"" أنا الضحية والجلاد أنا"" لجوزيف سعادة قام برواية حكايته أمام صحافيين فرنسيين هما فريدريك برونكيل وفريريك كوديرك وصدر عن دار الجديد اللبنانية منذ سنوات وبمصادفة استثنائية استعرته من صديقتي الكاتبة إنعام كجه جي مع مجموعة كتب، لكني بدأت بالقراءة وأنا في مطلع الأسبوع الأول من نيسان وعلى مقربة من يوم الثالث عشر منه، ورائحة اللحوم المشوية والمحروقة ما زالت في أنفي لما حدث في بيروت ولبنان، في الحرب الأهلية. هو كتاب شهادة / سيرة / ووثيقة لقاتل لبناني قُتل ابنه الأول بطريقة فظيعة والثاني ببلطة شطرته في أثناء الحرب اللبنانية فكان أمامه قسما من الشعب اللبناني مرشحا للتعذيب على يديه وبالتالي للموت. قبل أيام مرت ذكرى 13 أبريل / نيسان ما يطلق عليه ب / البوسطة / الشهيرة التي اطلقت الشرارة الأولى للحرب التي جرت أحداثها في العام 1974. بوسعي تذكر كل شيء فقد كنت أعيش هناك، أبني في القسم الداخلي في مدرسة الفرير القريبة من مدينة صيدا وأنا في بيروت أسكن في بيروتالغربية في مفرق الكولا. حادثة البوسطة إياها وما جرى فيما بعد ولليوم لم تكن أياما معينة بذاتها، مشاهد لا أظن أنها تقدر أن تثبت في كتاب وتترجم إلى لغات . يروي الرجل وهو على هذا القدر من الشحنة الانتقامية التي لم يشف منها وبعد جميع الأعداد المهولة التي قضى عليها بيد واحدة أو بيديه الاثنتين، وعلى من أوصى عليهم وبهم، ومن سهّل أمر القضاء عليهم، ومن مرر عليهم البارود والديناميت فالتصقوا في جلوهم والجدران. شهادة غير معنية بالتقزز، في نبث القبور، أو تبجيل القتل وتحويله لخلطة حياتية ممكن الحياة معها وضمنها وبحالة من التدين أيضا! مذهولة من تبسيط كميات ونوعيات الحقد وتدوينه على هذا الشكل الذي ربما، لم يعد يشكل فضيحة. سمعت عن الكتاب والقاتل ومنذ سنوات هنا بباريس حيث كان حديث جميع الجاليات العربية وعلى الخصوص اللبنانية، لكني كنت أتجنبه فعلا . وثيقة نفسية سياسية اجتماعية وثقافية يمكننا وعبره قراءة حقبة مازالت شظاياها تنخر فينا . علينا دائما الذهاب وطرح الأسئلة الحارقة والمزعجة جدا على انفسنا وعلى جميع الفرقاء للبحث عما تفاقم وتبرعم وأوصل الجميع لما لا نقدر على ابتلاع جرائمه. مؤرخو ومؤرخات مابعد الكولونيالية: هومي بابا، غاياتري سبيفاك، عقيل بلغرامي وغيرهم كانوا يؤكدون أن من الخصائص المميزة للتاريخ الشفاهي هو انه لا يتناول ما قد حدث بقدر تركيزه على المعنى من وراء ما حدث. جوزيف سعادة كان يتحدث وهما يدونان. يقومان بتفكيك آليات فعلي البراءة والقتل مرفوعا على رافعة الثأر بعينه. كنت أغص بالدم في صفحات كثيرة ويكاد ينبثق من رأسي وأنفي وعيني، فقد كانت لدى هذا المنتقم ذخيرة تكفي ""لاسقاط نصف المعمورة "" كان يحادث النجوم ويواصل اطلاق النار والحال، الكتاب هذا هو مباراة بين القتلة أنفسهم، من يحمل راية الفتك أكثر نضع له مشابك من الذهب ونزين صدره بالنياشين. لم يكن جوزيف وفريقه يعدون على الأصابع من يقتلون، كانوا يتعثرون بالجثث، ثم تزاح بالأحذية لكي يمروا براحة إلى غيرهم. 2 "" نفذت ذخيرتي مجددا، تذكرت أن في سيارتي نحو مائتي طلقة بعد. هرعت إلى السيارة متوجسا أن ينقطع حبل المجزرة. ملأت جيوبي وسعها بالطلقات وقفلت راجعا وحيدا على غير هدى. كنت استوقف الناس على طريقي. كانت رصاصتي لا تعدم رؤوسا تستقر فيها "" الأطراف الأخرى أيضا كانت على بعد خطوات من هذا النوع من القتل وكانت الامضاءات الدامية تدون على أجساد البشر . 300 صفحة من القطع المتوسط ، بافكار واضحة مشخصة ودقيقة، باعداء على اللائحة يتضاعف عددهم، بضمير لم يهبط ولا ثانية للتأثيم، بالتياع جنوني على ولديه المقتولين بطريقة لا تُنسى. لا تأخذ هذا المخلوق ذرة شبهة بذاته، لم يتزحزح من جميع الأقوال والأفعال، مما تُرك من أثار تسجل ضده. كانت رنة شهادته وهي تدون تتمتع بفخر يفيض بالمقابل بالأيمان المحض بما قام به، بهذا الاعتراف الذي كان ذريعة لتبني الماضي والحاضر وبلا أية قطيعة مع الغد، بلا أدنى اشمئزاز قط. أرقام القتلى وطريقة القتل بدت بهذه الصورة المرعبة مجرد خلاصة في الاصطلاح اللغوي والقاموسي قادرة على حرث التربة الغريزية والحيوانية البدائية بعيدا بسنوات ضوئية عما اصطلح عليه علم الاجتماع بالتمييز الطبيعي ما بين الغريزي والثقافي، وذاك الذي تطرحه الميثولوجيات فتحاصر به البشر فيضيق الخناق عليهم ويحبسوا في أنظمتها وهم يخوضون حروب الثأر المقدسة. 3 "" هل تشعر اليوم بأنك أخذت بثأرك كاملا ؟ "" "" لا . لكي أشعر بذلك لابد أن يتحرر بلدي من الغرباء . لكي أشعر بذلك . لا أريد أن أرى مسلحا يدافعني أمام محطة وقود أو فرن ، أنا إنسان مؤمن جدا ، ولا تناقض بين إيماني العميق هذا ويبن انتقامي . "" "" هل تشعر بالندم ياجوزيف؟ "" أخذ نفسا عميقا: "" لم أشعر بالندم يوما. لم آسف على شيء أبدا. ولا حتى خلال تلك الليالي التي كنت أحسني فيها منهارا. ولو لزم الأمر أن أكرر ما فعلت لفعلته ثانية بفن أكبر "" أذكر اليوم ما يسمى بالسبت الأسود وأعرف للتو أن هذا الرجل كان يقف وراءه ، وحين تحضر أسماء الروايات اللبنانية بجميع الأسماء للكاتبات والكتاب التي كتبت ما أطلق عليه رواية الحرب، وكانت من الوفرة وسوف تبقى فالحرب لم تنته بعد، فأشعرأن ما كُتب في هذا الكتاب يعادل أغلب ما كتب من روايات بالأسماء المعروفة ، فالحروب أصلا حين تبدأ تستمر، والسلام مجموعة من الوقفات القصيرة والصغيرة لتحضير الجولات الآتية. جوزيف سعادة لم يكن مرشحا لهذا الدور، دور القاتل، فكيف أحترفه وتفنن فيه؟. كيف يترشح المرء لكي يكون قاتلا محترفا؟ وهو ليس روائيا فهذا الكتاب تحقيق صحافي مكتوب بحرفية ومهنية محافظا على الحركات التي ينتظرها القارئ من قاتل لكي يسمع بالتالي ذاك القدر من اللعنات والحسرات على جميع حروب العالم. الصحافيان الفرنسيان اشتغلا على تحفيز وتنشيط ذاكرته لكي تأتي الحصيلة كتابا بلا استعارات ولا مجازات. فالقتل كان يتم وهو يقول : "" لقد قتلته "" كان يقتل بدون توريه ولا حاجة به لما نطلق علية الراوي لكي يكون مسؤولا عن توزيع أطنان الدم عليه وعلى باقي شخصيات العمل الروائي. خلال يومين أتممت قراءة هذه الشهادة وكنت أفحص قدرتي على الاحتمال وأنا في هذا السن المتقدم من العمر، فكان الكتاب يأخذني إلى بقعة عشت واغرمت وتزوجت وأنجبت واشتغلت فيها. في صفحات كنت أنتحب بصوت خفيض حين اشاهد المرء وهو ينحدر إلى هذه الدرجة من المرض والشر ومن جميع الفرقاء. فبعد كل هذه السنين، هذا موديل موجود ومكرر في عموم كواليس هذه الأمة ، فهل سنحضى بقراءة شهادة قاتل لم يصب بالوهن بعد يستطيع أن يجمع الأعضاء المقطوعة والمهشمة من البشر العراقي ولا على التعيين، ويقوم بتذكر كل ذاك وهذا الليل الكلي العتمة والهلاك والسفاهة ، أن يقدم لأقسام العلوم الإنسانية وبلا تأويلات بائتة أو نكوص يخص فرويد أو لاكان شهادات لما حدث منذ الحقب الدموية في العراق وبعد الغزو والاحتلال الأمريكي وما رافق هذا وذاك مما يحصل اليوم. شهادة، أظن ستكتب بقساوة وأذية، بفظاظة وضغينة العراقي لأخيه العراقي وأمام رجل أو أكثر ، فليكن من أبناء العم سام، ولم لا!