ككل سنة، يُحيي لبنان الذكرى الحادية والأربعين لانفجار الحرب الأهلية في 13 نيسان (أبريل) 1975، بنشاطات وطنية متنوعة تعيد تأكيد التمسك بالسلم الأهلي «الهشّ»، الذي تضعضع مرات عدّة منذ انتهاء تلك الحرب العبثية بشكلها «الرسمي». قبل 41 سنة كان لبنان مسرحاً لحرب على أرضه، ودفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائه واستقراره السياسي والأمني والاقتصادي، بعدما كان أنموذجاً رائداً في التعايش والتعددية والنمو، فأصبح «شبه وطن» مثقلاً بالانقسامات السياسية، والاضطرابات الأمنية، والديون التي أرهقت اقتصاده، ومشروعات الحروب التي تتحين الفرص للانقضاض على كل ما تحقق منذ «الهدنة الطويلة» في عام 1990 بعد اتفاق الطائف. لا مناص من الاعتراف بأن إرث الحرب ثقيل، وأثقل منه ذلك الأرشيف الضخم لمآسيها وأهوالها وجرائمها البشعة، قتلاً وخطفاً وقهراً بعبثية وطيش واحتقار لكل المفاهيم الإنسانية والدينية والثقافية، الذي ترك ندوباً كبيرة في الذاكرة اللبنانية، بشقيها الفردي والجماعي. ذاكرة لا تزال تَحول دون تجديد حقيقي للعقد الاجتماعي، بشروطه المعتبرة، كمدخل للتسوية التاريخية بين اللبنانيين، تعزز ما توصلوا إليه في «الطائف»، على غرار ما آلت إليه تجارب أمم مرت بظروف مشابهة. الذاكرة الجمعية، هي ذاكرة التاريخ، ذاكرة الأمة. أما الذاكرة الفردية فهي ذاكرة الشاهد. وفي الطريق إلى التوصل لذاكرة عادلة، متوازنة، تستطيع أن تنسى وأن تخرج من حزنها وثقلها وشقائها وعذاباتها لتغفر أو تسامح، لا بدّ من إنعاش الذاكرة اللبنانية الراكدة بأن كل شيء يبقى كامناً إذا لم يتحقق شرطا «التذكر» و»الاعتراف»، بما هما ممارسة جمعية أو سلوك فردي. فإرث ذاكرة الحرب في مراجعات السياسيين، في تفاخر الجلادين وشهادات الضحايا، كما في الأعمال الأدبية والإبداعية، لا يزال قليلاً جداً إذا ما قورن بالتركة الباهظة التي خلفتها عشرون سنة من الاقتتال (200 ألف ضحية، و197 ألف جريح ومعوّق، و19 ألف عملية خطف). لم يكشف «أبطال» الحرب عن أدوارهم، ولم يستسمح الجلادون من ضحاياهم، فيما يُطلب من الضحية التجاوز وطيّ الصفحة؟! في الذاكرة الثقافية للحروب الأهلية في فرنسا وإسبانيا وروسيا، أدبٌ وثّق للحرب الوطنية، لكنه استلهم من النضال لبناء الدولة– الأمة، وهو منثور في روائع «الحرب والسلم» لنيكولاي تولستوي، «لمن تقرع الأجراس» لهمنغواي، «الأمل» لاندريه مالرو، و «ثلاث وتسعون» لفكتور هوغو، ورائعة الأدب الروسي «الجريمة والعقاب» لفيودور دوستويفسكي. لكن في المقابل، برزت أنطولوجيا المقدرة أو الإنسان القادر الذي استعاض عن قول ديكارت «أنا أفكر إذاً أنا موجود» بالقول «أنا أقدر إذاً أنا موجود»، معادلة ابتكرها بول ريكور (1913-2005) في «التاريخ، الذاكرة والنسيان»، حيث تبدو الحياة عنده مزيجاً من المأساة العميقة، ومن فعل إيمان متشبث بطلب السعادة، وعيشها عبر تجاوز الماضي. هي تلك المفارقة الحادة عبر خطاب شقاء الإنسان بتاريخه العنيف وحلمه بالوصول إلى ذاكرة عادلة تكون بمثابة تتويج لنهاية سعيدة. النسيان لا يعني الغفران «الذاكرة» تنتمي، في العادة، إلى علم النفس ثم إلى التاريخ وهو علم إنساني قائم بذاته. هي الحافظة الأولى