سوزان عليوان شاعرة لبنانية تكتب القصيدة النثرية بشكل لافت وميز, فالقصيدة عندها طائر مدهش له أجنحة تحمله بين كفيها ثم تطلقه عبر الورق إلى فضاءاتها بعد أن تكون قد أضاءت القصيدة أصابعها شموعا. في حوارها مع (اليوم الثقافي) أكدت رهانها على القارئ الواعي الذي ستتوجه إليه بقصائدها نافية بعض المصطلحات التي تطلق جزافا على الشعر والشعراء والجماهيرية التي تتحفظ كثيرا على تسميتها مؤكدة أن القارئ الواعي هو مشارك لها في صناعة قصيدتها.. فتعالوا إلى تفاصيل هذا الحوار: الولادة الأولى للقصيدة لا تمنحها كل التفاصيل الجميلة. لابد من لمسات الشاعر الشاعرة, نبضه/ نبضها الإضافي, أقصد النبض الذي يضاف على الشعر من خلال القراءة وإعادة الصياغة. @ هل سوزان عليوان مع الولادة الأولى للقصيدة بكامل عفوية الولادة أم مع النظر إلى قصائدها قبل النشر؟ يختلف الأمر من قصيدة إلى أخرى. فهنالك قصيدة تولد مكتملة الألوان والأجنحة وبدون زوائد هنا وهناك. مثل هذه القصيدة أحملها في كفي وأطلقها عبر الورق إلى فضاءاتها بعد أن تكون قد أضاءت أصابعي شموعا. طبعا, هي قصيدة نادرة, لكن دهشتها - إن وجدت - تفوق أي تصور! أذكر أن قصيدة (الحب في ليلة باردة) خرجت هكذا إلى النور. لم تستغرق كتاباتها مني سوى وقت نقلها من الروح إلى الكمبيوتر (لم أستخدم في كتابتها القلم والورق حتى, على غير عادتي) لذا لا أسميها قصيدتي, وإنما هي قصيدة أهداها الشعر إلي. وهناك قصيدة مشاكسة وعنيدة, تتصرف كطفلة مجنونة في الروح وعلى الورق. مثل هذه القصيدة, أجلسها أمامي لساعات وأحيانا لشهور. أحاول ترتيب ملابسها وشعرها, أحاول تقليم أظفارها لتخرج إلى الناس في أبهى الأشكال. أقسو عليها من أجل مصلحتها, بحنان وحزم أم. قصائد قليلة لم تتبعني أغلبية قصائدي جرجرتني وراءها رغم إيماني بأن الدفقة الأولى هي روح النص إلا أن العمل عليه بدأب وحرص, هو ما يمنحه جسدا جميلا يليق بهذه الروح. وكتابة الشعر هي محاولة تعشيق روح القصيدة بجسدها لصنع كائن واحد.. أنظر إلى قصائدي قبل نشرها بإمعان ودقة, ولكنني لا أبالغ في نقد الذات قبل نشر القصيدة.. لأنني لو فعلت ذلك, لما نشرت حرفا واحدا. قسوة النقد تأتي بعد النشر, في سبيل نص قادم أحلم دائما بأن يكون أجمل مما سبقه من نصوص. @ لنعرج على تجربتك الشعرية إلى الخصوصية التي تميز قصائدك والتي تحاول روافد تجربتك وذاكرتك الشعرية إذا صح التعبير تعميقه. ما روافدك في مسيرتك الشعرية؟ النبع - الأم هو الحياة.. والجداول لا تحصى. على رأسها القراءة . اقرأ كثيرا, وأذكر نفسي دائما بأن شعري في قراءتي وليس في كتابتي. وعلى الشاعر أن يقرأ 100 صفحة ليكتب جملة واحدة. قراءتي ليست محصورة على الكتب وحدها, وإن كان الكتاب هو الخزان الأساسي لماء الروح. أقرأ الأمكنة, اللحظات, الناس, الأشياء.. أقرأ , ملامحهم, همومهم... أحاول قراءة ما بين سطورهم وكثيرا ما أفاجأ وأنا أكتب, بمكان غائب يخرج من الذاكرة إلى القصيدة, بلحظة مرت وظننتها زائلة فإذا بالزمن يتوقف عندها في صورة شعرية. هنالك غرباء أعبر ظلالهم المضيئة, سواء في شارع أو في مقهى أو في صورة في جريدة, أجدهم فيما بعد يظهرون في قصيدتي مثل وجوه تتوالد دوائرها في الماء. على الشاعر أن يغذي روحه باستمرار بلهب الحياة, لئلا تنطفئ شمعته,. أحيانا أغذي روحي بكتاب لشاعر أحبه, وأحيانا بالرسم وأحيانا بالاستماع إلى الموسيقى وأحيانا بالمشي في الشارع لأستمد منه النبض. روافدي: كل ما يمر ويعلق بالروح. @ الجماهيرية في الشعر (مفهوم قلة من حققه من شعرائنا) ترى كيف يمكن للشعر أن يكون جماهيريا دون أن يقدم تنازلات على صعيد قيمته الفنية؟ أتحفظ على كلمة (جماهيرية) وعلى كلمة (جمهور) نفسها, فهي توحي بأن القراء مجموعة من الظلال تدور حول شاعر نجم, وفي هذا ما يسيء إلى القارئ والشاعر والشعر. أرى علاقة الشاعر بالقارئ كعلاقة البحر بالساحل... كائنان يكمل أحدهما الآخر. كلما ازداد عدد قراء الشاعر, اتسعت سواحله وبالتالي اتسع بحره. عن نفسي, لم أتعامل في حياتي مع قارئ على أنه متلق فحسب, بل أعتبره صانعا للنص معي. فلولا قراءته لشعري, ما قيمة هذا الشعر؟ القصيدة تخرج إلى النور حين يفرغ الشاعر من كتابتها لكنها لا تضيء وتبصر إلا بقراءة إنسان آخر لها. ذلك الإنسان هو القارئ. وهو ليس من جمهور الشاعر وإنما من أصدقائه. أعود إلى تعدد السواحل (ما سميته أنت بالجماهيرية في الشعر) هناك اعتقاد خاطئ وهو شائع للأسف بأن وصول القصيدة إلى الناس يحتاج إلى تنازلات شعرية... لأن الناس تجبر الشاعر على التنازلات الشعرية.. أجزم عن تجربة بأن التنازلات لا يفرضها القارئ أبدأ. هذه التنازلات المؤسفة تفرضها على الشاعر والقارئ معا الجسور المتاحة بينهما, وأقصد بذلك دور النشر والإعلام وما يسمى بالمهرجانات الشعرية. فهذه الجهات تجارية بحتة واستهلاكية بطبيعتها, وهي تنتفع من الشاعر والقارئ معا. تسخر الشاعر و(الشاعرة بشكل خاص) مادة ثرية لها مقابل الشهرة, وتستحوذ على جيوب الناس مقابل المتعة. أنا مثلا أنشر في الصحافة حتى ان لم أكن راضية عن مستوى المطبوعة أحيانا (ويحزنني هذا الأمر حتما) لكنني لم أنشر في حياتي كتابا عن طريق دار نشر (لئلا يتدخل ناشر - تاجر في مضمون أو شكل كتابي) ولم أحضر مهرجانا شعريا رغم بعض الدعوات التي وجهت إلي (لئلا اصبح في يوم من الأيام شاعرة مؤسسات ودول بما في ذلك بلدي نفسه). أنشر كتبي على نفقتي الخاصة في طبعات محدودة وبسيطة وأهديها إلى الناس. أحاول قدر الإمكان الاستغناء عن الجسور والمؤسسات, لكنه لا يمكنني أن أستغني عنها تماما, فلقصيدتي ولقارئي حقوق علي. لذا أنشر في بعض الأماكن التي ما كنت لأرضى بها لو وجدت بدائل أفضل منها. قد يكون هنالك تنازل من قبلي في قبول النشر في مطبوعة تجارية الأهداف, مثلا. ولكنني لا أعتبر مثل هذا الأمر تنازلا شعريا (ما دمت أقدم نصي بحرية وبلا تدخلات وهو ما يحدث دائما) وإنما هو تنازل وجودي لا مفر منه ما دمت أسعى لوصول قصيدتي إلى القارئ. @ العالم رديء ولكن هل يعني أننا لا يجب أن نعيش فيه؟؟ على العكس يجب أن نكون حاضرين في قلبه وليس على هامشه وأن نفرض الصدق لنفضح الزيف. حين يكتب الشاعر للناس.. للإنسان في كل واحد منهم ليس هنالك تنازل أينما نشر. فقط حين يكتب الشاعر لإرضاء الناس عن وعي ومن أجل الشهرة والمال يكون هنالك تنازل وسقوط للروح. ما دام الشاعر يرى قارئه وجها في مرآته ما دام القارئ شبيهه لا خوف عليه الخطر يبدأ حين ينظر الشاعر إلى القارئ على أنه شبح إنسان يجلس على مقعد في أمسية مزدحمة وملامحه غير واضحة لكثرة الأضواء! سقطة كبيرة للشاعر أن يعتقد أنه شاعر مشهور. وثروة الشاعر الحقيقية في أن يكون مقروءا ومحبوبا وقادرا على الوصول إلى الناس لأنه يكتبهم في قصيدته. هذا هو المجد الشعري أن يقول لك إنسان (إنسان واحد): وجدت نفسي في قصيدتك. @ التحديث الفني عموما يعاني اغترابا حادا كقصيدة النثر مثلا. ترى ما السبب؟ وكيف يمكن تغيير حساسيات الاستقبال لدى المتلقي الذي ارتهن لذائقة مسكونة بالإيقاع والتقفية؟ مأزقنا مع الحداثة هو أنها ليست من صنعنا. لم نشارك في السعي إليها وفي بلوغها استوردناها جاهزة من الغرب, وبالتالي من الطبيعي أن نتعامل معها على أنها سلعة غريبة عن أرواحنا. في الماضي, في زمن الأندلس تحديدا كانت الحداثة في العالم حداثة إسلامية (حداثة عربية أثراها التفاعل مع الحضارات الأخرى) والذي استوردها وانتفع منها كان الغرب. لذا لا أعتقد أن المسلمين والعرب الذين كانوا في الماضي محدثين في كثير من المجالات ضد الحداثة لكننا بحاجة إلى حداثة تخرج من دمنا ولحمنا, إلى حداثة تشبهنا ونلبسها جلدا لنا. وهذا يحتاج إلى صحوة حقيقية وإلى مراجعة صادقة وحازمة لهويتنا وإلى جهد كبير يليق بالحلم. بالنسبة لقصيدة النثر أعتقد أن أكثر من ظلمها هم شعراء قصيدة النثر العرب. فالأمثلة التي يطلع عليها القارئ رديئة في معظمها. نسخ ساذج ومتخبط لقصيدة الأخر قصيدة الغرب. غموض مفتعل وصور مشوشة وغياب شبه تام للشعر. الاغتراب الحاد سببه الشعراء والشاعرات.. وقصيدة النثر بريئة من كل الجرائم التي ترتكب باسمها. الذائقة المسكونة بالإيقاع والتقفية ليست خاطئة فالشعر هو الموسيقى على هيئة نص سواء كانت قصيدة عامودية أو قصيدة تفعيلة أو قصيدة نثر. ولقصيدة النثر موسيقاها أيضا, والتي سيعتادها القارئ ويجبها إذا قرأ قصيدة النثر الحقيقية شبه الغائبة عن مشهدنا الشعري للأسف. @ رغم تحقيق قصيدة النثر نجاحات هامة وعلى أكثر من مستوى إلا أننا لا نراها تعد بتغيير خارطة الحساسية الشعرية . ترى ما السبب في رأيك؟ لقصيدة النثر إمكانيات هائلة ومرعبة, لكنها تحتاج لمن يكتبها كتابة حقيقية . مأزق قصيدة النثر العربية في شاعرها وليس في قارئها. حين تكتب قصيدة النثر عندنا كما يليق برائعة مثلها أن تكتب نستطيع أن نتحدث عن مكانها على خارطة الشعر العربي. وأقصد بمكانها على الخارطة, المكان المجاور لكل الأشكال التي سبقتها من الشعر الجاهلي... إليها مرورا بكل المراحل. لا ينبغي أن نحلم بقصيدة تأتي وتحتل الخارطة كلها فهذا تفكير رجعي رغم ادعائه الحداثي! @ قصيدة النثر أفق لغوي متجاوز للاعتيادي من التعبير ونمط إبداعي يحمل التجديد وتحقيق مفاهيم أعمق للزمن والأشياء. لكن الملاحظ أن هناك استسهالا لكتابتها من الكثير الذي يعتقد أنها مجرد فرط للأوزان وإخلال بالإيقاع وتلاعب باللغة أو تحذلق لفظي. ما رأي الشاعرة سوزان في هذه الإشكالية وكيف يمكن تجاوزها؟ صحيح هنالك استسهال يدعو للدهشة والانزعاج وهنالك من يرصون الألفاظ ويتلاعبون بها بشكل ساذج وفج ويوهمون أنفسهم بأنهم يكتبون الشعر بل هؤلاء هم الأغلبية. ولكن هل هذا ينطبق على قصيدة النثر وحدها؟ ألا ينطبق أيضا على العديد من الشعراء الكلاسيكيين وشعراء العامية كذلك.؟ الشعر الجميل قليل دائما في كل الأزمنة وفي كل الأماكن وفي كل أشكال القصيدة. إشكالية (الاستسهال) تتضخم يوما بعد يوم مع تزايد منابر النشر السهل المحفز للاستسهال والمشجع له. الصحف تريد أن تملأ صفحاتها الثقافية يوميا, ودور النشر تريد أن تحصل على ثمن طبع دواوين جديدة (تكلفة الطباعة الحقيقية لديوان أقل من نصف ما يدفعه الشاعر لدار النشر) والمهرجانات الشعرية تعمل على صناعة النجوم. والآن المنتديات الشعرية على شبكة الإنترنت تريد عشرات المشاركات في اليوم الواحد بغض النظر عن محتواها لتثبت حيويتها ونجاحها.. أسباب لا تحصى لكل هذه الفوضى. وحده الزمن قادر على تخفيف حدة هذه الإشكالية. فأنا ضد فكرة الرقابة حتى إن كانت لتطهير المشهد من الدخلاء أرفض الرقابة كمبدأ. التاريخ سيطهر شعر هذه الحقبة من المدعين كما فعل في عصور سابقة. أية قصيدة من الممكن أن تنشر في زمن ما.. ولكن وحدها القصيدة الحقيقية هي التي تتجاوز مفهوم الزمن ببهائها. غلاف ديوان (كائن اسمه الحب) أبيات شعرية من غلاف ديوان (مصباح كفيف)