قلما تتشكل الروايات من الشعر ومفاهيمه. وحتى عندما تمتلك السرديات تكويناً تحتياً كثيفاً، كحال أبرز الروايات ، لا يظهر الشعرُ نفسه مكوناً بارزاً خشية أن يفقد السردُ ملحمةً برجوازيةً أو ولادةً مقرونةً بالطباعة وفئات القراء الجُدد استجماعات الذروة والتشخيص والأثر. وعندما يحضر ظاهراً في الأسلوب يُراد له في الغالب منح الرويّ طراوة الرواية وغوايتها أمام جمهرة من القراء والمستمعين. كان الشعر يحضر في الحكاية من قبل بالإضافة إلى دوره التزييني الذي نقرنه بميل البشر إلى ملءِ الفراغاتِ الخرساء بالجميل الناطق لوناً وصورةً، كان للشعرِ دَورُه في الحكاية من حيثُ تطويع الحكي وتطويرهِ وتنمية شخوصِه وحبكته. فاشتغل الشعر شفرةً وتشفيراً وفعلاً وغوايةً وإغراءً، واستدعى الاستكمالَ والإجابة. لكن الرواية بحضورها الذي كتب عنه جورج لوكاش و وولتر بنجامين وجورج ستانغ ومن التالين أيان وات وغيره، وكذلك المؤرخون والنقاد العرب تشهد غيبة الشعر. ولا يعني هذا غياب البنية الشعرية. إذ تحضر الأخيرة حتى في السرد التاريخي الذي دفع هيدن وايت إلى كتابة " الخطاب الإستعاري"، و "التاريخ التحتي أو المغاير: التخييل التاريخي في القرن التاسع عشر". أهمل هيدن وايت الرواية على الرغم من اعترافه بقرابة السرد التاريخي لمؤرخي التاريخ البشري وفلاسفته من روايات ستندال وبلزاك وفلوبير وتولستوي وديكنز ودستويفسكي وغيرهم. وفي الرواية العربية تحضر البنية الشعرية التحتية كما هو شأنها في السرد، سواء كان خطياً أم عمودياً ومتداخلاً أو متزامناً. لكنه يغيب حضوراً عند محفوظ مثلاً، كما لا يحضر إلا في كتابات تستعيد حياة الريف كما يفعل عبدالحكيم قاسم في رائعته "أيام الإنسان السبعة" سنة 1969 والتي استعان فيها بقصيدة البردة للبصيري وبغيرها مما يشكل إيقاعات الذِكْر الصوفي. أقول غاب الشعر، لكني من بين من أحضروه في رواية قصيرة ظهرت أيام ابتلاء العراق سنة 1990 بعنوان "أوتار القصب"، ثم في " دون سائر الناس:انفعالات الرقم 46". لكن حضوره في التكوين السردي وبنيته الغائرة والبارزة واشتغالاته اللغوية-النصية كميدان التباس وفعل تحقق عند الياس خوري عندما بدأ مشروعه في هذا الاتجاه سنة 1994 في روايته "مجمع الأسرار"، وهو المشروع الذي تتوجه روايته الجديدة الصادرة أيضاً عن دار الآداب سنة 2016 بعنوان "أولاد الغيتو: اسمي آدم". ولعل المفردات والمسميات تشارك في صنع البنية التحتية، بنية الحنين والطلل والموت وما يفوح داخلها من غربة واغتراب والتي تدعو الروائي إلى استعادة لازمته الأثيرة في الروايتين في أن " أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى كان آدم"، ثم تبعه امرؤ القيس حين أنشد يقول:قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ/بسقط اللّوى بين الدّخول فحوملِ.إذ أن " حنينَ سيدِنا آدم إلى الماضي كان مزجاً للحقيقة بالرؤيا، وهذه أُسّ الحنين إلى الأطلال الذي نراه في الشعر العربي القديم" (مجمع الأسرار، 44). سيكون امرؤ القيس مفتاحاً للكلام في الغربة، ولهذا يستعين به آدم بن حسن دنون اللداوي ، بائع الفلافل في نيويورك ، وأنا السارد في مجموعة الدفاتر التي ظهرت الآن ضمن خديعة الرسالة والمخطوط لتتشكل منها الروايات الواعية بذاتها، أي تلك التي تحيل على كتابات المؤلف الياس خوري وما يتشابه معها أو يضيف إليها من كتابات آخرين ك"خربة خزعة"، و"اربسك" لأنطون شماس، و"باب الشمس" لإلياس خوري رواية وفلماً، و "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، وكتاب الأغاني، الفصل الخاص بوضاح اليمن، والكتاب المشترك لمحمد بهجة الأثري و أحمد حسن الزيات عن وضاح اليمن. هكذا نسمع أصداء الشعراء في الغربة على لسان السارد المفترض آدم دنون الذي يُعطي اسمَه عنواناً فرعياً ل" أولاد الغيتو". ولأنه يختار آدمَ من بين الأسماء التي تعطى له بعد التهجير الإجباري ويوم الحشر اللداوي في جامع دهمش حيث القتل الجماعي والإهانة المقرفة ، تنز كلماته غربةً لأن الحرف يمتزج بمعناه أمام الحياة والموت. ولهذا تأتي عبارته في الابتداء: "أنا لا أملك قبراً في بلاد لم تعد بلادي، كي أطلبَ أن أدفنَ فيها معانقاً أرواح أجدادي. سوف أعانق في هذا النهر -الهادسون حيث يوصي أن تُحرقَ جثتُه وينشرَ رمادُه- أرواح الغرباء، وسألتقي بمَن يجد في لقاء الغريب بالغريب نسباً يغنيه عن نسب أضاعه"(21). ويعلق السارد : "أعرِف أنني الآن أنثر بيتين من شعر امرئ القيس بطريقة غير شاعرية، لكن ما همني، فلن يقرأ أحد هذه الكلمات بعد موتي، لأنني سأوصي بأن تُحرق هذه الدفاتر معي كي تُرمَى هي أيضاً في النهر. هذا هو مصير البشر ومصير الكلمات. فالكلمات تموت أيضاً، وتترك أنيناً نازفاً مثل الأنين الذي ينبعث من أرواحنا ، وهي تتلاشى في ضباب النهاية"(21). لكنه يعود إلى امرئ القيس ، وإلى دفنه على سفح تلّة يُقال لها جبل عسيب بعدما تقرح جسده بعباءة الجذام التي أهداها قيصر ، فكان له أن ينشد: أجارتَنا إنّ المزار قريبُ /وإني مقيم ما أقام عسيبُ/ أجارتنا إنّا غريبان هاهنا/وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ" (61). لا يدع الياس خوري مؤلفاً الكثيرَ للناقد كي يقتحمَ نصه الذي يعترف ساردُه بأنه لا اسم له، لأن آدم دنون صاحب الدفاتر المزعومة يقول في النتيجة : "سأكون مجرد راوٍ لما شاهدته وعشتُه"( 418 ). وما شاهده هو مقتلة مسجد دهمش ، ومقتل مدينة اللد. فيكون التساؤل: " هل رأى أحد في العالم جثة مدينة؟" (238). فالتعليقات النقدية والشروح والوثائق الخاصة بهذه المذبحة وغيرها تمتزجُ باستطرادات في الشعر والمجاز ومراجعات لرواد الحداثة ما بين عقلانية طه حُسين التي تحذف الشعر الجاهلي وتدفن اللغة (69-70)، وبين جماعة الانبعاث الشعري الذين قادوا في نظره أو ساعدوا في سيادة الفكر الاستبدادي( 289) . كل هذه تعين في تكوين البناء التحتي، وخاصة عندما تردف بالمراجعة التي يقدمها صوت السرد في مفاهيم اللغة والنحو، لأن هذه هي العتبة نحو الشعر الذي سيشتغل عبر مجازاته في تكون السرد بصفته المتوترة ما بين التوثيق والتلفيق والشعر ومجازاته. فالسارد، صاحب الدفاتر وموضوع السيرة، آدم حسن دنون، اليتيم الذي سيسمع حياته على لسان مأمون الأعمى الذي واصل البقاء في اللد، سيكون سبيل الاستعارة الكونية وتساؤلاً في (صمم العالم عن سماع صراخهم)، أي الفلسطينيين (31) : فآدم سيرى الالتباس قائماً فيه، وفي اللغة، وفي صيغة المثنى، وفي كل ما حوله. ولأن الروائي عبر صوت السرد، موضوعِه وفاعله، سيعيش هذا المثنى الذي كان قد تساءل فيه من قبل وقَبل التقاء أبي الفرج الأصفهاني في (الأغاني) : " لماذا لا يُحذف من لغة العرب، مثلما حُذف في كل اللغات القديمة"(37). وبعد قراءة الفصول الخاصة بوضاح اليمن وامرؤ القيس وغيرهما، تبين لآدم حسن دنون، الراوي في أولاد الغيتو ، أن المثنى هو غيرُ ما يفهمه : " علَّمني امرؤ القيس المثنّى، حيث تنقسم أنا الشاعر إلى نصفين، ، الأنا هي مرآة الذات المنكسرة على ظلال الشاعر في الصحراء ، ويصير الحوار بين الأنا والأنا هو بداية العلاقة بين الكلمات والموسيقى"(38).وسواء كان امرؤ القيس حقيقة أم كنايةً كما يريد طه حسين في الشعر الجاهلي ، فإن الشعر يمسح هذه الحدود بين الأنا وظلها؛ لذا تراه يصيح : (أنا لا أفهم كيف يدافع الكتّاب عن أبطالهم بالقول إنّهم خياليّون وليسوا واقعيين. تبَّاً لهم، فأنا أعتبرهاملت حقيقياً أكثر من شكسبير، والأبله أكثر حضوراً من دوستويفسكي، ويونس أكثر واقعية من هذا الكاتب اللبناني [أي الياس خوري] الذي شوَّه صورته في "باب الشمس"( 38). قلت إنّ الراوي، بأناه وظلَّها، يحيل إلى مجموعة نصوص ووثائق مسماة لا عن مجازر اللد وغيرها، ولكن أيضاً في كتابات الياس خوري وجبرا ابراهيم جبرا وأنطون شماس وغسان كنفاني والروائي الإسرائيلي، ضابط الاستخبارات الإسرائيلي في الكتيبة التي نفذت عملية خربة الخصاص، في روايته "خربة خزعة" ، المنشورة سنة 1949 (ص 258-259)، وشعر وضاح اليمن وامرؤ القيس ومالك بن الريب وأدونيس وسعدي يوسف وآخرين من الباحثينَ والدارسين. وتظهر الرواية مغايرةً أو واعيةً بذاتها بسبب كثرة الإحالات ، لاسيما الإحالات إلى كتابات الياس خوري، وبخاصة رواية باب الشمس والفلم الذي أعده مخرج اسرائيلي عنها (ص 24). وبمثل هذا الاكتظاظ، كيف يمكن للسرد أن يظهر "روايةً"؟ بل، كيف يمكن له أن يحفرَ مكانة لهذا الاكتظاظ داخل مجازات الشعر؟ وكيف تتوحد قصة الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي قضى منتحراً في شقته في نيويورك، بقصة صندوق وضاح اليمن؟ وعباءة السم والقروح التي تودي بامرؤ القيس، وغربة مالك بن الريب؛ وتداخل شخصية محمود درويش وشعره براشد حسين، وهذا الأخير بآدم حسن دنون الذي يموت منتحراً محترقاً في شقة في نيويورك؟ وكيف تشتغل كل هذه الأطراف في تكوين الحكاية كإستعارة كونية، إنسانية عن الفلسطيني ومن يماثله. والتماهي بين آدم حسن دنون وراشد حسين مقصود: كلاهما يقرر الانتحار في شقته في نيويورك. أحدهما يكتب شعره، والآخر يكتب سيرته وتعليقاته في دفاتر يريد لها أن تحترق معه لأنها لم تستكمل شيئاً؛ ولكن هل تتشكل روايةٌ مغايرة ٌأو واعية بذاتها من تماه ومحاكاة ما بين لاحق وسابق من فلسطين؟ ليس التماهي هو المحرك الأساس لأولاد الغيتو، أي من تبقى محاصراً بالأسلاك في اللد : إنه الصمت الذي يغلف كل هؤلاء، ومنهم راشد حسين وآدم حسن دنون، صاحب الدفاتر والصوت في أولاد الغيتو. ولكن لنعود إلى راشد حسين. يقول آدم حسن دنون : " قرأت دواوين راشد الثلاثة ، وأحسست بخيبة الأمل. أحببت شعره، لكنني شعرت بأنه ما قبل الشعر، فهو يمهد للشعراء الآخرين الذين أتوا من بعده ، ويكتب ما يشبه تهجئة الذات التي تسبق الوصول إلى إمتلاك اللغة التي تعبِّر عنها". كان قد تعرف عليه من خلال قصيدة لمحمود درويش، ( كان ما سوف يكون) التي يشبَّههُ فيها ( بحقل من البطاطا والذرة). يعلق آدم على ذلك: "قلت في نفسي إن رجلاً يشبه حقلاً من البطاطا يستحق أن يكون شاعراً كبيراً"(40). أدرك لاحقاً أن قوة شاعر تكمن في حياته : "شاعر كتب قصته الشعرية بموته محترقاً في شقته الصغيرة في نيويورك"(40). إذن، كان اليأس هو الذي يجمع آدم براشد حسين، لكن آدم حسن يتهم نفسه بالعجز : " لا أمتلك جرأة الانتحار"، ولهذا تجئ الحكايات على لسانه عن أبطال آخرين (41). كان الانتحار يدفع آدم إلى قراءة راشد حسين ثانية : "حكاية موت هذا الشاعر الفلسطيني محترقاً بالخمر وسيكارته المشتعلة ، دفعتني إلى قراءة أشعاره من جديد، وأحسست أن قصتَه هي شعرُه، وأن هذا الحزن الذي تشفّ عنه كلماته لم يكن سوى مقدِّمة لحكاية موته"( 40). إذن هل أن دفاتر آدم حسن دنون هي استعادة للحزن الذي يرافق الغربة ويدعو راشد حسين إلى الانتحار صمتاً، كما سيفعل آدم حسن دنون؟ كان راشد حسين يكتب مأساة هؤلاء الغرباء الذين سيقوا إلى الغربة والذين رأوا أو سمعوا قصة أهاليهم وأنفسهم في مجازر تقَدّمُ الدفاتر خلاصاتٍ عنها، لاسيما عندما تعرج على خربة خزعة ومطالبة كاتبها أن يخرج أرميا واحد من بين هذه الجموع التي تساق للذبح والموت والطرد (260). هنا يخرج التماهي عن ظاهر التركيب السردي ليخترق صممَ العالم عن المحرقة والمقتلة ولوثة الدم. ليس آدم حسن بعد كل ذلك غيرَ ابن حكاية يرويها مأمون الأعمى الذي حضر سرداً محاضراً عن محمود درويش، مأمون البصير الذي رأى وسمِعَ وسرَد ما يظهر هنا وهناك من شذرات وتقارير ودراسات. مأمون الذي يظهر دارساً يقدم محاضرة تخلص إلى "أن الشاعر الذي أحب ريتا وتزوجها لم يكن درويش بل راشد حسين. وأن حكاية موت هذا الشاعر في نيويورك أكثر مأسويّة من كل الشعر الفلسطيني"(181). لم يعترض على الاستنتاج إلاّ الدكتور ناجي، أي بديل المؤلف الياس خوري الذي يقول عنه آدم ، بطله الذي لم يستكمل بعد : "يتفرج عليّ بصفتي بطلُ قصة لم تكتب!"