حين نفهم النقد بمساحاته الخضراء، فإن الرسل والرسالات مهمة نقدية تقرأ الوحي «المنزل» وتدرك «الواقع المتغير»، كل ذلك في سبيل بناء الإنسان وعمارة الكون واستشراف الحياة، فالخلق الإلهي للإنسان ابتدأ بالمعرفة لا بالجهل (خلق الإنسان علمه البيان)... و(علم الإنسان ما لم يعلم) علم يحقق الوجود والشهود، شهود حضاري يتمثل في العمارة الكونية والبناء التربوي والإنتاج المعرفي، إنها الأديان في حقيقتها وحكمتها وغايتها العظيمة، فلم تكن الأديان مصدراً للأزمة بإطلاق، بل كانت صمام الأمان ومنبع الإستقرار، استقرار أوله وآخره الأخلاق، أخلاق مع الخالق والمخلوق، مبدأ يعلنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وفي قوله «إنما بعثت بالحنيفية السمحة»، لقد شاركت الأديان في بناء الحضارات وإنتاج المعارف. وفي حال يضعف فيها الإنسان عن الوعي، ويتراجع فيها إدراكه، وتخفت فيها روح المبادرة والمشاركة والمفاعلة لديه، عندها ينتج من هذه الحال إنسان غير الإنسان، إنسان مختلف في رؤيته وتفكيره، ومختلف في سلوكه ومخرجاته، يختار الدين كمنفذ لأفهامه وأفكاره، أو يختار الدين كمنقذ لوضع هو يعيشه ولحال هو يتمحور فيها، فيقرأ أفكاره هو في الدين ولا يقرأ أفكار الدين! يبرر ولا يفسر سلوكيات هو يصنعها لا تمت للحياة بصلة «فالموت في سبيل الله أفضل عنده من الحياة في سبيل الله»، والعلاقة بين الله والإنسان بمفهومه علاقة الوعد والوعيد لا علاقة الحب والرحمة، ولا كأن في القرآن (يحبهم ويحبونه). يحصل ذلك على نطاق واسع من السلوكيات الفردية والجمعية، وأما على صعيد الأفكار، فالحال أصعب، إذ تتشابك في ذلك برمجيات وموروثات اختلط فيها المجتمعي والديني. وبالاعتبار الغلط تجاه تلك البرمجيات والموروثات يتم وصفها بعقائد، وهذا يعني القداسة وعدم إمكان الحراك والتغير، إذ هي الثوابت زعموا! وفي حقيقة الأشياء لم يكن «الدين» عند هؤلاء إلا «التدين» وهم يراغمون ويمناعون في الفصل بين المفهومين حتى لا ينكشف الغطاء ويظهر المغطى. لم يكن الأمر يستدعي التدخل الجراحي لحالات التدين الغلط لو كان تديناً يسري من الفاعل وإليه، إذ لكل خصوصيته الفهمية والسلوكية، لكن الأمر تحول وهو أمر حتمي إذا فهمنا طبائع الأشياء إلى تدخل صارخ للغلط بالصواب، في قلب للمفاهيم وعكس للمعاني وتغييب للرؤية وإقصاء للمقاصد، وعندما يرى الغالط نفسه صواباً فالمحتم أن غيره على الخطأ الذي تجب إزالته بكل الوسائل وبكل الطرائق! وفي حين لم تكن رؤية هذه المغالطات واضحة، أو في حين كانت اكتسبت هذه المغالطات غطاء مصلحة سياسية أو قومية، أو في حين أنها تحقق ذاتية المراجع الدينية ومصالحها الشخصية، في كل تلك الأحايين كانت تتشكل خلايا العقل القاصر وتبرمج عصبياته. إن الوصف ب «الغلط» يشعر بإمكان «التصحيح» وبالطبع لكل داء دواء، وإذا كان التصحيح في الفكر الإسلامي بدأ باكراً لأنه لم يكن مستمراً، ما سمح وبقوة للتراكم الفهمي الغالط، بل والجاني أحياناً على الفكر ذاته بأن يجد طريقه إلى المجتمعات والسياسات، بيد أن التصحيح الذي سيمثل حال الانتقال يجب أن يكون متكامل الأداء، أي: التصحيح وبشكل صحيح، لأنها عمليات القلب المفتوح، والجسد المجروح! وكل ممارسة باسم التصحيح لا ترتكز على فهم طبيعة الإنسان وطريقة تفكيره في كل مراحله وكل متغيراته، وملاحظة حاجياته ومتطلباته، التي ربما تمثل الدوافع الأساسية لأفكاره ومخرجاته، كل ما لا يرتكز على التوازن فسوف يقدم تصحيحاً نظرياً ليس إلا، وفي حال تضخمه على التصحيح السلوكي «الفكري والحركي» فإنه يصب في خانة الخلل بدل الحل. ممارسات التصحيح يقوم بها الحكماء والعقلاء، أصحاب التجارب الماضية، والوعي الحاضر، والقراءات المستقبلية، فليس الحل الحكيم في فهم المشكلة بعقلية المشكلة! نحن أمام مؤسسة للحلول، وتركيب للأدوية، هذه تقدمة... وللحديث بقية. [email protected]