة حين أشار إلى ما أسماه «الأبعاد والجوانب». «طريق الآلهة» في نص أحمد بلبولة ليس مفروشاً بالورود بل هو ابن الصعاب، إنه أحياناً قاسٍ، ووعر، وموحش، وهذا ما تحيل إليه القصيدة، التي تعتمد بنائياً على ما يسمى ب «الجملة الصيغة»، حيث تتواتر جملة مركزية «عمر من الريح» تشكل أساساً تتكئ عليه البنية الشعرية، وتتوزع على مقاطع القصيدة، وتتكرر أربع مرات داخلها، في صفحات (17، 19، 20، 27) كما يحضر المجاز منذ الاستهلال النصي وتبدو الإيقاعات متناغمة، ومتجانسة في آن، والأهم أنها منتجة للدلالة، ومولدة للمعنى: «عمر من الريح/ مجروف وجراف/ والعابرون/ مخوف... لا... وخواف/ مروا فهم وتدٌ/ في الأرض عَضَّ على/ صخر الطريق/ وضوء العين خطاف/ هل آنسوا نارهم؟». وتأتي التناصات لتنفتح مدارات التأويل للقصيدة، تارة نحو التاريخ المصري القديم «مراكب الشمس والأهرام»، وتارة تجاه التماس مع النص القرآني، كما في المقطع الشعري السابق «هل آنسوا نارهم/ هذي مواقدهم» فضلاً عن التناص مع التراث الشعري القديم، والشعراء المتصوفين لنصبح – وباختصار - أمام نصٍّ يتعاطى مع الشعر بصفته سلسلة من التراكمات المعرفية والجمالية. في (الطوطم الأقدس) استهلال شعري يتكئ على الصيغة الإنشائية «أيها الشعر» موظفاً النداء في إضفاء طابع من التماس مع المنادى عليه (الشعر) الذي يصبح بمثابة الجد الأعلى الذي يعلن الشاعر انتسابه إليه، خصوصاً حين يستخدم تقنية كسر الإيهام في مختتم القصيدة. واللافت أن حين تعوز الشاعر الحاجة إلى التعبير عن نوازعه الداخلية، يلجأ إلى التماهي مع (القول الشعري) ذاته، ومن ثم يصبح الشعر في قصيدة «الطوطم الأقدس» قريناً للكبرياء، ولشهوة التمرد، والإفلات من أسر المواضعات الجاهزة. في «الشيطان» يدرك الشاعر أن الشعر سعي نحو الإدهاش، التقاط لما هو جوهري ودال، عبر تشكيلات جمالية مغايرة، يجيدها، خاصة حين ينطلق من كون الشعر مغامرة، وضرباً في المجهول: «أنا بارع كالوغد/ ألأم من يهوذا»، إنه يعود هنا إلى تيار أكثر بقاء داخل مجرى التراث الشعري، فيعول على الصدق الفني لا الأخلاقي في القصيد، فأروع الشعر أكذبه، والقصيدة كانت وستظل بنتاً للتخطي والمجاوزة، لا السكونية والثبات، هي ابنة السؤال لا التقرير، والاستفهام وليس الخبر: «لن أجيئك في شحوب الأرملة/ أنا لن أجيئك في الدموع/ ولن أجيئك مثل ثعبان/ يَنِشُّ على القنافذ في فؤادك/ حين أكسره/ على عشق قديم/ أنا لن أجيئك في الفراق/ على المفارق/ والخطى وجع كظيم (ص 29 - 30) ينشغل بلبولة بأبطال شكسبير، بدا ذلك واضحاً في ديوانه السابق «طائر الهوملي» ذلك الطائر الذي يبحث عن وطنه حتى يموت فيه، حيث كان منشغلاً ب «هاملت»، وفي «طريق الآلهة» يتناص الشاعر مع «ماكبث» في قصيدة «حوار إنسان القرن مع ساحرات ماكبث» وبما يشي بأننا أمام شاعر مسكون بصيغة البطل الإشكالي المأزوم، وشخوص شكسبير «هاملت/ ماكبث» يتحركون في فضاءات نفس – مادية مأزومة، والذات الشاعرة تبدو في «طريق الآلهة» محاصرة أيضاً، تائهة وممزقة ما بين عالمين، وبإزاء تمزقها الحاد تقرر أن تتبع خطاها، طريقها الذي اختطته لنفسها: «افتحوا لي الشبابيك، هذا الحصار/ يقلبني فوق جمر الترقب والانتظار/ يقلبني فوق صبري/ وأنا لا أطيق التحلل/ بَلْهَ أتوق إلى روعة الانشطار/ الهواء هنا فاسد/ والتعفن في حبة الروح يَسْري/ افتحوا لي الشبابيك كي أتأمل قبري/ افتحوها / لعلي أدرك ما كنت أدري وما لست أدري». (ص 39) وتبقى جملة «افتحوا لي الشبابيك» بمثابة الجملة المركزية في القصيدة، والمعبرة عن رغبة في التحرر، والانعتاق من أسر القيود والأغلال. ثمة نقاط مختلفة مع التراث هنا، ورغبة في توسيع مدلولاته ليشتمل على التراث الإنساني الخصيب، بتنويعاته المختلفة، وتضفيرها معاً في بنية النص الشعري، وفي التناص مع ماكبث يستكمل الشاعر الحكاية على دفعات، فلا يلقيها جملة واحدة، كما نرى حضوراً للنفس الصوفي داخل القصيدة حيث تتدرج الذات الشاعرة في معرفة الحقيقة تدرج الساعين إليها. في «الصديق» أطول القصائد في الديوان، ومن أكثرها عذوبة، تشيع الجمل المركزية مثل «مرَّ النهار ولم يمر» و («يزورني النهر الجميل»، كما تتكئ على كسر أفق التوقع لدى المتلقي، معتمدة تلك النهايات المدهشة لمقاطعها المختلفة. في قصيدة «جان باتست غرنوي» يحيل الشاعر إلى أحد أهم الأعمال في مسيرة السرد العالمي «العطر» لباتريك زوسكيند، حاوياً تضافراً ما بين الوعيين القرائي «النص السردي»، والبصري «الفيلم السينمائي»، والذي حمل رؤية إخراجية جديدة للرواية. يلتقط الشاعر من البشر أعذب ما فيهم، حين يتجه إلى أولئك الجالسين على الحافة، فيتعلق بما هو إنساني، وينتصر له، منحازاً لأولئك البسطاء والمهمشين، كما فعل في قصيدته «عمرو وجيه/ المحب الكبير» والتي ترى فيها شاباً من آحاد الناس، دارساً للحقوق، صلب وعاشق ونبيل، لكنه يموت فجأة شأنه شأن آلاف الكادحين الذين يذهبون كل صباح. وتبقى ملاحظتان على الديوان، تتعلق الأولى بتلك المقدمة التي صدَّر بها الشاعر ديوانه، فبدت كمذكرة تفسيرية للنص، ومصادرة على حق المتلقي بتنويعاته في الوصول إلى دلالات جديدة للنص الشعري. أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بقصيدة «الهمام بن الهمام» والتي تعد نموذجاً تعساً لشعر المناسبات، الماضوي والذي غادره الزمن، وفي استعادته عودة للوراء على النحو الذي جاء في القصيدة. * كاتب مصري