للتاريخ، وتقف كوسيط بينه وبين المستقبل، وهي تحوي النسيان نفسه الذي يشكل في النهاية الأفق المحدود لكل التجربة الإنسانية في امتداداتها الزمنية. أما «النسيان»، وهو المتعلق بالوضع البشري للكائن المسمى الإنسان (وفي العربية سمّي إنساناً لكثرة نسيانه)، لا يقصد منه المسح والإزالة delete، أو التلاعب بالوقائع وتحريفها، بل التغلب على الاكتئاب والحزن والسعي للسعادة، وهو مفهوم سماوي عريق أكدته الديانات في حديثها عن السماحة والفطرة، فطرة الخير التي تدفع إلى الابتعاد من الخطيئة ومقابلة السيئة بالحسنة. أما «الغفران»، فهو تأمل التجربة الإنسانية وحدود الذاكرة وصولاً إلى المصير الإنساني وأفقه المفتوح والمحدود في آن معاً. الذاكرة تحفظ الماضي للغد، والتاريخ يحفظ أحداث الماضي عِبرةً للمستقبل، والنسيان يقول لنا أي ذاكرة تستحق أن نحتفل بها أو نحتفي بطيّها، وأي ذاكرة علينا أن نتركها تذهب بسلام ليلفها النسيان ببلسمه، فللتاريخ وظيفة تربوية، وليس فقط إيضاح الحقائق. وفي بلد تعددي منقسم، مثل لبنان، يجب أن تكون هذه وظيفة التاريخ ودوره، ولكن من دون تشويه أو تعمية أو كتمان. هي مهمة صعبة حتماً، لكن لا يمكن الركون إلى مقولة الخضوع للحقائق فقط. من يعرف السّاسة في لبنان، يعرف أنهم موهوبون بالكلام والإكثار منه بِنَهَمٍ كبير، وخصوصاً في ما يتصل بموجبات المصالح السياسية والشخصية، وكل الشاشات والإذاعات والصحف تشهد بذلك، لكن الغريب إلى حدّ التعجب هو ذلك التعفف عن ممارسة التذكر في ما يتصل بأدوارهم خلال الحرب.. وبعدها، وتدثّرهم بتلك الطوباوية المحترفة، فإذا بهم جميعاً «رجال الجمهورية» في كل المراحل والعهود والحقب.. في زمن الدماء وفي أيام الرخاء. لم يسجل تاريخنا الحديث، أي مرحلة «ما بعد.. بعد» الحرب الأهلية، سوى حالتين من النقد الذاتي لتلك المرحلة، لكنهما على فرادتهما شديدتا الدلالة. الأولى، للزعيم وليد جنبلاط يوم وقف في حرم الجامعة اليسوعية (26 كانون الثاني/ يناير 2005)، ليقول «لا بدّ من الخروج من دوامة تبادل التهم، مع الاعتراف بمسؤوليتنا في دائرة العنف، ومسؤوليتنا عن نتائجها. ولكن، في الوقت نفسه، لا بدّ من الاعتراف بأن أيّاً من المتقاتلين لم يحرز نصراً، إذ لا يمكن أحداً أن ينتصر على مواطنيه وجيرانه وإخوانه بتدمير تعايش عمره آلاف السنين»، مشدداً على ضرورة «أن نتذكر بأننا، في مكان ما، كنا أحجار اللعبة العربية والدولية التي كانت أعقد من أن يتمكن أحدٌ من منع الانفجار». في الحالة الثانية، وكانت بعد صمت طويل للأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن إبراهيم، في تأبين المناضل جورج حاوي (7 آب/ أغسطس 2005). تحدث إبراهيم عن «مسؤولية النقد الصريح لما كان من أخطاء الحركة الوطنية، وبعضه كان قاتلاً (..) إننا في معرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ذهبنا بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، واستسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديموقراطي، فكان ما كان». وهو إذ يقرر أنه يسوق هذا النقد الذاتي «بالرغم من أننا لم نسمع حتى اللحظة ما يعادل هذا النقد وضوحاً أو يلاقيه صراحة من الضفة الأخرى»، يعتبر أن الغاية من ذلك «أن تصبح للبلد ذاكرة نقدية مشتركة نستطيع أن نستلهم منها معادلة لبنانية شاملة ترسي ثوابت صون الموقع الإقليمي للبلد من ناحية، وتحدد أصول الصراع حول مستقبل نظامه السياسي من ناحية ثانية». وفي كل حال، يبقى السؤال مفتوحاً على الجهة التي تمتلك المشروعية (Legitimacy) الحقيقية التي تخولها ادّعاء النضج الوطني والأهلية لإدارة الجمهورية، أو حفظها من الشطط مجدداً نحو الاقتتال الداخلي؟ لكن لقائل أن يقول، من ذا الذي زَعّمَ هؤلاء على أولئك؟ وقديماً قال ابن خلدون في تحليله لنفسية الجماهير «فاز المتملقون»، ومن بعده بمئات السنين قال أمير الحرية المشرقية عبد الرحمن الكواكبي عن الجماهير أيضاً، هم «سلاح الاستبداد». نفسية الجماهير تلك التي غاص في تحليلها إريك فروم (1900 – 1980) في «الخوف من الحرية»، إذا ما عُبئت ضدّ بعضها، وزيّن لها الحكام الخروج والتدافع، بمبررات شبه مقدسة، بسبب نفسيتها الخضوعية Inferior، أو بأثر من انفصام الشخصية Schizophrenia، للهتاف باسم الزعيم المبجل، والتقاتل ليكون هو وحده لا شيء غير ذلك.. ومن عاش التجرية اللبنانية قبل وبعد الحرب، يعرف هذا المعنى جيداً. ذاكرةٌ من نوع آخر في محاولات لبنانية جادة، لتسجيل ذاكرة الحرب إبداعاً وتستحق التوقف عندها، كان كتاب بيان نويهض الحوت «صبرا وشاتيلا- أيلول 1983» (2003)، ومن بعده كتاب الزميل يوسف بزي «نظر إليّ ياسر عرفات وتبسم» (2005)، كما حضور السينما اللبنانية في هذا المقام، بأرشفة بعضٍ من يوميات الحرب برؤية نقدية، ك «وست بيروت» لزياد دويري (1998)، و «أشباح بيروت» لغسان سلهب (1998)، و «البيت الزهر» لجوانا حاجي توما، و «طيف المدينة» لجان شمعون (2000)، و «تحت القصف» لفيليب عرقتنجي (2007)، و «دخان بلا نار» لسمير حبشي (2009)، و «ليالي بلا نوم» لإليان الراهب (2013)، و «وينن» لجورج خباز (2014)، و «ميراث» لفيليب عرقتنجي أيضاً (2014). ذات مرّة، قبل سنوات عدّة، وفي إطار النشاطات التي تقيمها جمعيات أهلية، أقيم بجانب خيمة أهالي الضحايا المفقودين في وسط بيروت لقاء جمع إلى أمهات ثكالى أحدَ المسؤولين عن مآسي كثيرين في الحرب. وقف أسعد الشفتري – الناشط حالياً في مجال السلم الأهلي – أمام هؤلاء معتذراً منهم عما فعله بهم وعمّا اقترفه بحقّهم. عن ذنوب الحرب اللبنانية قال: «سامحوني»، وأصرّ على مخاطبة كل واحد من الحاضرين بطلب الصفح، والمطالبة بالمحاسبة. قطعاً لم يكن الاعتذار على قدر فظائع الحرب لكنه فعلٌ محمود، يستجرّ سؤالاً مهماً: أين بقية المذنبين؟ متى يقف كل الجلادين أمام ضحاياهم وجهاً لوجه؟ هل يكفي اعتذار واحد؟ أو هل يكفي أن يتذكّر اللبنانيون، أو بعضهم، الحرب يوماً واحداً وينسوها 364 يوماً؟ «أنا أستطيع أن أتذكر إذاً أنا موجود»، وأن أنسى فأنا موجود، وأنا أستطيع أن أدوّن تاريخي وأن أستملكه فأنا موجود.. وأنا أستطيع أن أغفر من دون أن أنسى فأنا أؤكد كياني بممارستي هذه الاستطاعة التي أملكها. الإنسان قادر على التذكر، وكذلك على النسيان، وقبل ذلك كله إنه قادر على الغفران من دون حساب ولكن من غير أن ينسى. لأن التاريخ، وفق ماركس، «يعيد نفسه، في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة».