حال استثنائية من التفرد والغوص في ثنايا الثقافة الإسلامية بكل زخمها المعرفي والوجودي. حال من العشق والتوله استطاعت أن تنتج تراثاً ثرياً لتلك الثقافة بعد أن رفضت معطيات حضارتها المادية في سبات ماضيها وغفوة حاضرها عن إلهامات التوجه الروحي لتستكشف جنبات عالم إشراقي منفلت من محدودية المكان وآلية الزمان، منساب نحو أفق ممتد، بل لا نهائي، له مفردات تستعصى على الإحاطة ويصعب الاستدلال عليها في الفضاء الفكري والعقائدي للثقافة الغربية. لقد كانت بدايات المستشرقة البولندية يؤانا فرونتسكا في توجهاتها نحو الشرق أدباً وفناً وعلماً وفلسفة مدخلها للإجادة المطلقة للغة العربية في معهد الدراسات الشرقية في جامعة وارسو، بعدها كان الانفتاح على الإسلام وتاريخه وقضاياه وأسرار الحضارة الإسلامية والوقوف على جوهر نهضتها وعبقريتها وقصة صمودها نحو ثمانية قرون، لكن الذي استوقفها كان هو التصوف وفلاسفته وتلك المذاهب التي خلفت ذلك التراث الصوفي بتألقه وتجلياته الحدسية الممثلة لنوع من العلوية العقائدية. ولقد تبوأ الفيلسوف الصوفي محيي الدين بن عربي مكانة رفيعة في عقل يؤانا فرونتسكا إذ لم يكن التصوف عنده مجرد عبادة وانقطاع وخلوة وزهد، بل كان غاية ووسيلة ولم يكن أيضاً عاطفة ذاتية قدر ما كان نزعة فلسفية في أصل الخلق والوجود عايش خلالها شتى أطوار الحب الإلهي حيث يتوحد العالم بالمعلوم بالعلم كما توحد عنده الوجود والموجود والموجد، من ثم فقد أنكر في صلب نظريته في المعرفة الصوفية على العقل المنطقي القدرة على الوصول إلى تلك الحقيقة وقال بالإشراق. وعلى ذلك فقد قدمت دراسات متشعبة تناولت فيها ذلك الصوفي الأكبر في فكرته المحورية عن وحدة الوجود تحليلاً وتفسيراً وخوضاً في بلوغ جذور هذه الفكرة بكل أبعادها وانتهاء إلى ضرورة الاستفاضة العميقة في اعتمادها كفكرة مشعة لقلق ذهني ولها صلاحية البقاء في خلايا العقل المستقبلي، إذ إنها تنم عن شعور واع لمفهوم الألوهية وفيها تبرز عظمة العقيدة والتوحد واليقين وليكن اعتمادها كمبدأ روحي مجرد عن المادة وظواهرها. وقامت هذه الفكرة على مدلولات عدة، منها تماسك العالم واجتماع شتاته في إطار المظاهر الكونية المختلفة والتي ليست إلا مظاهر لوجود الحق وما الموجودات المتعددة إلا انعكاسات ظاهرية لذات الحق أو هي الوجه الظاهر لوجوده ويكون الوجه الآخر لتلك الحقيقة، وجهه الباطن المستتر ويكونان معاً معاني الوحدة الوجودية أو الحقيقة الواحدة الثابتة التي تلم شمل الموجودات المبعثرة وتلائم في اتساق تام بين متناقضاتها، وكل ذلك في رؤية يؤانا إنما يمثل تسامياً روحياً فوق المحسوسات من أجل الحقيقة الإلهية في جعل الوجود كلاً حياً ينزع دائماً نحو أسمى الغايات. وعلى ذلك كيف يمكن للعالم الإسلامي تفعيل ذلك الكنز الروحي الذي يتوق الغرب إلى قشوره قبل لبابه في ظل تأزماته العقائدية؟ وكيف يمكن لهذا العالم أن يجعل من نظرية وحدة الوجود نظرية معاصرة يمكن أن تقدم شفرات لإشكاليات عقائدية وروحية عديدة؟ وأيضاً كيف يمكن لهذا العالم تكريس مبدأ السيادة الإسلامية بفك طرفي المعادلة الكونية؟ وهل يمكن للعالم الإسلامي المعاصر أن يعمل على تطويق الفكر المادي بإعادة الكشف عن اشراقات الفكر الصوفي؟ وهل تسير بالفعل توجهات العلوم الحديثة في أطوارها ونتائجها نحو استكشاف معاني الوحدانية؟ واستنباطاً من ذلك هل يمكن للعالم الإسلامي إشاعة فكرة التوحد وفلسفتها ودلالاتها الخالدة التي ربما تعصم البشرية الآن من أعتى لحظات التأزم التي تعايشها؟ ولماذا انعدم تيار الفلسفة الإسلامية المعاصرة بينما انطلقت علوم كثيرة وأخذ في نتائجها مسار الحقائق العليا؟ وكيف يشيد العالم الإسلامي بظاهرة المد الإسلامي المجتاحة أوروبا والغرب عموماً، بينما هو لا يطرح الإسلام بالشكل الذي يتسق معه سريان الظاهرة واستمرارها؟ وهل يمكن أن تنتفي عن مفاهيم الخير والسعادة معاييرها المادية المألوفة ويصير لها درجة من العمومية بدلاً من تلك الخصوصية الفردية التي تحقق النفع هنا والضرر هناك؟ أن المادية المفرطة التي ينخرط الغرب في قوانينها وأنظمتها ونظرياتها وروحها وطابعها العام لم تحقق ذلك التوازن الذاتي للإنسان المعاصر الذي ارتقى علماً وفكراً وتراجع روحاً وحساً، حتى تجسدت فيه تيارات عدة تشير إلى ارتداد الفكر المادي وانحساره وبروز ضرورات تحتم تقديم معالجات لجفوة هذا الفكر وصرامته وحدته التي طمست مساحات هائلة في الكينونة البشرية وحولتها إلى تماثيل صماء، بينما يغوص الشرق الإسلامي في توهمات ذاتية منها أنه المستأثر الأوحد بتلك الروحانيات المطلقة والفيوضات العليا التي تمنحه صكوك الرضا الإلهي مهما اعتزل التعامل مع الواقع أو احتك معه خلال منطق مغلوط أو رؤية شوهاء أو فهم عقيم مضيعاً على نفسه فرصة أداء الرسالة الوجودية في العمل والفاعلية والإبداع والتمايز على الأخر. وبين هذا الشرق وذاك الغرب لابد أن تسمو النزعة الإنسانية محققة كل الثنائيات المفقودة. * كاتب مصري