المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    بريدة: مؤتمر "قيصر" للجراحة يبحث المستجدات في جراحة الأنف والأذن والحنجرة والحوض والتأهيل بعد البتر    غارة إسرائيلية تغتال قيادياً من حزب الله في سورية    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    الجيش الإسرائيلي يحمل حزب الله المسؤولية عن إطلاق مقذوفات على يونيفيل    إسرائيل تلاحق قيادات «حزب الله» في شوارع بيروت    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    24 نوفمبر.. قصة نجاح إنسانية برعاية سعودية    موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    المؤتمر للتوائم الملتصقة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حصون «داعش» في الموصل تتهاوى... وعين العامري على تلعفر
نشر في الحياة يوم 15 - 11 - 2016

لأقل من ثانيتين حدّق في الجثة الملقاة على الأرض عقب الانفجار، عرف أنها لحارسه الشخصي وصديقه الأمين حيدر، تمالك نفسه سريعاً، وبدأ إعطاء الأوامر للتصدي للهجوم المرتقب.
كان الرائد سلام العبيدي قرر قبل دقائق وقف تقدم الرتل المكون من 15 عربة مصفحة وجرافتين قرب أحد المنازل المتناثرة عند أحد مخارج «حي الزهراء» الذي لا يزال يعرف ب «حي صدام»، والذي يطلق عليه «داعش» مُذ سيطر على الموصل اسم «حي الزرقاوي»، وذلك بعد يوم عصيب استطاعت فيه وحدات من الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب للمرة الأولى اقتحام أحياء عدة في الجبهة الشرقية لمعقل التنظيم الأهم في العراق.
دخل العبيدي مع بعض مقاتليه فناء المنزل الخارجي، وطلب من حارسه الشخصي محاولة خلع الباب، قبل أن يجلس على الأرض متصفحاً جهاز «الآي باد» لاستعراض الخطة ومكان لقائه «فوج ديالى» الذي كان يتقدم من محور آخر.
عربة مفخخة، صرخ أحدهم من الخارج بعد ثوانٍ قليلة بأعلى صوته.
رغم مضي عشرة أيام على الحادث، ما زلت عاجزاً عن تفسير سبب خروج الرائد سلام وبعض مقاتليه سريعاً من فناء المنزل بدل البقاء داخله، فيما ارتميت أنا وفريق «بي بي سي» على الأرض للاحتماء من الانفجار الذي أودى بحياة خمسة مقاتلين وجرح حوالى عشرة آخرين.
نجا سلام العبيدي قائد الفوج الثاني في الفرقة الذهبية العاملة ضمن جهاز مكافحة الإرهاب بأعجوبة، وتصدى مع من تبقى من رفاقه لهجوم مقاتلي التنظيم الذي تلى تفجير السيارة المفخخة، واستطاع خلال بضع ساعات تأمين التغطية الميدانية لكسر الحصار واستئناف الهجوم بعد طلب الإمدادات اللازمة. كانت لحظة عصيبة جداً، أشلاء جثث القتلى تناثرت أمام فناء المنزل، رأس هنا ونصف جسد هناك لأشخاص أمضينا معهم اليوم بطوله، لكن الأسوأ ما تبين لي لاحقاً وهو أن الرتل لم يكن في حوزته أي نوع من أنواع المعدات الطبية لمعالجة الجرحى، ما اضطرنا للمخاطرة والخروج من أحد المنازل الآمنة التي احتمينا بها ركضاً باتجاه العربات المصفحة التي كانت لا تزال في مرمى نيران مقاتلي التنظيم، لجلب معداتنا الطبية التي تزودنا بها القناة والبدء بمعالجة الجرحى أنا وصديق من الفريق.
تستحق الفرقة الذهبية في جهاز مكافحة الإرهاب عن جدارة السمعة التي اكتسبتها بعد عامين على قتال التنظيم في تكريت والفلوجة والرمادي وغيرها، وكانت العملية التي بدأت صباح ذاك اليوم 4 تشرين الثاني (نوفمبر)، والتي رافقناها بعربة مصفحة خلف عربة الرائد سلام انتحارية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
التقدم باتجاه المدينة
بدأ التقدم من بلدة كوكجلي التي استطاع جهاز مكافحة الإرهاب السيطرة عليها قبل بضعة أيام، والتي يفصلها كيلومتر واحد عن الموصل شرقاً، بهجوم ناري مكثف، لتبدأ بعد ذلك عملية إزالة التحصينات الكبيرة التي أعدها التنظيم للتصدي للهجوم المرتقب، سواتر ترابية وخنادق وخطوط دفاع متعددة، استطاعت القوات كسرها بعد بضع ساعات والتقدم باتجاه المدينة، من «حي صدام».
كانت ثمة وحدات عسكرية أخرى تتحرك عبر محاور مجاورة من أحياء «الانتصار» و «الكرامة» و «عدن»، لكن التقدم الأكبر تم تحقيقه عبر محور «حي صدام»، والذي اتضح سريعاً فور دخولنا أزقته أن التنظيم كان توقع التقدم عبره مُذ سقطت كوكجلي، وترك ما يعرف عسكرياً ببعض خلايا الإعاقة التي تمركزت عند بعض التقاطعات الرئيسية، لمنع القوات العراقية من اجتياحه سريعاً.
وخلال التقدم، تكرر نداء رئيس غرفة العمليات الذي طُلب منا عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية عبر جهاز اللاسلكي، يأمر القوات المتقدمة كافة بأن لا علاقة لها بالمدنيين داخل الموصل، وأن مهمتها تنحصر في طرد التنظيم من الأحياء المقرر اجتياحها فقط.
بدا المكان مهجوراً من السكان، وكان لافتاً أكثر عدم استهداف الرتل بأي عبوات ناسفة، رغم طول المسافة التي قطعها وصولاً إلى مركز الحي. سلاح التنظيم الوحيد كان القناصة والأسلحة الفردية وبعض الأسلحة المتوسطة بما فيها قذائف ال «آر بي جي»، والتي لم تستطع إعاقة التقدم، بخاصة مع الاستعانة بالطيران العراقي لاستهداف بعض المواقع التي لم يستطع مقاتلو الفرقة الذهبية تحييدها.
لكن دقة نيران القناصة التي تعرض لها الرتل وطول ساعات المعركة اضطرت الرائد سلام للتوقف لتبديل عجلات العربات المصفحة والتزود بالذخيرة، فتم اقتحام أحد المنازل لاتخاذه مقراً موقتاً لحين انتهاء المقاتلين مع إصلاح العربات وتذخير رشاشاتها المتوسطة. اتضح حينذاك أن المنزل مسكون من عائلة كبيرة، كانت مختبئة خوفاً من القتال في الخارج، أخبرتنا أن غالبية سكان الحي لا تزال في منازلها، وأن أعضاء التنظيم سحبوا عائلاتهم من المنطقة وعادوا فرادى.
يقول «علي» أحد سكان المنزل، وهو شاب ملتح في العشرينات من العمر، أن التنظيم كان انسحب من الحي بعد طرده من كوكجلي، لأنهم كانوا يتوقعون التقدم من هذا المحور، لكن بعضهم عاد بعد يومين وأن «مَن تبقى حالياً قلة قليلة، وأن التسجيل الذي صدر لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي أثر في معنوياتهم إيجاباً». كان البغدادي حرض في تسجيل صوتي بث قبل ساعات مقاتليه على الثبات في الميدان وعدم الانسحاب، ومهاجمة القوات المتقدمة بالانغماسيين وكل الأسلحة الممكنة، وناشد أهل نينوى دعم مقاتلي التنظيم.
وبالفعل، كان واضحاً أن العربات المفخخة هي سلاح التنظيم الأمضى، وربما الوحيد لتكبيد القوات العراقية خسائر كبيرة ووقف تقدمها، إذ لم يستطع مقاتلو التنظيم تكبيد الرتل المتقدم أي خسائر تذكر رغم حصاره في أحد الأزقة. لكن ليس حين أمر الرائد سلام قواته قبل مغيب الشمس بنحو نصف ساعة بالخروج من الحي باتجاه منطقة مفتوحة لا يزال التنظيم ناشطاً فيها، حيث استطاع أحد الانتحاريين مهاجمة الرتل بعد أقل من دقيقتين على توقفه، وأقل من عشرين ثانية على رصده وصراخ أحد المقاتلين محذراً من وصوله.
بعد عودتنا ليلاً إلى مقر قيادته في كوكجلي أخبرني الرائد سلام أن الانتحاري خرج على الأغلب بسيارته من فناء أحد المنازل المجاورة أو نفق قريب، وهذا ما حال دون إمكان رصده واستهدافه قبل تفجير نفسه بالرتل.
كان هذا المقر هدفاً لهجوم انتحاري آخر قبل نحو أربع عشرين ساعة فقط، نجا منه الرائد سلام العبيدي بأعجوبة أيضاً، عشر دقائق قبل الهجوم كنا قد غادرنا معه في جولة في بلدة كوكجلي ليتبلغ عبر جهاز اللاسلكي بأن انتحارياً فجر نفسه على بعد أقل من 200 متر من المقر. العبيدي كان قد عاد من رحلة علاج إلى فرنسا إثر استهداف عربته بصاروخ آر بي جي خلال عملية الفلوجة، وأصر على تصدر قواته في اقتحام المحاور الشرقية منذ اللحظات الأولى لبدء عملية الموصل في برطلة وتوبزاوة وبزواية وصولاً إلى كوكجلي، وعلى السماح للإعلاميين بمرافقة الفرقة الذهبية في إشارة إلى ثقته بعدم ارتكاب جنوده أي انتهاكات في حق المدنيين.
لكن ليست هذه هي الصورة الوردية الوحيدة لما يحصل على جبهات القتال ضد «داعش» في الموصل وحولها. أجنداتٌ تتقاطع حيناً وتتعارض في أحيان أخرى بين قوى محلية وإقليمية متصارعة، تحاول أن ترسم بالسكين مستقبل المنطقة من نينوى وعبرها في الاتجاهات كافة.
قبل يومين على دخول الموصل مع جهاز مكافحة الإرهاب، أتيحت لي فرصة مرافقة قوات الحشد الشعبي الشيعي عند المحاور الجنوبية الغربية لمدينة الموصل. الطريق من أربيل إلى هناك يتطلب المرور بالكثير من نقاط التفتيش التابعة للبيشمركة الكردية، والتي تحاول عموماً عرقلة وصول أي إعلامي إلى مناطق الحشد، بالنظر إلى الخلافات الكبيرة بين الطرفين.
بعد اجتياز مناطق سيطرة الكرد جنوباً، لا بد من المرور بمنطقة القيارة التي لا تزال تعاني كارثة بيئية هائلة نتيجة إشعال تنظيم الدولة آبار النفط فيها قبل انسحابه منها. سحابة سوداء تغطي مساحات هائلة من سماء المنطقة، أرخت بظلالها على كل شيء في المكان، بشراً وحجراً.
عند حدود القيارة وشمالها باتجاه الموصل، حيث تمت استعادة بلدة حمام العليل، يبدو كأن حدود عمليات الجيش العراقي وقوات الشرطة الاتحادية تنتهي، إذ على أطراف القيارة، أقامت «منظمة بدر» أحد أهم فصائل الحشد الشعبي مقرها الرسمي، من هناك وعلى امتداد الطريق باتجاه المحور الجنوبي الغربي للموصل، بدا واضحاً أن القوة الوحيدة التي تسيطر على الوضع هي فصائل الحشد الشعبي، وفي مقدمها «منظمة بدر» و«عصائب أهل الحق» و«فرقة الإمام علي».
وكأي جيش نظامي، باتت قوات الحشد الشعبي تمتلك إمكانات عسكرية هائلة، تشمل أنواع العتاد الثقيل كافة، وتحظى عملياتها بتغطية من الطيران الحربي للجيش العراقي، لكن ليس من جانب طيران التحالف.
وكان الحشد الشعبي تأسس عقب سيطرة «داعش» على مساحات واسعة من البلاد في 9 حزيران (يونيو) 2014 إثر فتوى المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني، عرفت بفتوى «الجهاد الكفائي»، والتي استقطبت عشرات آلاف المتطوعين الشيعة من مختلف أنحاء البلاد للتصدي للتنظيم، وانخرط معظهم في فصائل كانت موجودة على الساحة العراقية سابقاً، كمنظمة بدر وجيش المهدي الذي بات يعرف بسرايا السلام، فيما تأسس الكثير منها عقب الفتوى، قبل أن تنتظم لاحقاً في إطار نظري مرتبط بالحكومة أطلق عليه اسم الحشد الشعبي.
ومنذ ذلك الحين، تتهم بعض فصائل الحشد بارتكاب الكثير من الانتهاكات بحق سنّة العراق في ديالى وتكريت والرمادي والفلوجة، وبتغييب مئات المعتقلين وفق ما تشير تقارير دولية. وينفي قادة الحشد صحة هذه الاتهامات رغم أنها مدعمة بالكثير من الأدلة والوثائق، لكنهم خلافاً لجهاز مكافحة الإرهاب العراقي، لا يسمحون لأي فرق إعلامية بمتابعة عملياتهم على الأرض، وهو ما حصل معنا، إذ لم يسمح ببقائنا لأكثر من ساعتين في مناطق نفوذهم.
