الوقوف مع المرحلة الراهنة بكل ما تحمله من تحولات ثقافية واجتماعية وغيرها،يكاد يجمع دارسوها على أنها في نهاية المطاف تتشكل في صورتين ثقافيتين تحمل الكثير من التضارب والتضاد..حيث يتشكل فيما بعد الكثير من السمات والعلامات،التي وإن اختصت بها بداية كلتا الصورتين إلا أنهما تكادان تشكلان صور المرحلة المعاشة اليوم. إن القبائلية وما شاكلها من طائفية مذهبية،وعرقية اجتماعية،تمثل العودة إلى الهويات الأصولية بأوضح صورها،وأقوى صيغها،التي تجعل منها سمة بارزة لما تكتنزه من حدة وكأنها بذلك تتخذ نسقا متعملقا في نموه ليصل عنفوان أطواره..ليجد الدارس لهذه السمات بأنه أمام امتدادات خرجت عن أطوارها المألوفة في دورة الحياة البشرية،على ما يستحق الدراسة بأدوات تستطيع أن تقف مع هذه الامتدادات لا لمجرد توظيفها،فلون من هذه الدراسة لن يكون مجديا في دراسة القبيلة والقبائلية التي يريد من خلالها المؤلف الوصول بدراسة هذا الجانب إلى الكشف عن هويات ما بعد الحداثة..ومن هنا وكما درج عليه د.الغذامي في مشروعه النقدي،فقد اجتث كل هذه الامتدادات إلى معمله لتوظيفها في هذه الدراسة التي يفصح عنها الكتاب بعلمية المنهج،ووعي الدراسة،ومهنية التعامل مع هذا الصنف من التنقيب في القبيلة وقبائلياتها. هذا الكتاب في واقع الخارطة البحثية لمشروع د.عبدالله ،هو لا يعدو أن يكون محطة ضمن منظومة محطات لمشروعه الذي أخذ على عاتقه النهوض به منذ سنوات،إلا أن هذا الكتاب كان بنكهة اجتماعية مختلفة،وظف فيه المؤلف رؤيته إلى ما تناوله في كتابه،في العديد من المسائل التي تتجاوز تماهي السمات بوصفها واقعا شائكا في دراسته،ووعرا في تناولاته، ليس على المستوى المحلي والعربي فحسب،بل حتى على المستوى العالمي..عندما تأخذ دراسة بهذا الخصوص مسألة الحداثة وما بعد الحداثة،أخذا بمجتمعنا المحلي،وما واكب ذلك من طفرة وما أنتجته من سمات اجتماعية ومتغيرات فجائية إذا ما تم قياسها بالكثير من المتغيرات في المجتمعات العربية وحتى العالمية..فطرق أبواب المكنونات القبائلية،فالوشم القبلي لم يعد بالمدلول ذاته،وامتداده كشعار باتجاه المصطلح العلمي،الذي يدخله ضمن مسارات انساق ثقافية،ذات مدلول خاص،وتحمل في طياتها قيمة ثقافية،وابعادا رمزية،مما يجعل الدراسة هنا تكشف ما وارء لثام (العادة) الثقافية،التي تحمل في نسقها ارتدادا يعود بكافة رمزياتها إلى هوية ذات تميز ونمط خاص قد ينطبق على مرحلة،وتكشفه مرحلة أخرى عبر مسيرة التحول الجمعي،وأيا كانت سمات هذا التحول إلا أن أخذ سماته من قبيل النمو في ظل المصطلح الذي يحتويه الحقل الاصطلاحي ضمن نسق ثقافي معين ليس مما يلقي له د.الغذامي في كتابه بالا،أو يعيره هما في دراسته..باعتباره يتناول قضية بكل ما تعنيه كلمة (القضية)بعيدا عن التناول الوصفي الثقافي والتاريخي،وبعيدا عن ذاكرة القبيلة وقبائليتها..وغنما بوصفها مؤشرات على تحيزات وتمييزات فئوية،أخذا بالفترة الثقافية الراهنة،ذات الانفتاح العقلاني والعلمي والكوني (المطلق) مما سيكون له مده وجزره بين صورتين ثقافيتين. إن امتداد دراسة د.الغذامي تتجاوز تلقائيا حدود الزمان والمكان وحدود الثقافات..فهم الكتاب يتجاوز المرحلية،وصراعاتها النسقية المختلفة أيا كانت أطرافها،وكيفما كانت نتائجها..