كنت أنوي أن أناقش كتابات عبدالله الغذامي التي طرحها في ثلاثة كتب مهمة «القبيلة والقبائلية»، و«الفقيه الفضائي»، و«الليبرالية الجديدة». لكن التفكير في هذه المسألة بالتحديد، أوصلني لحال أخرى من البحث، تخص هذه الأطروحات بشكل مباشر أو غير مباشر من جانب آخر. هذه الحال التي فرضتها مساءلة الأطروحات السابقة لا تضعها في المقام الرئيس لهذه المناقشة - وإن وجب التطرق لها بشكل أو بآخر - بل تطرح موضوع التلقي الذي أظن أنه يُعد مطلباً مهماً في مساءلة هذه الأطروحات نفسها، وبشكل تحليلي. المسألة التي أحال إليها التفكير في تحليل خطاب الغذامي، تستوجب مسحاً سريعاً لهذا الخطاب، وذلك بالوقوف عند مقولة كل كتاب من الكتب الثلاثة التي ذكرتها في استهلال المقالة، والتي تشكل كلاً متضافراً يبحث في معطيات مرحلة ما، شديدة السطوع وواجبة البحث في مقتضياتها التي فرضت هذه الرؤية التي كوّنت مادة تأليف هذه الكتب الثلاثة بالتحديد، وكما ذكرت - وأشدد على ذلك - في هذه المرحلة بالذات التي تشهد ظهور معاجم فكرية وثقافية جديدة. وهنا أقول إن ما يؤيد طرحي هنا ضرورة هذه المشاريع البحثية الثقافية في الكتب الثلاثة، وهذه رغبتي الأولى، وهي مناقشة طرح الغذامي هنا، وأيضاً المسألة التي حرفت مسار هذه الرغبة، وهي مسألة التلقي التي تنطلق أهميتها وموضع النقاش فيها من الرغبة الأولى التي انحرفت ولم تعد المحور الرئيس في هذه المقالة. جاء كتاب «القبيلة والقبائلية» للغذامي ليتناول صوراً ثقافية محددة، وهي البروز القوي للعرقيات والطائفيات والمذهبيات، وما يماثلها بحسب تعبيره، أي القبائلية، وذلك عبر عودتها بصيغ أقوى من صيغها الأولى، مواجهة في ذلك المعاني الكبرى في المثاليات والحرية والوحدة على حد تعبير الغذامي في مقدمة الكتاب، كل ذلك يراوح في نطاق زمنين، الحداثة وما بعدها، وهنا أشير إلى ما ذكرته سابقاً، وهو أنني بصدد عمل مسح سريع وعدم مساءلة مفصلة لأفكار الكتاب، وما سيليه من الكتب التي قررتها. أما في كتاب «الفقيه الفضائي»، فشرع الغذامي بذكر النتيجة البعدية في بحثه عن هذا الموضوع بالذات، إذ أفرد في المقدمة مجالاً لغبطته وتوخيه الفائدة من مراجعة المدونة الفقهية، في سبيله للبحث عن مفهوم الفقيه الفضائي، ما ضاعف من قيمة الطرح البحثي، وتحوله من مساءلة في موضوع ظهور الفقيه على الشاشات الثلاث كما ذكرها «الإنترنت»، و«الجوال»، و«الفضائيات»، إلى بحث في قيمة التعاطي مع طرح هذا الفقيه أو ذاك من حيث المصطلحات الرئيسة في مدونة الفقه، من مثل: سد الذرائع والاختلاف، والسعة والاجتهاد وما إلى ذلك، في زمن الشاشات الثلاث كما شدد عليه الغذامي في أطروحته. وفي الكتاب الثالث «الليبرالية الجديدة – أسئلة في الحرية والتفاوضية الثقافية»، يركز الغذامي على خطاب كان أفرد له محاضراته المنبرية، وأسهم في التحفيز لتأليفه - في ظني - اللغط الدائر حوله، والمشاغبات التي اتسمت بها تلك المحاضرات، والأسئلة التي تطرقت لمفهوم الليبرالية بالذات، وليس المقام هنا بمقام حل الإشكال الذي يقوم بين جانب ما يسمون أنفسهم بالليبراليين وبين