حرّك سماح السلطات الجزائرية رسمياً بعودة وفود فرنسية ممن يلقّبون ب «الأقدام السوداء»، إلى وطن أجدادهم من المعمّرين الفرنسيين، نوازع الخوف وسط الرأي العام من خطوات تمهيدية تصب في مصلحتهم لاسترجاع «الإرث المسموم». وفي أحد الشوارع الرئيسة وسط مدينة وهران الواقعة غرب الجزائر العاصمة، يرزح أهالٍ يقطنون عمارات تعود إلى الحقبة الاستعمارية الفرنسية تحت مقصلة القضاء مع «الأقدام السوداء»، منذ مطلع تسعينات القرن الماضي بسبب نزاع قانوني على إرث العمارة، أي أن الطرد منها يتهددهم في أي لحظة. ويكشف رئيس جمعية سكان «عمارة 11» في نهج الصومام بوهران مراد غزالي ل «الحياة» عبر وثائق عدة، مسار الصراع المرير بين العائلات وشركة فرنسية تدّعي أحقيتها بالملكية العقارية على رغم أنها تقطنها منذ ما قبل استقلال الجزائر أي قبل عام 1962، مذكّراً بتأميم المباني التي ورثت عن حقبة الغزو الفرنسي بصفة آلية، عقب تحقيق ثورة التحرير. ثغرات قانونية غير أن غزالي الذي تبنّى قضية عشرات العائلات في المبنى، أوضح أن ثغرات قانونية أطالت عمر النزاع القضائي ولم ينهها صدور القانون 042 في عام 2010 القاضي بملكية الدولة للمبنى، مظهراً الوثائق والمراسلات. بيد أن القضية عرفت تقلّبات عدة، بعد تراجع المديرية العامة لأملاك الدولة في وزارة المالية عام 2014 عن مواقفها ومقرراتها السابقة. ولم تكن قضية ما يُعرف ب «عمارات حي الصومام» الوحيدة المثيرة للجدل، بل قضايا تخص عقارات ومباني أخرى في مدينة وهران أيضاً التي «استحوذ» عليها جزائريون بعقود «مشبوهة»، بعد قضية العائلتين اللتين طردهما مواطن جزائري في حي «سان بيار» خلال عام 2014، مستخدماً توكيلاً لجمعية مسيحية فرنسية غادرت الجزائر بعد الاستقلال. ويحصي قانونيون رفع «الأقدام السوداء» أمام القضاء الجزائري نحو 125 قضية لاسترجاع أملاكهم العقارية، إذ تقدر المديرية العامة لأملاك الدولة عدد العقارات المسجلة باسم الأجانب في البلاد بنحو 30 ألف عقار، 55 في المئة منها مسجلة بأسماء المعمرين السابقين وعقودهم. والمقصود بالمعمرين السابقين، الفرنسيون الذين سكنوا الجزائر أو ولدوا فيها خلال فترة احتلالها من قبل فرنسا (1830 – 1962). ووقعت الجزائر عقب الاستقلال في خلل قانوني يسمح باسترجاع هذه العقارات لأنها بقيت مسجلة بأسماء ملاك أجانب. لكن محاولة السلطات الجزائرية من جانبها تدارك الخلل باللجوء إلى تحديث عقود الملكية، واجهتها صعوبات أبرزها أن معظم العقود الخاصة بالعقارات تعود إلى ما قبل عام 1900. تحايل بتواطؤ محلي ويبدي متابعون للملف استغرابهم من أساليب تمكن هؤلاء من استرجاع «الإرث المسموم»، ويوضح هواري قدور الأمين العام للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان ل «الحياة» أن القضية «تفجّرت» بعد الزيارة الأولى «السرية» التي قامت بها مجموعة من «الأقدام السوداء» إلى البلاد في عام 2001. ويضيف أن الاستثمارات الزراعية والعقارات باتت موضع استهداف واستنزاف من جانب متحايلين كثر هدفهم الوحيد هو الاستغلال لأغراض شخصية بطرق غير قانونية. فقد استطاع عدد من «الأقدام السوداء» وبعد 54 عاماً، تزوير عقود ملكية شبيهة