قد تكون رواية «الاعتراف المضاد» للكاتب الفرنسي ريشار مييه الصادرة حديثاً عن دار غاليمار (باريس) أضخم رواية عن الحرب اللبنانية، بصفحاتها التي تتخطى الخمسمئة وبنفسها الملحمي. وما يميّز هذه الرواية أيضاً أن بطلها أو راويها الذي ينخرط كفرنسي في الحرب اللبنانية يقارب هذه الحرب من وجهة يمينية. فهو يلتحق بصفوف حزب الكتائب اليميني ويخوض الحرب مع مقاتليه. وهذه الرواية ليست الأولى للكاتب مينيه عن حرب لبنان فهو كتب قبلها كثيراً عن الحرب اللبنانية، روائياً وسردياً، وكأن هذا الكاتب الفرنسي ذو حنين دائم الى لبنان ولن يشفى منه. أمضى الكاتب الفرنسي ريشار مييه جزءاً من طفولته ومراهقته في لبنان، بين السادسة والرابعة عشر. ودأب على زيارة «بلاد الأرز» بانتظام حتى خلال «الحروب» المتعاقبة بدءاً من العام 1975. في روايته الجديدة «الاعتراف المضاد» الصادرة حديثاً عن دار غاليمار (باريس) يمنح فعل السرد للراوي الذي يحكي عن رحلته الى لبنان خلال الحرب اللبنانية على غرار الأدباء المستشرقين. لكنه يعترف بأنه فرنسي يؤدي دور المقاتل المسيحي المتطرّف، فيقول: «منذ وصولي الى لبنان، لم أعد أجرؤ على الكلام. كان عليّ أن أتعلم كل شيء: أنظر، أسمع، أتنشق الهواء بلذّة، أطرح بعض الأسئلة، أحلم كثيراً». وهكذا يتحوّل تدريجاً الى مقاتل مناصر لحزب الكتائب المسيحي، ويلتحق بجبهة فندق هوليداي إن. ومن خلال مراقبته للوضع اللبناني، يتوصّل الى تطوير ثقافته السياسية، لكنه غرق أيضاً في عالم الجمال، الرغبة، الدماء والموت. يكتشف مييه هشاشة الهوية اللبنانية: «ليس لهذا البلد سبب للوجود من دوننا، نحن الموارنة: فإما أن ندع سورية التي لا تعترف باستقلاله تهيمن عليه، أو نسلّمه للإسرائيليين الذين يتمنون الحصول على مياه جبل لبنان». أدرك إذاً أن المسيحيين يعتبرون أن لبنان هو لهم، لذلك هم يدافعون عنه أو يدمرّونه: «نحن بنينا لبنان؛ ونحن سوف نحرقه». لكن، وعلى رغم تورّطه في الحرب، ظلّت ذاكرته الفرنسية تلازمه على مستوى الوجدان، الماضي، الذكريات والتقنيات الأدبية. فاعتمد أسلوب الكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي أبدع في أدبه بتصوير حركة الذاكرة وتفاعلها مع المشهد والحواس والمشاعر. إذاً، إنه تفجّر الذاكرة الأدبية في رواية ريشار مييه. كلمات، عبارات ولحظات تعيد إحياء لمحات من الماضي في حاضر تشوّهه الحرب الدامية. شكّلت العودة الى الذكريات البعيدة أهمّ سمات أدب مييه، فهو يذكر مراراً مقاطعة «كوريز» الفرنسية، المنطقة التي ولد فيها وترعرع. وفي حقيقة الأمر، تجري معظم أحداث الروايات التي كتبها في قريته الأم سيوم. في «الاعتراف المضاد»، يصف الكاتب مشاهد الحرب من خلال تحديد تفاصيلها الجغرافية والتاريخية. يذكر أسماء المناطق اللبنانية التي تحولت ساحات للقتال. ويتناول مختلف الشخصيات، كلاً على حدة محللاً أبعادها السياسية والفردية. وفي إحدى اللحظات الأدبية، يجذبه تفصيل يحرّك ذاكرته الشخصية، الأدبية أو السينمائية التي تتفجّر بجمالية خاصة. فيبدو مشهد الحرب اللبنانية وكأنه مسكون بوجدان أو خيال الكاتب الآتي من بعيد. وبالفعل، يتلازم خياله الأدبي مع موضوعات الرواية، فهو يذكر العديد من الأعمال الأدبية والكتّاب من أمثال هوفمان، جيونو، هوغو وكتاب رونيه جيرار المهم «العنف والمقدس» الذي يُطبّق بسهولة على واقع بيروت خلال الحرب. وكثيراً ما يُظهر الكاتب صورة البطل الأدبي من خلال ذكر أعمال أدبية مثل «حياة نابوليون» وسواها. وتبرز الصور السينمائية من خلال ذكر أسماء أفلام مثل «شانينغ» و «المطلقان»، أو ممثلين مثل نيك نولته وسواه. ويذكر الكاتب مشهد القتال البارز في فيلم «فول ميتال جاكيت» حيث يُقتل أحد المحاربين الذي يبدو وكأنه امرأة فيتنامية. ويتداخل الخيال السينمائي بتقنيات الحبكة القصصية، بخاصة حين يشاهد المقاتلون ساحات قتالهم على شاشة التلفزيون وكأنها فيلم أميركي. على مستوى هذه الحركة بين الواقع والخيال، نجح ريشار مييه في اعتماد الأسلوب البروستي. وهو ذكر في الرواية أن إحدى الشخصيات تشبه بروست. كما أن الجمل الطويلة، التي تكاد تشكّل مقطعاً في أحيان، في الرواية تذكر بالأسلوب البروستي. وعطفاً على ذلك، يبرز القوسان في شكل متكرر في الرواية، فيعبران عن رغبة في الاستطراد في الكتابة. فلا تنتهي الجملة الواحدة إلا بعد أن يسرد الأديب بإسهاب مختلف تفاصيل الحبكة الروائية. كذلك اعتمد مييه صيغة المتكلم الشائعة في أدب مارسيل بروست. ويمكن القول إن الكاتب يحذو حذو بروست في تسليط وجهات نظر متعدّدة على العالم من خلال ذاكرة لاإرادية. وهنا يمكن تحديد العلاقة بين هذه التعدّدية على مستوى وجهات النظر و «الأنا» الممتدة في شكل غير متناهٍ. وإذا كانت برزت أهمية الذكريات غير الإرادية لدى بروست في «البحث عن الزمن الضائع»، فإن الأزمنة والسنوات تتداخل وعلى المنوال نفسه في حركة غير اعتيادية، تمزج الماضي بالحاضر في رواية ريشار مييه: «لم أعد شاباً، ترعرعت بلا أب وبلا أم تقريباً، ربّاني عجوزان، من خارج الزمن العادي، في وقت لا زمني، ولم أكن بلغت العشرين من عمري. وعندما بلغت الاثنتين وعشرين سنة، كان الليل يهبط على بيروت في ضوضاء الزمامير». وتولّد بعض اللحظات التي يعيشها المقاتل الفرنسي في بيروت ذكرى قديمة من حياته في فرنسا: «بقيت هنا، في ظلمة تنجلي تدريجاً، بما أن نور النهار بدا وكأنه يضمن لي الشفاء ونسيان العار، كما كنت أشعر في حمامات جدتي، في فيلفلاكس». كذلك تقوم الحواس بتنمية حركة العودة الى الوراء: «سيوم، التي أعادتني إليها رغماً عني رائحة الموقدة التي يشتعل فيها الخشب في زاوية من الغرفة حيث مكثنا، أنا ورندة». وفي مكان آخر، وحين يسأله مسؤول كتائبي عما إذا كان يحسن استخدام السلاح، يستحضر الراوي في عودة بالزمن الى الوراء لقاءه بطبيب الأمراض النفسية في مدينة سانت ماندي. يتكلّم عن ذكرياته بإسهاب وحنين، من دون أن يُطلع المسؤول عمّا يدور في خلده. الذاكرة اللغوية وعلى هذا المنوال، تحرّك أفعال المحارب الفرنسي البسيطة ذاكرته الفردية. وبالفعل، في صباح أحد الأيام، يستيقظ باكراً ليلتحق بالمقاتلين على الجبهة، فيتذكر في تلك اللحظة أنه كان يكره أن يستفيق في الصباح الباكر في بلدته سيوم، ليتوجّه الى المحطة ويركب القطار. وهو ينطلق من هذه الذكرى الصباحية الى سرد مجريات حياته في قريته الأم. تلك هي تقنية بروست الروائية. فرواية «البحث عن الزمن الضائع» تحتوي على آلة لعبور الوقت، أو بالأحرى على طريق مختصر بين الحقبات الزمنية. وهذا الطريق المختصر هو صورة مجازية. تقترن تلك الرحلة الزمنية في الذاكرة عبر تنقّل الكاتب مييه بين مختلف مجالات الخيالات اللغوية. في الحقيقة، يتمتع الراوي الفرنسي الذي اختار أن يصبح مقاتلاً في حرب لبنان، بذاكرته اللغوية الخاصة، التي تنطلق من خياله ووجدانه المنفصلين عن مخيلة مدينة بيروت اللغوية، كأن يقول: «تذكرني كلمة سلافيا بماركة بيرة وليس ببندقية هجوم تشيخية». كذلك تعمل اللغة على إطلاق صور وذكريات من الماضي: «كانوا يتبادلون الحديث بلغة عربية تتخلّلها عبارات أو كلمات فرنسية وأحياناً إنكليزية، وكانت تلك الكلمات تذكرني بصخور الغرانيت البالي التي ترتفع في بعض المراعي، حول سيوم». وفي سياق الأجواء الرومنطيقية، يقارن المقاتل الفرنسي مختلف الألفاظ اللغوية. فبالنسبة له، تتمتّع كلمة “Je t'aime” باللغة الفرنسية برنة مكتومة، أما «بحبك» بالعامية اللبنانية فهي تشبه صوت التجشؤ والتقيؤ. وتفتقر كلمة «حبيبتي» الى نعومة «ma chérie» ذات النغمة العذبة في اللغة الفرنسية. وفي مواضع أخرى، تطغى إشارات الحواس على اللغة: «كنت عاجزاً عن تمييز هذه النكهات التي كنت أجهل اسمها في ذلك الحين». وفي بعض الفصول، تتحول اللغة الى أم: «دخلت في جسد اللغة، ولدت منها». ولكن سرعان ما ترتبك علاقته باللغة في أجواء العنف والقتل: «انهارت ثقتي بالكلمات كما بالإنسان». ويبرز هذا الغنى اللغوي في مختلف مؤلفات ريشار مييه، وهو قد حاز جائزة «أفضل بحث» التي تمنحها «الأكاديمية الفرنسية» عن كتابه «الشعور باللغة» Le Sentiment de la langue. ولطالما تمسّك بقواعد اللغة، وقد وجّه انتقادات شديدة لعدد كبير من الكتّاب الفرنسيين المعاصرين الذين يتجاهلون قواعد اللغة الفرنسية. على مستوى آخر، ينتقد مييه فقدان الشعور الديني في أوروبا في كتابه «الخيبة الأدبية» الذي نشره عام 2007، وها هو يشرح في «الاعتراف المضاد» أهمية الدين في الظروف الصعبة: «بالنسبة الى المسيحيين، الخطيئة المميتة الوحيدة التي قد ترتكب بحق الروح، هو جعلها تشعر أن القيامة غير موجودة». إنها إذاً مسألة الموت التي يركّز عليها الكاتب في روايته، وكأنه بات يشعر بأن كل أفعاله تتمحور حول الموت: «كل ما كنّا نفعله، نشرب، نأكل، نقتل، نضاجع، ننام، ندخن، كنّا نفعله لأننا سوف نموت». وهو في اعترافه هذا، يبرر فعل القتل، إذ أن أحد أصدقائه يقول له: «أنت تقتل لأنك لا تجرؤ على الانتحار. أما هم فيحلو لهم مذاق الدم. حتى حين تنتهي هذه الحرب في يوم من الأيام، سيستمرون في القتل في شكل من الأشكال». أما هو فيقول: «يمكن للحرب أن تجعل منّا مجانين، إنما ليس مجرمين». من ناحية أخرى، أن الرغبة الجنسية تتمازج مع الموت في الرواية. وبالفعل، قد يرغب المقاتل المحاط بالأموات بجثّة هامدة، إذ أنه غارق في الاضطراب والضياع الناجمين عن حالة العنف والتوتر المتواصل. تبرز تلك الرغبة غير المألوفة في أحد المشاهد: «ربما يمكننا أن نضاجعها، يتمتم إسكندر وهو ينظر الى الميتة الشابة». في هذا السياق، يتذكر الكاتب، ذو الخيال السينمائي المميّز، مشهداً من أحد الأفلام: «موريس بيولا بطل إميلي برونته الذي يفتح قبر كاترين إيرشو ويتأمل وجه حبيبته». وفي أحد فصول الرواية، تتفجّر اللّذة على إيقاع القصف في مشهد رائع يتأرجح بين الرغبة والرعب: «كانت ترتدي ملابس داخلية ولادية، وتستمع الى موسيقى البوب على إيقاع متفجرات قريبة ومنتظمة. كانت تشعر أنها مُراقبة، ليس فقط بعيني إنما بعين تلك الحرب الفاجرة». وهكذا، يبدو لنا أحياناً أن ريشار مييه استمتع، في شكلٍ ما، بأجواء الحرب اللبنانية، وكأننا به يكره الانسانية ويُغرم بها في آن، من خلال استعراض العنف المتواصل، هذا الذي يكاد يكون فيلماً سينمائياً بطله الموت. وأخيراً نطرح على أنفسنا السؤال: هل أعجبنا سرد أحداث الحرب اللبنانية بأسلوب بروست؟ لرواية ريشار مييه طابعها الخاص. فصاحبها كاتب غير لبناني، ممّا سمح له بمزج خيالات جماعية مختلفة، مضفياً غنى مميزاً على الرواية. وقد طغى خياله الفرنسي على الخيال اللبناني في معظم فصولها. وفي النهاية، يطرده أصدقاؤه المقاتلون المسيحيون، حين يحلّ السلام على يد سورية. فينفصل بالكامل عن تلك اللغة الفرنسية اللبنانية ليعود الى فرنسا التي مكثت في ذاكرته ولم تفارقه البتة خلال مشاركته في الحرب، إذ أن كل كلمة، كل وجه وكل رائحة كانت تعيده الى بلاده الأم التي هجرها.