تستهل الشاعرة اللبنانية إيناس مخايل ديوانها الرابع «نبدأ من جديد» بقصيدة لشكسبير حول الزمن يقول فيها: «الزمن بطيء جداً لمن ينتظر/ سريع جداً لمن يخشى/ طويل جداً لمن يتألم/ قصير جداً لمن يحتفل/ لكنه الأبدية لمن يحب». ومن يقرأ قصائد ديوانها الجديد يلمس كم أنها تدور في فلك هذه المقولات الشعرية والفلسفية، فالقصائد تجمع بين كونها قصائد حب وقصائد وجودية تواجه لعبة الزمن وقصائد بوح واعتراف وشكوى... تكتب الشاعرة من أجل أن تبدأ من جديد، اللحظة الشعرية هي لحظة ولادة مقابل لحظات اليأس والقلق والأسى والخوف. ولم يكن مستغرباً أن توضح الشاعرة في مقدمة صغيرة معنى الجديد وما يحمل من تبدل أو تغير في جوهره قائلة: «قد تقولون ليس هناك من جديد، وأن الوعود كلها تحتمل الشك، وأن الحياة تدور ولا يبقى شيء على حاله. صحيح، أما الجديد فهو الثبات في الحق والحب حتى الأبدية». وهكذا يمكن فهم الجديد بحسب الشاعرة في كونه الاستمرار الجوهري، الداخلي والسري، الجديد يحمل من الثبات ما يحمل من الحق ومن الحب المتجدد بذاته أبدياً. تحمل القصيدة الأولى في الديوان عنواناً لافتاً هو «أجنحة الألباتروس» الذي يذكر بعنوان قصيدة بديعة للشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير، لكن القصيدة ليست تكراراً لقصيدة بودلير بتاتاً مع أن طائر الألباتروس يحمل في القصيدتين الرمز نفسه، رمز السفر والهروب ما وراء البحار بحثاً عن عالم الصفاء والنور والإشراق. وكلمة ألباتروس تعني بالعربية طائر «القطرس» وقد استخدمت الشاعرة الاسم الأجنبي لسهولته وانتشاره حتى عربياً. وتركز القصيدة على أجنحة الطائر والأبعاد التي توحي بها، روحياً وعاطفياً وصوفياً: «نجتمع فوق هذه الأجنحة الطائرة/ نهمهم مع همهماتها همومنا الراحلة/ إلى أعماق أفق يرتسم ألواناً متضاربة/ تتعانق ومشاعرنا». وفي ختام القصيدة تقول الشاعرة: «ليس لي إلا هذه الأجنحة/ أجنحة الألباتروس/ التي تطير وتطير ولا تعرف غير الحرية». تكتب إيناس مخايل الشعر بحرية تامة، فهي لا تأسر قصائدها ضمن أطر محددة أو أنواع ولا تجعلها أسيرة موضوعات وقضايا جاهزة أو مسبقة. شعرها في هذا المعنى مفتوح على الحياة مثلما هو مفتوح على فضاء الشعر اللامحدود. تكتب في الحب وعن الحب، عن العشق الروحي، لا الجسدي أو الإباحي، فالحب لديها هو تجربة روحية ونفسية والحبيب يحضر لديه بصفته الطيفية أكثر مما يحضر حضوره المادي أو الشيئي و»الفيتيشي» كما لدى نزار قباني أو أنسي الحاج. إنها تخاطبه وتعلن حبها له وتلومه ولكن بلطف وتعاتبه وتعترف له بسطوته لكنها لا تستسلم له ولنزواته. إنها الشاعرة المترفعة والأنوفة، مهما عذبها ألم الحب تظل عالية الشكيمة. وقد يكون هذا الحب قريباً من الحب الصوفي الذي يجعل العاشقان روحين تذوب الواحدة بالأخرى وتهيم بها من دون اتصال، تقول الشاعرة: «نم حبيبي قرير العين في رحاب سهولي»، أو: «لملمت جروحي وروداً حمراء سكبتها عطراً بين يديك»، أو: «تعال حبيبي، معك أكتب الحياة وتكتبني فلا أكون مجرد ورقة بيضاء». ويبلغ الحب ذروته الروحية حتى لتعلن الشاعرة ذوبانها في من تحب متخلية عن نفسها وحواسها: «أفرغ نفسي مني وأملأها من جديد بروحك. أنت تحيا فيّ». أو: «اختصرت عمري لحظةُ حبك». بل أن الحماسة العشقية تدفع الشاعرة إلى الاعتراف بجرأة تامة قائلة: «معك، لا أكترث بجذوري». لكنّ الشاعرة لا تخفي ما يسمى دوماً «أسى» الحب وحزن المحبين وهما من الموضوعات التي شغلت الشعر العربي والعالمي على مر العصور، كأن تقول بإحساس ملؤه اللوعة: «نفيتني إلى ليل ظالم أجالسه وحيدة»، أو: «لم يعد أحد يسمعني. ابتلعت تمتماتي، ليس هناك من أشكو له، دخلت مرحلة الاشتعال بدون أي دخان». وفي قصيدة جميلة عنوانها «أمام المرآة» تكتب عن حال الانفصام الذي يحمله المرء والمرأة بالتالي في روحه أو روحها، ويجعل من الإنسان «أنا» أفقية أو خارجية و»ذاتاً» عمودية وعميقة أو داخلية. تقول الشاعرة في هذه القصيدة: «وقفت أمام المرآة وقالت: أيعقل أن أكون امرأتين/ واحدة أراها وأخرى تتوارى خلف صورتي؟». وترقى موضوعة «المرآة» إلى مستوى وجودي في قصيدة أخرى عنوانها «الصورة المنكسرة» وفيها تقول: «اقلب الماضي كمشة تراب/ لا أستطيع نفخ الروح فيها/ ترتسم مرآتي/ وتسقط صورتي منكسرة/ منهزمة بين رمالها». تحقق إيناس مخايل في ديوانها الجديد «نبدأ من جديد» خطوة جديدة نحو المزيد من الثبات والبلورة مرسخة مسيرتها الشعرية أكثر فأكثر على الأرض الصلبة، أرض الشعر واللغة والوعي.