قلق العامري من تركيا
حين التقيت هادي العامري زعيم «منظمة بدر» هناك، نفى الرجل بشدة أن يكون بصدد الدخول بقواته إلى الموصل عملاً بالاتفاق الذي أقر قبل العملية بين الأطراف المشاركة فيها، لكنه حذر في المقابل أنه لن يقف مكتوف الأيدي إن أخلّت البيشمركة الكردية بالاتفاق وتجاوزت الخطوط المتفق عليها ودخلت المدينة. يعرف العامري أن لا أطماع للكرد في الموصل، وإنما في الكثير من المناطق المحيطة بها في محافظة نينوى، وليس سراً أنهم يعملون ليل نهار منذ بدء العملية في الموصل على حفر خنادق وإقامة أسلاك شائكة وشبكات إنارة على طول الخطوط التي استطاعوا تأمينها لما يعتقد أنها ستكون حدودهم الجديدة مع العراق بعد أن تصمت المدافع.
لكن قلق العامري الأهم يتركز على تركيا حليفة رئيس الإقليم مسعود البارزاني، إذ باتت مدفعيتها تهدد كامل الشريط الحدودي بين الإقليم ومحافظة نينوى، بخاصة قرب بلدة بعشيقة الإيزيدية التي استطاع الكرد استعادتها من تنظيم الدولة قبل أيام.
في المقابل، يُعتقد على نطاق واسع أن العامري وقيادة الحشد الشعبي لا يسعيان لدخول الموصل، وإنما أيضاً لاستكمال تأمين الطريق البري لحليفهم الإيراني من محافظة ديالى عبر بعقوبة، إلى محافظة صلاح الدين عبر الشرقاط، مروراً بجنوب الموصل فمناطق الكرد في سورية وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يتطلب لاستكماله السيطرة على مدينة تلعفر التي لا تزال معقلا مهماً ل «داعش» وتبعد نحو خمسين كيلومتراً غرب الموصل.
نفى العامري حين سألته أن تكون قوات الحشد الشعبي بصدد التوجه إلى تلعفر أو دخولها، مؤكداً أن الأولوية حالياً لاستكمال عملية الموصل عبر تطويقها، وترك طريق الموصل - تلعفر مفتوحاً لانسحاب التنظيم من المدينة، تجنباً لما وصفه بقتال اليائس إن تمت محاصرتهم، ما سيكبد القوات المشاركة في عملية «تحرير الموصل» خسائر كبيرة، لكن تحرك قواته غرباً منذ ذلك الحين وحتى اليوم، يدعم الرواية التي تقول أن الهدف هو تلعفر لا الموصل.
قبل سيطرة «داعش» عليها، كان تعداد سكان مدينة تلعفر يناهز حوالى ثلاثمئة ألف شخص غالبيتهم من التركمان السنّة، وأقلية تركمانية شيعية تحكمت بمفاصل المدينة الرئيسية منذ إسقاط نظام البعث عام 2003، وفي إطار الصراع الهوياتي والتصدي للاحتلال الأميركي والمشروع الإيراني، اندفع كثرٌ من أبناء التركمان السنّة للالتحاق ب «داعش» منذ إرهاصاته الأولى على يد أبو مصعب الزرقاوي، ويسجل حسن أبو هنية في دراسة مهمة ظهور حلقة تلعفر الأمنية والعسكرية والشرعية كنواة صلبة في جسم التنظيم أمثال سعود محسن حسن المكنى بأبو مسلم التركماني الذي بات الرجل الثاني في التنظيم كقائد عسكري قاد عمليات السيطرة على نينوى وتلعفر في حزيران 2014، قبل أن تعلن الولايات المتحدة مقتله في 18 آب (أغسطس) 2015.
ويَبرُز الفيتو التركي كتحد كبير أمام مساعي إيران والحشد الشعبي للسيطرة على تلعفر، إذ حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصياً من تقدم الفصائل الشيعية باتجاه المدينة. لكن العامري قال رداً على سؤال في هذا الخصوص «إن أي تهديد تركي هو عدوان طالما أن قوات الحشد تقاتل داخل الحدود العراقية».
