هي استعادة للحرب بكل ما فيها من مآسٍ وعذابات. نتذكرها لنتعلم منها، أو نتمرّن على نسيانها. ومع كل تمرين نسمع رصاصاً ونتخيل دماء، ونلاحظ دماراً، ونشيّع شهيداً ونفقد عزيزاً، ونتحوّل إلى كائنات حية بجثث هامدة. ثمة حرب مرّت من هنا، قسّمت بيروت إلى شرقية وغربية، وتركت في غالبية ساكنيها جرحاً ما بعده جرح، وعاهات فكرية وجسدية. الحرب التي مرّت، سلبت ضحكات وأنتجت خيبات، ورسمت نهجاً جديداً لحياة يصعب تخيلها. مشاهد احتضنها العرض الراقص «مخبأ آمن تماماً» في بناية بركات في بيروت أمس. البناية لمن لا يعرفها شُيّدت في عشرينات القرن العشرين، وكانت من أبرز معالم بيروت، وتميزت بحجرها الأصفر، وروعة تصميمها الهندسي (يوسف أفتيموس) وموقعها الجغرافي. عرفت بناية بركات أو البيت الأصفر كما أطلق عليها لاحقاً، الازدهار والاستقرار، فكانت تضم عدداً من المحال التجارية الفخمة، وبعض الشقق السكنية. بيد أن قذيفة سقطت عليها في 13 نيسان (أبريل) 1975 معلنة بدء الحرب الأهلية، أجبرت السكان على المغادرة، ما سهّل لاحقاً عملية نهبها وسرقتها وخرابها. البناية التي كانت مساحة للكثير من الروايات عن تاريخ بيروت، تحوّلت ابان الحرب الى خط تماس قسم المدينة الى شرقية وغربية، فتمركز فيها قناصون بلا رحمة، وتحوّل البيت الأصفر الى أحمر جراء الدم الذي سال فيه. العرض الراقص الذي قدّمته مجموعة من الشبان النروجيين (هيلي سيلجيهولم، سارة كريستوفرسن، كاترينا اريكسون ومارتين ليرفك) فتح المجال أمام عدد لا بأس به من الحضور، للتعرف الى المبنى وما مر به من ويلات، من خلال حركات راقصة نشيطة ومتقنة. تطلب هيلي من الحضور توخي أقصى درجات الحذر والالتزام بالتعليمات لأن المبنى على وشك الانهيار. في الساحة تجمع الحضور، جمهور طغى عليه الأجانب، وكأنهم مهتمون بتاريخ المبنى أكثر من قاطني المدينة الأصليين! من المواقف النادرة واللافتة، أنه خلال التحضير للعمل، علم المعوّق بشير الدرة من خلال موقع «فايسبوك» بالفكرة، ورغب في الحضور، الا أن صعوبة حركته وتنقله منعاه من ذلك، فما كان منه الا أن راسل القيمين على العرض، فأمنوا له من يساعده في التنقل في المبنى ومشاهدة العمل. ويقول الدرة إن العرض أدهشه، خصوصاً انها المرة الاولى التي يدخل فيها المبنى الأصفر، اذ تعرّف من خلاله الى صفحة من تاريخ مدينته. يرغب الدرة كالكثير من المعوّقين اللبنانيين في أن يحضر حفلات موسيقية وعروضاً مسرحية، بيد أن أماكن العرض في لبنان غير مجهزة لاستقبال أمثاله. لا كراسي ولا مسرح للعرض، المكان التاريخي، مسرح واسع يتسع لأربعة راقصين وجمهور وموسيقى وذاكرة تتمرن على نسيان الحرب. تركض هيلي مسرعة مخترقة غرفة شبه مهدمة، تنتقل منها الى أخرى، تتوقف ومن ثم تعود الى الركض بين غرف شهدت قتلاً وتعذيباً وربما ذبحاً على الهوية. مع كل حركة تُؤديها الراقصة النروجية ثمة حكاية تُروى. رفيقتها سارة تصعد الى الطابق الاول من المبنى، وهو يالمناسبة لا يزال على حاله، كما تركه المقاتلون الذين سكنوه. سواتر ترابية، وجدران مصدعة تُزينها طلقات رصاص حفرت الزمن. تتنقل في أرجاء الطابق، تعبر من مرحاض الى غرفة جلوس شهدت لهو أطفال وجلسات نقاش حادة بين زوج وزوجته. سواتر ترابية تخترقها فتحة صغيرة، كانت تطل منها بندقية قناص لتصطاد المارة. لم يجهد القيمون على العمل بالتفكير في السينوغرافيا المناسبة للعرض، فثمة جدران يثقبها رصاص، وشعارات مكتوبة عليها، وتحصينات وسواتر ترابية، وشمس تخترق الجدران المهدّمة، وأنصاف عواميد لا تزال صامدة. المميز في العرض، أن الجمهور كان جزءاً أساسياً فيه، فالطريقة التي كان يتبع بها الراقصين، عرّفته الى المبنى على مراحل. لا تزال العروض التفاعلية القائمة على الحركة والتفاعل بين الفنان والجمهور في لبنان، جديدة نسبياً، ويُوقّع غالبيتها فنانون أجانب، وإن كانت ثمة محاولات لعدد من الفنانين اللبنانيين لترسيخ هذا النمط الجديد على الجمهور المحلي، ولكنها تبقى ضمن اطار ضيق. تميز العرض بقوة مشاهده ورشاقة راقصيه، وحسن اختيار الزوايا التي قدمت فيها بعض «المعارك الراقصة»، إضافة الى تعابير الوجوه المنغمسة بالأجساد المتلاصقة، وسهولة التعبير عن الأفكار التي كان الراقصون يريدون إيصالها، من دون «تلعثم» أو تعقيد. ويبرز العرض، مدى حاجة المشاهد الى هذا النوع من العروض، خصوصاً انها تعمل على تنشيط الذاكرة، وتفتح المجال أمام الذات للنقد وإعادة التفكير بما حصل، والخروج باستنتاجات ايجابية، والتوقف عند الأخطاء والتعلم منها. بعد انتهاء الحرب الأهلية، لم تستطع عائلة بركات اعادة ترميم المبنى أو دفع التعويضات للمستأجرين القدامى، فاشترته بلدية بيروت، وهي تعمل حالياً على اعادة ترميمه وتحويله الى «متحف ذاكرة مدينة بيروت». ويفيد إعلان علق على واجهة المبنى بأن الأعمال ستنجز في عام 2013، بيد أن العمل متوقف في المبنى منذ فترة ولأسباب مجهولة. وسيكون المتحف ملتقى ثقافياً وفنياً وحضارياً ومكاناً لحفظ الأبحاث والدراسات التي تتناول مدينة بيروت عبر التاريخ. كما سيشهد نشاطات عدة كمعارض وأفلام وثائقية، إضافة إلى تسهيل تبادل المعلومات مع مدن أخرى «توأم» لبيروت. قدّم العرض بدعم من بلدية بيروت، السفارة النروجية في بيروت، مكتب الفن المعاصر في النروج (OCA)، وزارة الخارجية النروجية، «بيت زيكو هاوس» و «أمم للتوثيق والأبحاث».