أخذا بنسق الدراسة في ظل التحولات الكثيرة ليس على المنظومة الاجتماعية والأنساق الثقافية،وإنما حتى على الجانب البحثي في القبيلة والقبائلية باعتبارات كثيرة أولاها مترادفات المصطلحات،وتقاطعاتها،ومتناقضاتها على مستوى دراسة علمية من هذا الجنس..فعندما نجد بعض الباحثين الانثروبولوجيين يتحولون في دراستهم –مضطرين – من البحث في القبيلة إلى البحث في العرقية لاعتبارات كثيرة،فهذا يعني أن دراسة د.عبدالله أخذت في مهامها البحثية بأن مسألة البحث في الهويات الجذرية جميعها،هو من قبيل البحث في كل هوية بذاتها والحديث عن أخواتها في آن واحد؛ومرد ذلك هو ذلك التشابه الكبير في الحزم الوصفية،في الهويات الأصولية جمعاء،لأن واقع التماثل بينها،مما يجعل البحث في القبائلية والحديث عنها،هو مثال على هويات أخرى أيا كانت أجناسها وألوانها،سواء كانت العرقية أو الشعوبية أو الطائفية،عطفا على الحزم الوصفية وملازمتها في السمات والخصائص لمرحلة ما بعد الحداثة..عصرنا الراهن اليوم. لقد جاء كتاب د.الغذامي(حدثا) ثقافيا هاما ومختلفا في رصد خارطة الثقافية المعاصرة،تلك الخارطة التي تشكلت تضاريسها باتجاهات متضادة في نسق أوتادها،وأخذت خلجانها الثقافية حركة تنبئ عن متغيرات جذرية،حتى على مستويات العودة على جذورها. يقول الدكتور الغذامي(كم كنت أود أن لي قوة سحرية،استطيع بها رصد القراء والقارئات،على موقع جريدة(الرياض) ممن علقوا وسألوا وناقشوا في المقالات التي كانت تنشر عن الموضوع،وكان ذلك كله مصدر إلهام أثناء عملي على الكتاب من بعد المقالات..) لم يكن ما كتبه د.عبدالله في هذا الملحق - في رأيي – عن (القبيلة والمجتمع) سوى تلك النكهة وذلك اللون النسقي،الذي يربط بين قارئ تلك المقالات وهذا الإصدار،فقد جاء إصدار الغذامي هذا مرحلة متقدمة جدا لتلك الشراكة في الإلهام بينه وبين آلاف القراء والقارئات،الأمر الذي جعل من تلك المقالات بمثابة حديث البدايات..وبمثابة أيقونة ورابط بينه وبين القارئ والقارئة فيما سبق وأن كتبه في مقالاته بصاحبة الجلالة. يرى د.عبدالله بأن الهوية جاءت كمخترع ثقافي،ويرى بان نشأتها كانت لحاجة كردة فعل لتحديات لم تكن معهودة في الأزمنة القديمة،لكونها تحديات جمعت الاقتصادي والسياسي والثقافي..هذا الجمع يطرح السؤال الفرداني الذي يعم المنظومة الجمعية،عن الخارطة الذاتية التي تحمل القيمة الكونية الشاملة ثقافيا واجتماعيا،لتكون بمثابة رحم يولد منه في كل يوم توأمان:موقع وسؤال..فعلى سبيل المثال،ففكرة (الهوية)و(الهوية الوطنية) لم تخرج من بطن التجربة البشرية،في حمل أو حضانة طبيعيين - كما يقول بومان- ولم يكن ذلك مخاضا فطريا للتعريف بالنفس كحقيقة ملموسة،حيث يرى د.الغذامي بأن حدوث إجبار مصطلحي فرض معناه على الناس،مع أنه متخيل حكائي،وتحول هذا المتخيل ليكون حقيقة معطاة،مشيرا إلى أن هذا المتخيل يتجه لملء فراغ مكشوف بين مضامين هذه الكلمة وتحفيزاتها،وبين الحال الواقعية للإنسان؛حيث يرى المؤلف بأن الهوية ولدت من رحم أزمة الانتماء لتردم الفجوة بين إحساس المرء بما هو جدير به وبين ما هو عليه،حتى يحدث نوع من الارتقاء بين الواقعية الإنسانية وبين تلك المستويات التي توحي بها مقولة الهوية... باعتبار الهوية تعطي للإنسان معنى يستطيع به أن يسرح به دلالات الحياة الراهنة من حوله. وفي هذا النسق يتناول د.الغذامي مسألة الهوية(ما بعد الحداثة) من نقطة المركز الذي تتمثل في مشروع الحداثة كمشروع عقلاني ليبرالي،من منظوره الطموح في إذابة الفروق العرقية في (البوتقة الصاهرة) وان تتم إزالة هذه الفروق من خلال تأسيس(النموذج الكلي) الذي يعيد صياغة كل تلك الفروق إلى صيغة كلية واحدة،تمتزج فيها كافة الأعراق والثقافات والفلسفات..إلا أن د.عبدالله يعيد محاكمة البوتقة الصاهرة على معمله مرة أخرى في دراسة لهذه البوتقة من خلال المجتمع الأمريكي كعينة للدراسة،والتي يثبت من خلالها بأن البوتقة الصاهرة باعتبارها وصفا مثاليا للمجتمع الأمريكي لم تعد كذلك،ولم يتحقق من خلالها الدمج الثقافي بأي من أركانه الأساسية في ظل اللون والمعتقد واللغة والمطامع الفئوية..حيث ظلت قيما أساسية غير قابلة للمحو أو التعديل مما حدا بالمجتمع الغربي إلى أساليب دفاعية بالعيد من قوانين الدفاع،التي ثبت معها عجز الحداثة عن تحقيق وعودها الأصلية في إذابة تلك الفروق،كما كانت تؤمله في بوتقتها الصاهرة كما هو الحال في فرنسا،وقانونها الدفاعي(صون العلمانية). في فصل (الإسلام والقبيلة) يستعرض د.الغذامي العديد من المحاور التي بدأها بالحديث عن الروافد الثقافية،حيث يرى بأن الثقافة العربية تقوم على رافدين جوهريين،هما:الإسلام والقبيلة؛بوصفهما متنازعين التأثير على الفكر العربي على مدى قرونه كلها،حيث يرى المؤلف بأن هناك أوجها للاتفاق وأخرى للاختلاف،على اعتبار ما يعطيه أحدهما من مثاليات معنوية راقية ومتعالية،وما يناقضه الآخر فيه من قيم ثقافية متضاربة بين العملي الإنساني من جهة،وبين العنصري والنسقي من جهة أخرى..مستعرضا دلالات هذين القطبين في الرؤية الروافدية عبر منظومة السلوك الإنساني المكشوف أما أدوات الدراسة والواضح بتفاصيله في مجهر البحث؛حيث تأتي القبيلة ضمن هذا النسق لتكون ذات معنيين جوهريين هما القبيلة والقبائلية..حيث يشير د.الغذامي هنا على أن الإسلام في كل ما حملته نصوصه لم يكن ضد القبيلة،ولكنه ظل في تضاد مع العصبية التي تعني العنصرية أو ما أسماه بالقبائلية،حيث يستعرض د.عبدالله في هذا المضمار قدرات (التحمل)لدى الثقافة في تقديم المتناقضات وفرض حال من الوجود المشترك بينهما،فكما أن الإسلام دين ومعنى،فالقبيلة - أيضا – قيمة ثقافية واجتماعية،وهذا يعني أنها تتحول هي الأخرى إلى معنى. وكعادة د.الغذامي في دراساته التي يقدمها عبر مشروعه،الغني بتوظيف التراث،والعودة إلى قراءة النصوص الدينية،فهو ما نجده لديه في التعريف بصورة القبيلة في الإسلام،حيث بدأ المؤلف في التعريف بصورة القبيلة بقوله سبحانه وتعالى( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) حيث ينطلق لتكوين صورة القبيلة من خلال هذه الآية الكريمة من عناصر أربعة:أولها:الناس،وثانيها:شعوبا وقبائل،وثالثها:التعرف،وأخيرا:الأكرم. استعرض د.الغذامي أربعة العناصر آنفة الذكر،وصولا إلى مركزية التقوى،من خلال عرض تناول فيه السمات البشرية الواقعية بوصفها سمات واقعية،لا على اعتبارها خصالا حميدة،مع الأخذ بورودها في خطاب النص القرآني..لينتقل بعد ذلك إلى الشعب بوصفه قبيلة كبيرة،ومنه إلى (الأفعل هو الأفعل) حيث يقسم المؤلف هذا القانون إلى قسمين هما:قانون التعارف،وقانون الأفعل هو الأفعل؛مشيرا إلى أن أحدهما وجداني/اجتماعي،وثانيهما:عملي/عقلاني؛لينتقل بعد ذلك إلى مسألة التأسيس النصوصي( القيمة والنسق) مستحضرا توظيف التراث لتحقيق هذه النصوصية،التي يعقبها بالقبائلية والتأويل. الفصل الثالث من الكتاب جاء مخصوصا بالمستعرب،الذي تناول فيه د.عبدالله مقدمة تراثية (ابن خلدون وأنواع العرب) ومنها إلى الشعب/القبيلة/المجتمع،وصولا إلى التزواج الثقافي فالمستعرب ثم من القبيلة إلى المدينة،التي يقف معها على مسألة(المدينة والهويات) لتخرج العائلة والعائلة بوصفه قبيلة جديدة. أخذت (ثقافة القبيلة) بعد ذلك فصلا مستقلا،جاب في د.الغذامي بأدواته العديد من زوايا الأنساق الثقافية،بدءا بالنمذجة الثقافية ومنها إلى بنية القبيلة ونظامها الذهني الذي يمتد بين قطبي قسرية الانضمام لنظام القبيلة وبين أن يكون حرا يقوم على فرداني الاختيار..حيث يستعرض د.الغذامي في عرضه لهذا التراث من خلال القصيدة المرة/النفس المرة لينقب في أغوار نصوص شعرية لاستخراج مبادئ نسقية غائرة في النسيج الذهني البشري والحيواني معا.. يصل المؤلف بعد ذلك في الفصل الخامس من الكتاب إلى (إعادة اكتشاف القبيلة) عبر العودة إلى الأصوليات الجذرية،وهنا يكمن عمق السؤال في إعادة هذا الاكتشاف،أخذا بالفترة الثقافية الراهنة،ذات الانفتاح العقلاني والعلمي والكوني،وما صاحب كل هذا من متغيرات ضخمة وهائلة استعصى على الإنسان قبولها،في ظل البحث عن بارقة أمل،أو مسلك مرجعية امام كل هذا التضخم المطرد في مشهد عالمي مركب،مما أصبح يثير(عجاج)المتغيرات التي تجعل من النسق البشري نسقا واحدا ومتكررا كما يقول(ستنجر) الذي يرى بأن المدينة الكبيرة الحديثة جدا،لا تختلف في سلوكها العام عن القبيلة القديمة جدا،حيث يرصد د.الغذامي مشهد هذا التكرار في ظهور المتغيرات كثقافة الصورة وغيرها مما يعطي لهذا التكرار معاني أكثر عمقا،وأشد خطورة..مما يجعل ردود الأفعال تحل (طبيا مداويا) لكنها ردود أفعال متلبدة بالخوف الذي لا يمطر سوى أسطورة مصنوعة..يعرضها المؤلف عبر المزيد من تناول الزوايا الراهنة في قنوات عصرية تستخدم سلاحا فضائيا،عبر الصوت والصورة والمؤسسة عن طريق الشاشات والمواقع المفتوحة على العالم قاطبة..الأمر الذي يستوقف المؤلف أمام البنية ونقيضها،والعنصرية الثقافية،الذي يؤكد فيه د.الغذامي الخارطة النسقية الشاسعة لدينا،باعتبار نسقيتنا كانت وما تزال من أخطر الدروس التي نتلقاها في حياتنا كلها،منذ مراحلنا الأولى والتي لم تزل مستمرة معنا. يصل د.الغذامي في كتابه إلى الفصل الأخير(الأصول) ليحط بأدوات تنقيبه مستعرضا الداروينية الجديدة،وصولا إلى فكرة الأصل عبر الموروث السلالي والعرقي المنسوب بصفات تناسلية للأسلاف جيلا بعد جيل؛والذي يصنفه المؤلف تحت عنوان( الأصل ينسج الأصل) ليستعرض العديد من ألوان النسيج في لعبة الصفات،والاصول،ومنها إلى الخيال والأصول،وصولا إلى الهروب عن الأصول /فرار اليورو من الذاكرة..فهل تستطيع الثقافة أن تنسلخ من جلدها وتفر من أصلها..؟! انتهى