وليس بعيداً من مكان لقائنا بالعامري، تتموضع قوات ذات طابع نقيض على الصعد كافة، سنّية حليفة لتركيا عدوة لإيران، يرأسها محافظ نينوى السابق الذي ارتبط اسمه بسقوط الموصل بيد «داعش» أثيل النجيفي، وتعرف حالياً باسم حرس نينوى أو الحشد الوطني سابقاً، يقدر تعدادها ببضعة آلاف، ويفترض أن توكل إليها مهمة دخول وتأمين أي مناطق داخل الموصل يتم طرد التنظيم منها.
تم تدريب هذه القوات من جانب تركيا، ويقول النجيفي الذي التقيناه في أربيل أن «التهديد التركي يخلق توازناً في المنطقة»، وأنهم يريدون من تركيا أن «تكون لها يد تهدد بها، أكثر مما نريد أن تكون موجودة هنا».
بدا النجيفي حريصاً بشدة على عدم التصعيد مع الأطراف المنخرطة في عملية الموصل، حتى في ما يتعلق بالحشد الشعبي، وانحصر انتقاده لبعض فصائل الحشد بعينها، وعبّر عن مخاوفه من أن تؤدي ممارساتها إلى اندلاع أعمال عنف طائفية، مشدداً على أن الخطر محدق بتلعفر وليس بالموصل. لكنه و على رغم تفاؤله بتطورات المعركة، عبّر عن مخاوفه مما سيلي طرد التنظيم من المدينة، محذراً من أن الموصل باتت «حاضرة سنّة العراق الأخيرة»، قبل أن يعزو مخاوفه لاعتقاده السابق بقوله أنه «منذ اليوم الأول لسقوط الموصل وأثناء خروجي، كنت أعرف أن هذه خطة مدبرة، وأن هناك تخطيطاً لتكون هناك سيطرة إيرانية على الموصل».
خلال جولة استمرت لأسبوعين على محاور القتال المختلفة، يبدو جلياً أن تحصينات «داعش» للدفاع عن الموصل قد تصدعت، فبعد نحو عامين على غارات التحالف الدولي التي كبدت التنظيم خسائر فادحة في العتاد والأرواح وقطع خطوط إمداده، تم حشد أكبر قوة عسكرية منذ بدء العمليات ضد التنظيم لطرده من الموصل، وفي أقل من شهر، استطاع بعض هذه القوات العراقية دخول المدينة من الشرق، وتتقدم أخرى جنوباً، وفيما أطبق الكرد حصارهم على الموصل من الشمال الشرقي، يحاصر الحشد الشعبي الخاصرة الجنوبية الغربية للمدينة.
لا يعني هذا أن التنظيم فقد القدرة على المبادرة، إذ لا تزال هجماته على كركوك والرطبة ماثلة في الأذهان ودليلاً لا يرقى إليه الشك على أن التنظيم لا يزال يمتلك في جعبته الكثير من المفاجآت، خصوصاً إن قادت نشوة النصر بعض الإطراف إلى عمليات انتقام وبازارات سياسية يدفع ثمنها سنّة العراق مجدداً.
وفي خضم هذه التشابكات والتعقيدات المحلية والإقليمية، يبدو من الصعب تخيل شكل المنطقة من هذه الخاصرة الرخوة التي تعرف بمحافظة نينوى، والتي ابتليت بتاريخ أثقل كاهلها بالطوائف والإثنيات، حتى بات من الصعب معها معرفة اتجاهات الرياح فارسية، تركية، عربية أم كردية، وجغرافيا يصعب معها الانتماء إلى وطن اختارت غالبيته الحاكمة أن تفرض عليه لوناً واحداً.
حين عدت لمقابلة الرائد سلام العبيدي قبيل مغادرتي، سألته كيف يرى المستقبل، بدا حائراً قبل أن يجيب أنه ورفاقه اختاروا طريقهم ولن يتراجعوا عنه، تحرير الموصل مهمة مقدسة بالنسبة إليهم كعراقيين. سألته وماذا بعد؟ لكنه لم يجب، يعرف الرجل أن مهمة جهاز مكافحة الإرهاب تتوقف عند هزيمة التنظيم كقوة اقتحام متقدمة، أدركت فورآَ أنه يخشى بشدة من أن يتناهش المتصارعون الموصلَ جثة بعد تحريرها.
* صحافي في الخدمة العالمية ل «بي بي سي» - القسم العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.