(181). ولكن كيف يتشكل هذا النص، أي الرواية الواعية بذاتها التي تحمل اسم (أولاد الغيتو:اسمي آدم) ، وهو يَتهِم ُمؤلف باب الشمس بالتلفيق والكذب وَنقل ضده ما يقوله خصومُه من أنه ليس من أبوين فلسطينيين(24)؟ هل يكفي أن تأتي الرواية الواعية بذاتها بالوثيقة موصوفة ومعززة بالشواهد والتواريخ ليتشكل سجلها الإحالي لتكون "استعارة كونية"؟ كانت مقتلة مسجد دهمش (129، 176، 204، 308) هي الأكثر حضوراً لأن حكاية آدم تأتي من هناك، ومنها وبعد أن عرفها على لسان الآخرين ومأمون الأعمى تحديداً، تتشكل القصة التي تبرر استطراداتها على أنها رديفُ تيار الوعي حيث " الكلمات تعبُرني وتمضي إلى حيث تشاء"( 239). هذه الرواية الواعية بذاتها ، أي التي تحيل إلى نص للمؤلف ونصوص أخرى عديدة، تخلق عالماً تناصياً متقاطعاً فيه الخبر والوثيقة والدراسة والصورة والحكاية، ولهذا لا يمكن أن تُدعي روايةً، أي ملحمة لها ابتداء وانتهاء ، ولها معنى، لأن متحدثاً يصر على تفاهة المعنى عندما يسقط على حكايات كحكايات شهرزاد مثلاً :ا"لكاتب الذي أضاف الإطار إلى حكايات شهرزاد تافه ككل الكتاب الذين يخافون من الحكايات المجّانية ، التي تنفجر فينا كما ينفجر الماء من باطن الأرض. من قال إننا نحتاج إلى المعنى كي نروي؟فحلمي الدائم هو الوصول إلى نصٍّ بلا معنى، مثل الموسيقى،معناه يأتي من إيقاعات الروح التي فيه"( 418).وفي النتيجة، فإن " الحكاية ليست بديلاً من الحياة، بل هي الحياة نفسها".. لا قوةَ في هذا الاستنتاج المعروف بين الأوربيين عندما حرر ادوارد وليم لين الحكاية من سحرها بهوامشه المطولة ليجعل النقاد يتعاملون بحرية أكثر مع الحكايات التي سحرتهم وحالت دون سطوةِ ذائقتهم النقدية. إذا، كيف يتحرر النص من ثقل الذاكرة التي يأتي بها مأمون الأعمى وتعززُها الوثائق التي يطلع عليها بائعُ الفلافل، صاحبُ الدفاتر، بكل عالمها التناصي؟ لابد من الحيدة والفرجة أولاً لضمان المسافة الجمالية والنفسية. سيعلن ذلك ليلغيه. يقول : "عليّ ، وأنا أكتب عن اللّد، أن أتخذ موقف المتفرج، وأتوقف عن الرثاء، خلص، الماضي مات، ويجب أن أتعامل معه ببرودة، هذا ما تعلمته من الشاعر العباسي أبي تمام الذي وصف علاقة الإنسان بالأيام، كأنها منام : ثم انقضت تلك السنون وأهلُها/ فكأنها وكأنهم أحلام"(414). ويعلق : " حين أقف أمام أطلال المدينة [اللّد]، أشعر كأني أقف على أطلال الزمن ... الخراب الذي عشناه ولا نزل نَعيشه، هو خرابُ زمننا"(415). ومرةً أخرى، من شأن الرواية الواعية بذاتها أن تسرق من الناقد ملاحظاتِه، وتستبقُه في تكوين مرجعياتٍ مراوغة ما دامت مراوغتُها الأساس تكمن في محاسبة كاتبها وغيره على كتابات فعلية ومنشورة أو أخرى يحتضنُها السرد الحالي. ومن الجانب الآخر، تحيا الرواية الواعية بذاتها في مجموعة من العوامل والعلامات والمجازات لتشُدَ بعضها إلى بعض : وإلا كيف يجتمع صندوق الموت في حكاية الشاعر وضاح اليمن بعباءة الموت عند الملك الضليل؟ وكيف يُسقطُ كلُ هذا على ما جرى أمام صمت العالم، الذي لَبِسَ ترسيمة الفلسطيني الأخرس في رواية س. يزهار خربة خزعة؟ كيف تلتقي الترسيمة بتلك الصيحة التي يعلنها أبو الخيزران في رواية غسان كنفاني، رجال في الشمس، لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ لم يكن السؤال : ولكن من يسمع داخل الضوضاء والهرج والقسوة في زمن الخراب؟ لم يكن السؤال كيف تناسى أبو الخيزران وأضرابه هؤلاء ؟ الذي يجمع الخيوط هو ما يسميه السرد ببلاغة الصمت. فالصندوق والعباءة والخزانِ والغيتو وشقة الانتحار حرقاً هي مجموعة المجازات التي تُعطي للرواية الواعية بذاتها شَكلَها المراوغ الذي يقول كل شيء بدون أن يدّعيه. هذه المجازات هي التي تبقى في الذاكرة لدرجة أنها تَسدلُ العتمةَ على ما يكمن خلفها وداخلها من دلالات ومعان. كنت قد قلت في مقال آخر، إن أولاد الغيتو تستطيع الخلاص من حكاية وضاح اليمن التي شغلت ما يزيد على سبعين صفحة، لأن صندوق الصمت يمكن أن يجد مثيله في حكايات أخرى. لكننا عندما نضع الحكاية في صندوق الموت والصمت، ندرك أنها مجازاً تنفع جسراً في تصعيد "بلاغة الصمت" ضمن مشروع الراوي للإتيان باستعارة كونية : وعندما يوضع صمت المحب، أي الشاعر، وصمت أم البنين، وصمت الوليد بن عبدالملك، والصمت الذي سيفرضه الموت على الخادم/ الواشي الذي نقل الخبر إلى الخليفة، نحار في تحديدِ أي صمتٍ هو الأبلغ؟ هل صمت وضاح هو الأبلغ لأنه عاش لحظة الحب كاملة وأوصلها الذَروة التي لا معنى لحياته بعدها؟ أم التساؤل الذي يثيره الراوي هو الأبلغ؟ إنَّ تناصية أولاد الغيتو: إسمي آدم التي يسمّيها الناشر روايةً، ويسعى الراوي لتلافي ذلك. هذه التناصية تَمنحها طاقة الشعر لتحررها من تركيبتها ملحمةً بورجوازيةً أي أنها بهذه التناصية الكثيفة تتحرر من العقدة والتركيبة الأرسطية وتنتهي كما ينتهي الشعراء، كوضاح وامرؤ القيس. يقول عندما يستعرض حياته، ويقظة الفلسطيني فيه بعد رحلة التباس طويلة ( وصولاً إلى زمني الجديد في نيويورك)، إنه يقوم بعمل كتابي، لإقناع نفسي بأنني أكتب رواية لا تشبه الروايات، لأنها تنتهي إلى جنس أدبي لا أعرف له إسماً، ولست متأكداً من وجوده أصلاً (290). هذا الجنس الأدبي المغاير، ما وراء الرواية، أو الرواية الواعية بذاتها. يتشكل ظاهراً من أشلاء "رواية مبتورة" عن وضاح اليمن (417)، ومن كونه "راويا لما شاهدته وعشته" ، كما يقول،" أي مجرد كاتب للإطار".ولكن ما الذي تتجه نحوه الحكاية، كما يسميها في أكثر من مكان (304)؟ الحكاية تبتدئ من "الخَرس"، من "الصمت"، الذي تفتتحه حكاية صُندوق وضاح اليمن وصمتُه فيه أمام الوليد بن عبدالملك حاملاً معه ذروة النشوة إلى الموت : "أخرسني مأمون عندما روى لي حكاية الطفل [ أي آدم] الذي التقطه من فوق جسد أمّه"(304). وينتهي إلى مايلي : " أجد نفسي مكبلاً بحِكايَةٍ تصْلُحُ أن تكون مدخلاً ميلودرامياً لرواية مأساة الفلسطينيين، لكنها بالتأكيد لا تصلح لي-304) . هذه الحيرة بين الأنا وظلها، بين حكاية (لا تصلح أن تكون بداية لتاريخ الجريمة الذي لم يكتب"(304)، كما يقول في الصفحة نفسها وبين استعارات الصمت التي جاءت عند صندوق وضاح اليمن وخزان التهريب عند غسان كنفاني في "رجال في الشمس"، وعند راشد حسين الذي انتحر تاركاً إيانا أمام وهج عينيه ودواوينه الثلاثة التي تمهد للشعرية الفلسطينية في الغربة والمأساة. الصمت هو مفتاح الشعر، لأن الكلام، لغة النهار، تتفتت ويكون المجاز معبراً داخل دروب الصمت. يتحايل الراوي على قضية صندوق وضاح، ويمر على الاحتمالات عند أبي الفرج، و مأساة الشاعر وضاح للأثري وأحمد حسن الزيات (بغداد: مطبعة العهد، 1935. ص 76). وضمن الاحتمالات تكون الوشوشة خطوة نحو الصمت : " جاءه صوت الملك خافتاً، تتخلله نتوءات تشبه الجروح: يا هذا إنه قد بلغنا شئ ، إن كان حقاً فقد كفّناك ودفنّاك ودرسنا أثرك إلى آخر الدهر، وإن كان كذباً فما علينا حرج في دفن صندوق من خشب"( 85-86، 80 ). هذه المزاوجه بين الدفن (رمزاً) والحكاية المتداولة يعيد الكلام إلى النفوذ والسلطة، واستسهال القتل الذي تنتصر فيه الحكاية عند شهرزاد. كان صندوق الصمت في النتيجة كعباءة الملك الضليل وخزان الماء في رجال في الشمس . والصمت هو الذي يدعو راوي "خربة خزعة" أن يقول عن أهل البلاد الذين يحصدهم الرصاص ويوضع المتبقي منهم بين الأسلاك : " كنت أبحث عمّا إذا كان من بين كل هؤلاء إرميا واحد أيضاً، غاضب ومتقد، يطرق في القلب غضباً وينادي الإله العجوز اختناقاً ، من فوق قاطرات المنفى"(260). هذه هي الترسيمة، كما يسميها الراوي للفلسطيني الأخرس، حيث " يزهار يعلننا يهوداً ليهود إسرائيل"(260). وكما ذكرت، تصادر الرواية الواعية بذاتِها أدوات النقد، لأنها سلسلة من المراجعات التي تعرض للوثيقة، والمجاز، والنص نثراً وشعرا ، وتقدم تفسيراً ما وتنأى عنه نحو آخر. وتأتي بعض الأسئلة عنوة لاستفزاز إجابة مختلفة. " لماذا صمت الوضاح في الصندوق، ولم يصرخ طالباً الرحمة؟"( 79). وتكون الإجابة :" هذا السؤال هو الذي دفعني إلى تحويل هذا المخطط إلى عمل روائي. روايتي سوف تقود إلى الصندوق، وهي تشبه في ذلك رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"(79) .ويستدرك قائلاً عن سؤال اللماذا الذي انتهت إليه الأخيرة : " سؤال كنفاني جاء من خارج الخزان، أما سؤالي فسيكون من عتمة الداخل، حيث يختلط ظلام الروح بظلام العالم"(79). من هنا، يكون صندوق وضاح " استعارة إنسانية عن مأساة الفلسطينيين"(29). يُدرك الراوي أن الاستعارة لن تتحقق بالوثيقة، لأن خصمها يمتلك القدرة على التضليل العظيم في منظومة من السرديات العظمى والصغيرة التي يتيحها النفوذ وتيسرها السطوة المعرفية والماديّة. لابد للاستعارة أن تحيد عن الإفصاح في اللحظة التي تفقد فيها ذلك، توثيقاً وإشارةً. ولهذا يكون حضور راشد حسين الذي يتماهى مع الراوي مهماً لأن قصيدته تأتي منه وهو يشبه حقلاً " من البطاطا والذرة" حيث " يكتب ما يَشبه تهجئة الذات التي تسبق الوصول إلى امتلاك اللغة التي تعبِّر عنها"(40). لنقل أن آدم هو راشد حسين الذي يستعاد في هذه الدفاتر والذي ينتحر محترقاً في شقة صغيرة في نيويورك. إذن من يتكلم في شبكة المجازات حيث الصندوق والخزان والشقة الصغيرة المحترقة؟ هنا يشتغل السرد جاهداً على موضوعه البياض والصمت: فالسؤال الذي نوجهه للفلسطيني الأخرس في رواية س. يزهارخربة خزعة ، وللفلسطينيين في خزان كنفاني، ولوضاح في صندوقه وللملك الضليل في عباءة الجذام، ينبغي أن يتوجه إلى الآخر : يقول الراوي، في رواية واعية بذاتها عن وضاح:"(صار هو الضحية بصمته الذي اختار له أن يكون معادلاً لشعره إذ لاشئ يعادل الشعر سوى فواصل الصمت، التي تضبط إيقاعاتِه على إيقاعات الروح"(32). هنا يهجر الراوي البناءآت السردية، خطيةً كانت أم متزامنة وعمودية ومتداخلة ومتعددة الأصوات. يهجرها لأنه يستعين بما تيسره حافظته وقراءاته في الشعر، وما يقوله الدارس القديم كإبن حزم و أبو الفرج الإصفهاني من قبل في الحب والشعر، ككل متداخل عصيّ على الانفصام : " قال ابن حزم الأندلسي رحمه الله: (وإن كان الحبّ عَرضاً والعرض لا يحتمل الإعراض، و صفةً والصفة لا توصف، فهذا على مجاز اللغة في إقامة الصفةِ مقام الموصوف "(34). تتلاحق مثل هذه الشاعرية لأنها وحدها التي تتيح للصندوق أن يحضر عنواناً للاستعارة الإنسانية التي تأتي بها صفحات تالية : " الحب لا يوصف إلا بمكابدة الألم، والألم لا أسماء له ولا صفات"(35). وهنا يكون مأمون هو الراوي، لأن فيه أعمى تجتمع الحكايات والأقاصيص، والفطنة واليقظة إزاء المخفي والمصمت. وهو عندما يسرد تلك المأساة لتصبح استعارة إنسانية، يعرض لشعر محمود درويش على أنه " إيقاعات المعاني في فواصل الصمت، معلناً أن ميزة أدب النكبة الفلسطينية هو أنه صُنعَ من صمت الضحية فواصل تُعيد بناء الصورة الشعرية"(234). هذا ما يعيد الراوي ، كما يقول ، "إلى ساحة الجامع، حيث ارتفع صمت الضحايا ليغطّي على أصوات الجنود الإسرائيليين"(234). كان مأمون، كما يشخصه الراوي خلاصة للمثقف العربي والفلسطيني في أحسن لحظات التجلي. قال "إن مأساة اللّد علمته كيف يقرأ صمت الضحايا"(114). أما هو بنظارتيه السوداوين، فإنه صار مزيجاً من طه حسين وإدورد سعيد( 114). وإذ يسرد الراوي المرات السبع التي تتشكل فيها ويشكل فيها هوياته المتباينة (ص 118). فإنه ينتهي إلى واحدة هي صورة الكفن المنسوج من "كلمات وألوان" ، كما يقول :" الفن لا يغلب الموت كما كتب محمود درويش، الفن ينسج لنا كفناً من كلمات وألوان، نلتف بها ونغمض أعيننا على رجاء لا رجاء له"(118). فالمقتلة التي يدونها بألوان الموت والدم والحياة والمنفى هي الوجه الآخر للمحرقة النازية ينفذها هذه ضحايا الأمس وهم يخلقون ضحيتهم بترسيمة جديدة، بلا هوية، ولا أرض، ولا صوت، هي ترسيمة الفلسطيني الأخرس عند يزهار.