لا يبدو المخرج المسرحي اللبناني الفرنسي نبيل الأظن غريباً عن الشعر، فهو عاشه في المسرح، نصاً وروحاً ومشهداً، علاوة على احتكاكه الدائم بالشعراء وعالمهم ولغاتهم. وخير دليل على هذه العلاقة الوطيدة بينه وبين الشعر ديوانه الصادر حديثاً بالفرنسية بعنوان «ستة وعشرون حرفاً وغبائر» (منشورات المجلة الفينيقية – بيروت)، وهو الأول له بعد نصوص وترجمات عدة. والديوان هذا مفاجئ حقاً بما يحمل من نضج في الصنعة الشعرية وعمق في الرؤيا واسترسال في «اللعب» اللغوي الذي يتطلب مهارة ومراساً. وهو لا يمكن البتة إدراجه في خانة الدواوين الأولى المشوبة غالباً بالهنات والعثرات لكونها تمثل الخطوات الأولى في عالم الشعر. كأن هذا الديوان هو حصيلة تجربة عاشها نبيل الأظن بالسر أو بالصمت ثم لم يلبث أن فجّرها عندما حان وقتها. يكتب نبيل الأظن شعراً أكثر مما يكتب قصائد. فالديوان هو أشبه بفضاء مفتوح تتلاقى فيه أنواع متعددة من الشعر وتتقاطع وتتداخل لتؤلف مناخاً شعرياً قائماً على اللغة وإشاراتها كما على الرموز والمعاني والصور. وهذا الشعر لا يخفي حواره العميق مع الرسوم التي ضمها الديوان والتي أنجزتها الرسامة الفرنسية سيبيل فريديل مستوحية الأشعار نفسها. وقد يكون الشعر بدوره استوحى هذه الرسوم في حال من «التراسل» الحسّي والروحي والفني. وقد يشعر القارئ أن ما يبصره من رسوم وخطوط يفسّر – بصرياً – ما فاته أحياناً في الأسطر الشعرية المتهادية. والعكس صحيح ايضاً، وهذا ما يدل على التلاحم بين يد الشاعر ويد الرسامة. فالرسم هنا ليس تزييناً للشعر بل هو تجسيد له بالخط والشكل. وفي هذا الصدد يقول الشاعر: «ولوج بين ابيض الخط وأسوده /رقص فوق انخساف ارضي». تختلف أشكال الكتابة الشعرية في ديوان نبيل الأظن. في أحيان تغدو الصفحة كأنها حقل «تيبوغرافي» للأسطر الشعرية التي تتوالد من نفسها منطلقة من بياض الصفحة الذي لا حدود له، تماماً مثل الشعر المتحرر دوماً من قيود القصيدة. يرتسم الشعر على الصفحة كما ترتسم الغيوم في السماء وكما تتوزع الرسوم وسع البياض ايضاً. هنا تذكّر هذه اللعبة البصرية بما أبدعه – على سبيل المثل – الشاعر الفرنسي ستيفان ملارمي في قصيدة «رمية نرد» أو الشاعر الفرنسي أندريه دو بوشيه في دواوينه التي تفيض بالبياض. الشعر هنا يجرف كل ما يعترضه، يتواصل ويتقطع، كما الموج الذي لا يهدأ. اما في الأجزاء الأخرى من الديوان فتسعى الكتابة الى حال من الانتظام اللامرئي أو غير المعلن، حتى لتغدو بعض الأشعار مقطوعات نثرية أو سردية وبعض آخر منها قصائد هايكو صغيرة وحديثة مادة وروحاً. ولا تخلو بضع قصائد صغيرة من النفَس الغنائي وبخاصة قصائد الحب التي تخرج على «النموذج» الشعري الذي طالما عرفه شعر الحب. في هذا القبيل يقول الشاعر: «تمددي على الورقة وأغمضي عينيك، الليل يتعهد أن يصقل المادة، جاعلاً إياها أشد إلغازاً، مثل ماء المستنقعات». هذا الحب يحضر بشدة في الديوان، جهاراً حيناً وفي الخفية أحياناً. فالمرأة كائن وكينونة مثلما هي جسد وروح، رغبة وشهوة: «يداك قوس قزح»، يقول الشاعر، ثم يخاطب امرأته قائلاً: «يتوارى جسدي/ لكن أثري يبقى/ بين يديك». قد يكون الديوان «ستة وعشرون حرفاً وغبائر» هو كتاب نبيل الأظن. كتاب حياة تمتزج فيها الذكريات بالصور، والمخيلة بالعيش، الغرائبي أو الفانتازي بالواقعي، الحلم بالرغبات، الفكر بالمعاناة... هكذا تبرز مثلاً «تيمة» المنفى التي تتخطى المفهوم الجغرافي أو «الوطني» للمنفى جاعلة منه إقامة على حافة الشعر والتخييل والمكابدة. فالشاعر الذي يعلن بأسى: «لم يبق من بخور ولا عسل/ لم يبق من أريج براءة/ آهٍ يا بلادي»، يدرك أن ما يرثيه هنا ليس «الوطن» في مفهومه الشائع وإنما يرثي الوطن – الكائن، الوطن – الطفولة، الوطن – الجذور. ولا يلبث أن يقابله ب «المنفى» الذي هو اقتلاع واغتراب في قلب العالم ،حضوراً وغياباً. يكتب الاظن المنفى أكثر مما يكتب عنه. فالمنفى هو «حكايات مكتوبة بالحبر الأبيض» أو «عيون تواقة في إطار النافذة»، أو «كوكب مخرّب نهائياً»، أو «ملاءة محلوم بها بيضاء على جسد أبيض»... هذا هو المنفى، داخلي قبل ان يكون خارجياً، وجودي قبل أن يكون تاريخياً، نفسي قبل أن يكون حسياً. يقول الشاعر ايضاً: «ملاءة – كفن في أحيان». لعل هذه الصورة هي أقصى ما يمكن ان توصف به مأسوية المنفى... ولا ضير في أن يتخيّل الشاعر نفسه «تائهاً في بلاد/ بلا خريطة ولا إسم». لا ينسى الشاعر ما تبقى في وجدانه ومخيّلته من معالم الوطن الذي كان في الأمس، والذي لم يجد له بديلاً حتى في فرنسا «وطنه» الثاني بالتبني. فهو يذكر «الأشرفية» (المنطقة المتاخمة لبيروت) التي «ما زالت هنا/ بيت طفولتنا/ طفولاتنا»، كما يقول. ويذكر ايضاً شقيقتيه اللتين كانتا جزءاً من هذا الوطن أو الطفولة، واللتين رحلتا. نوال الأخت الصغرى التي «رحلت قبل انتهاء الصيف/ رحلت في عذوبة الفجر... رحلت الى صميم الفجر الرائع، رحلت في ألم الفصول». أما نهاد، الأخت الكبرى، فهو يخاطبها وكأنه يخاطب طيفها: «هي ذي أنت في بلاد الظلال المتحركة/ حيثما طيور التمّ تتيه في الرمل/ حيثما الجياد تتبختر في الماء/ هي ذي أنت في بلاد لا تتفتح فيها الورود لأحد». قد لا تكفي قراءة واحدة لهذا الديوان الذي يضم الكثير من الشعر والذي يتحد فيه الرسم والكلمات اتحاداً جوهرياً حتى ليذكّر قليلاً بصفحات الشاعر والرسام هنري ميشو التي كان يخطها بالكلمات والرسوم. فضاء شعري تحتله عناصر الطبيعة، ومن ضمنها العناصر الأربعة التي قال بها الإغريق، وعناصر الكون، السماء والبحر والكواكب والزبد... وكلها تحضر بأثرها وعلاماتها، حضوراً فيزيقياً وميتافيزيقياً، ضبابياً وفلسفياً، صوفياً وحسياً. ولعلها تذكّر بعالم الصوفية، البودية أو الزان، الصوفية الفارسية، الإسلامية والمسيحية... يضم الديوان الكثير من الأسطر الشعرية البارقة والمقطوعات المكثفة، ويشعر القارئ كأنه في رحلة صيد بحري لا تنقصه سوى الشباك ليصطاد ما يصادفه من لآلئ وأصداف. وفي قراءتي هذا الديوان اصطدت الكثير من تلك اللآلئ والأصداف: - يسمع بكاء في المرآة. - هل من عدمِ عدمٍ؟ - بلا مجذاف/ ولا جذاف/ الغندول ينساب على الماء/ الرمادي الداكن. - زبد/ حبر/ صدف/ أشعة نور/ شواطئ من حرير صيني/ زبد. - العنكبوت الهائلة ترخي أشعتها. - الدمعة على حافة العينين بحيرة مالحة تشطرها الغيوم. - يقظة بلا أنوار، كما في قعر قبر. - بياض الصفحة أقل إبهاراً من لغزها. - أن تتعلم صمت قطرات المطر/ أن تجعل نفسك قطرة/ وتصغي. -أبغي أن أكلمك عن البياض أيتها اليمامة/ مثلما يلتمع في السواد الشديد، سواد حبرك. - الوضَح الذي يحل فجأة يوسّع الحدقات. معطف أبيض يغطي كل شيء. أشجار وسهل. قطعان وأعمدة. ولكن لا، ليس العصافير. - سقطت المرآة من يديه/ طار وجهه شظايا/ مذاك/ متشظياً يعيش. - الكلمة لأنها من الكلمة تولد/ كما الماء من الماء/ ومثل القطرة لا يعرف طفولة/ يولد ويرحل، مدندناً.