بتلك الصادرة قبل عهد الاستقلال لموثقين فرنسيين مارسوا مهنتهم قبل عام 1962، وتحصلوا بموجبها على إلغاء عقود استثمار أراض زراعية، مستخدمين مستندات قديمة وأختام استعمارية مزوّرة، وبعد الانتهاء من عملية إعداد هذه العقود تودع لدى المحافظات العقارية بهدف قيدها في سجلات تعود إلى العهد الاستعماري، حتى تكتسب الصدقية القانونية. وتتم هذه العملية بتواطؤ بعض أعوان أملاك الدولة وفق ما أفاد به الحقوقي الجزائري. ويشير الأمين العام للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان إلى «الترسانة الكبيرة» من القوانين التي وضعت منذ عام 1963 ومنها أحكام الأمر الرقم 66 - 102 والمرسوم 63 - 388 اللذين يمثلان نقل الملكية العقارية لمصلحة الدولة، لكن تلك القوانين والأحكام غير مطبّقة ميدانياً. أيضاً، لم تشفع بنود اتفاقية إيفيان التي وقعت بين الجزائروفرنسا عشية استقلال البلاد على إقفال القضية التي نصت بصريح العبارة على أنه يتوجّب على الفرنسيين والأوروبيين عموماً الاختيار في غضون ثلاث سنوات بين نيل الجنسية الجزائرية أو الاحتفاظ بجنسيتهم واعتبارهم أجانب. وأممت الحكومة بناء على قرار صدر في 21 أيار (مايو) 1968 ممتلكات «الأقدام السوداء» الذين غادروا الجزائر واعتبرتها ملكاً عاماً. لكن التحولات الأخيرة في علاقات الود بين البلدين، قد تمهّد مجدداً لإعادة النظر كذلك في طلب «الأقدام السوداء» بالحصول على الجنسية الجزائرية وفق ما كشف المحامي الفرنسي جاك كافانا، وهو من مواليد عام 1945 بالأبيار في الجزائر العاصمة. أما في فرنسا، فتشير السلطات كما ورد في الجريدة الرسمية إلى أن «الأقدام السوداء» استفادوا من مزايا مالية تجلّت باستقبالهم في فرنسا وتسديد ديونهم وحصولهم على تعويضات عن الممتلكات التي تركوها وراءهم، فضلاً عن مساعدات وتسهيلات مالية تناهز ال40 بليون يورو. تفرقة ضرورية ولا يرى قانونيون بداً من واجب التدقيق في ملفات الوافدين إلى البلاد من المعمّرين السابقين. فقد دعا المحامي الجزائري مقران أيت العربي إلى ضرورة التفريق بين حالات الأشخاص الفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر ورحلوا ولم يعتدوا على المدنيين، فهم مرحّب بهم متى أتوا لزيارة مدافن ذويهم أو للسياحة. لكن الأمر المرفوض هو توافد أشخاص معروفين بمواقفهم العدائية أمثال المغني الفرانكوجزائري ذي الأصول اليهودية أنريكو ماسيايس. وطالب الحكومة الجزائرية بموقف صارم منهم وألا تمنحهم تأشيرات دخول. وفي هذا الصدد، يطرح مقران أيت العربي في تصريح إلى «الحياة» إشكالية عودة المعمّرين أو أبنائهم ممن اكتسبوا أراضي جزائريين وعقاراتهم بطرق عدوانية ومحاولة استرجاع ما يعتبرونه حقاً لهم، متسائلاً كيف يحكم لمصلحة بعضهم في الجزائر، في حين أن محكمة حقوق الإنسان الأوروبية رفضت شكوى مقدّمة من هؤلاء في عام 2006 تطالب باستعادة إرثهم العقاري، موضحاً أن الأمر يتعلّق باستثناءات في القضاء قد تخضع للطعن مجدداً. وأكد أن أراضي المعمرين تعود إلى الدولة الجزائرية قانوناً، لأن هذه الممتلكات كانت ملكاً لها قبل الاستعمار، ولا يخضع المعمّرون الآن إلى القواعد العامة للملكية في البلاد.