الدكتور الغذامي بالتحديد. هنا يطرح الغذامي في تصوري نقطة جوهرية واحدة، وهي مسألة «توشيم» المصطلح، وبعبارة أخرى مسألة تنسيق وإنزال المفهوم الذي يأخذ مكانه في «الكتاب الأوروبي» بحسب الغذامي نفسه، إلى مقاصد نسقية تنضوي على ممارسة هذا المفهوم في المجتمع المستهدف الذي يخاطبه الغذامي في طرحه المشار إليه في الكتب السابقة، أي الصف الأمامي المرغوب في إيصال الصوت له بشكل جيد. وبعد هذا المسح السريع نأتي للمقولة التي تسعى لأن تقولها هذه المقالة، كيف يمكننا أن نعالج مسألة التلقي من خلال قراءة متأنية لهذا الخطاب المعني في الكتب الثلاثة السابقة بالتحديد؟ ولا أقول أن مسألة «تلقي الغذامي» تقتصر على هذه الكتب فقط، ولكنها بدت واضحة أكثر، من خلال هذه الإصدارات تحديداً. وقبل أن أثير المسألة أود أن أشير إلى أن هذه المواضيع الرئيسة الثلاثة وما يتخللها من مباحث، تُعد هي المواضيع الرئيسة التي تحرك المجتمع في الوقت الحالي، وهي الخطابات المطروحة بقوة والتي تشكل العملية الثقافية الدائرة في المجتمع، وهي من دون شك المادة التي تلح على أدوات الفكر لتحليلها وتناولها. وهنا تتسع المقالة لطرح السؤال المحور: هل هذه الأطروحات تثير العامة أكثر من النخبة؟ وذلك لطبيعتها التي تمس همومهم، أو ربما لطبيعة أخرى مجهولة؟ في الوقت الذي لا تثير فيه نزعة النخبة لتحليلها ودراستها، سواء بشكل مستقل أم بتناول من يطرحها، والغذامي هو النموذج القائم لدينا هنا. وهل لهذا الأمر علاقة بتبشير الغذامي بسقوط النخبة، لأنها لم تتداول أطروحاته - على رغم ما هي عليه من الأهمية الاجتماعية والتداولية - في الوقت الذي سارت بها ركاب الشعبوية في «تويتر» وغيره؟ وبمعنى آخر، هل فرض هذا النوع من «التلقي» مقولة سقوط النخبة؟ سواء لتخلي النخبة عن هذه المواضيع ببساطة، أم عدم مقدرتها على مساءلتها والبحث فيها. تجمدت العلاقة بين النخبة والغذامي، وهذه مسألة يطول شرحها وتطرح الفرضية الكاريكاتورية التي تقول: هل الغذامي يكتب بحبر سري؟ لكن الغذامي بدوره في هذه اللحظة من القطيعة، كان يربي ملكته «وبشكل علني» على مخاطبة الجمهور والعامة، ربما لعدم يقينه الذي ضمنه في مقولته عن سقوط النخبة، فظل ظهور الغذامي مثيراً في البرامج التلفزيونية ومنابر بعض الأندية الأدبية والجهات الثقافية والعلمية، وفي ظني أن هذا الظهور زاد من الفجوة القائمة بين أطروحات الغذامي وبين النخبة في المملكة، في الوقت الذي كان يؤكد فيه الغذامي، أنه قرأ المرحلة جيداً وتعامل معها بذكاء واستنفاد لإمكاناتها، لأن منطق الجماهير هو الذي يحدث هنا، فأحجمت هذه الأخيرة عن التعاطي مع الأطروحات النخبوية التي لا تتواءم مع منطقها في التفكير، فتم عزل النخبة من هذه الفئة الفاعلة والناشطة، والتي بفعلها هذا عززت مقولة الغذامي الذي ارتمى في أحضانها، تلك المقولة التي تبشر بسقوط النخبة وصعود ثقافة الجماهير والتي رسمت معالمها مواقع التواصل الاجتماعي، التي اتخذ الغذامي من إحداها قاعة درسه الجديدة، بعد تلك القاعة التي تقبع في برج النخبوية بعد تقاعده. * كاتب سعودي.