حين انسحبت فرنسا من الجزائر بعد أكثر من قرن من الاحتلال لم تخرج خالية الوفاض. فقد حمل الجنود الفرنسيون معهم قطعا فنية وكتبا وخرائط تاريخية وهو تراث وطني ما زال موجودا في المكاتب الفرنسية حتى اليوم وتقول الجزائر إن على القوة الاستعمارية السابقة إعادته. وتحيي فرنساوالجزائر هذا الأسبوع الذكرى الخمسين لإعلان الاستقلال في الخامس من يوليو تموز عام 1962 والذي أنهى الاحتلال الفرنسي. وسيركز كل جانب على المشكلات التي ما زالت عالقة بينهما. فالجزائر تريد من فرنسا الاعتذار عن الرق الاستعماري وقتل مئات الآلاف ممن ناضلوا من أجل الاستقلال طوال عشرات السنين. في حين تواجه فرنسا جالية كبيرة من أصحاب الأصول الجزائرية تجد صعوبة في الاندماج مع المجتمع الفرنسي. وفي ظل هذه المشكلات فإن الأرشيف الوطني المفقود ليس قضية خطيرة ترتهن العلاقات الفرنسية الجزائرية لكن هذا الخلاف يظهر الشعور العميق سواء بالحزن أو اعتماد كل منهما على الآخر حتى بعد نصف قرن من استقلال الجزائر عن فرنسا. وقال عبد المجيد شيخي المدير العام للأرشيف الوطني الجزائري إن نظراءه في فرنسا عرضوا حلا وسطا وهو السماح للجزائر بالحصول على نسخ من الأشياء المتنازع عليها في حالة تخليها عن المطالب باسترجاعها لكنه رفض. وقال في مقابلة بالجزائر "لن نتخلى عن حقنا. لن نتخلى عن ممتلكاتنا... ببساطة لأن هذا شئ ملكنا. ما هو ملكي فهو ملكي. لن أتنازل عن تراثنا الوطني." لكن فرنسا تنظر للمسألة من زاوية مختلفة. وقال ايرفيه لوموان مدير الأرشيف الوطني الفرنسي إنه تم التوصل الى اتفاق عام 1966 لإعادة الأرشيف التاريخي للجزائر خاصة الوثائق التي تعود للعهد العثماني ووثائق فنية من عام 1830 إلى عام 1962 لكن الجزائر عادت وطالبت بالمزيد بعد هذا الاتفاق. ولهذا الخلاف تداعيات عملية بالنسبة للجزائر لأن بعض الوثائق الموجودة في المؤسسات الفرنسية تحتوي على بيانات فنية وخرائط لشبكات الصرف تحت الأرض وأنابيب الغاز وخطوط الكهرباء. وفي صيف عام 2009 عثر علماء الآثار على اطلال كنيسة قديمة تحت ساحة الشهداء وهي ساحة مزدحمة في الجزائر العاصمة لا تبعد كثيرا عن منطقة القصبة التاريخية. وكان من بين فريق علماء الآثار الذي ينقب في الموقع عدد من الباحثين من فرنسا. وعندما سئل رئيس بعثة الاستكشاف الجزائري عن سبب وجودهم أجاب "الخرائط معهم." وقال إن من المعتاد أن تسمح فرنسا بالاطلاع على الخرائط بشرط مشاركة علماء فرنسيين في المشروع. وواجه مهندسون يمدون أول نظام لمترو الأنفاق في العاصمة والذي انتهى العمل به في وقت سابق من العام الجاري مشكلات مماثلة فيما يتعلق بنقص البيانات في الأماكن التي يحفرون بها. ويقول شيخي إن فرنسا ما زال لديها نحو 50 ألف مخطوطة تم خطها على أرض الجزائر وكذلك أعداد كبيرة من القطع التاريخية. وأكثر القطع التي يتطلع المؤرخون الجزائريون للحصول عليها هي ما يعود منها إلى ما قبل الاحتلال الفرنسي عام 1830 . إذ تمتلك فرنسا مكتبة الأمير عبد القادر العالم الإسلامي الذي قاد تمردا على الاحتلال الفرنسي خلال العقدين اللذين أعقبا الاحتلال الفرنسي. وقام الجنرال توماس روبير بيجو الذي أرسلته باريس لإخماد التمرد باعتقال الأمير ونفيه ومصادرة المكتبة. وتحوي المؤسسات الفرنسية مئات الأبحاث العلمية التي تعود إلى فترة ما قبل الاحتلال الفرنسي عندما كانت الجزائر مركزا للعلم الذي اجتذب الدارسين من أوروبا ومنهم ليوناردو فيبوناتشي عالم الرياضيات الإيطالي. ومن القطع التاريخية الجزائرية الأخرى مدفع من البرونز في ميناء بريست الفرنسي والذي يعرفه الجزائريون باسم بابا مرزوق. وصنع المدفع خصيصا لحكام الجزائر لحماية ساحل البلاد المطل على البحر المتوسط من هجمات قوات أوروبية تحاول القضاء على القراصنة الذين كانوا يتخذون من الجزائر ملاذا آمنا. كما استخدم في القرن السابع عشر لإعدام قنصلين فرنسيين أثارا حنق الحكام المحليين وهو ما اعطى المدفع اسمه الفرنسي (القنصل). وعندما غزا الفرنسيون الجزائر اعتبروا المدفع من مغانم الحرب. وشنت جماعات المجتمع المدني حملة كبيرة لاستعادته. ويشعر مؤرخو الجزائر بأن شحن مثل تلك القطع إلى فرنسا كان جزءا من حملة شنها الحكام المستعمرون لمحو آثار الحضارة التي كانت موجودة قبل وصولهم. ويقولون إن الهدف من ذلك كان القضاء على فكرة الدولة الجزائرية. وقال شيخي إن نقل هذه القطع التاريخية خارج الجزائر بدأ في مستهل الاحتلال الفرنسي واستمر حتى الأسابيع الاخيرة التي سبقت الاستقلال عندما نقلت ملفات إلى فرنسا بحجة نقلها على ميكروفيلم. وأضاف "لم يريدوا ترك أي رمز للدولة.. والأرشيف رمز للدولة." وعلى الرغم من النزاعات فإن العاملين في الأرشيف الوطني لكل من الجزائروفرنسا بينهم علاقات عمل جيدة. ووقع الجانبان اتفاقا للتعاون عام 2009 وسمح كل منهما للآخر بدراسة بعض الوثائق بل ونسخها في بعض الأحيان. وقال لوموان مدير الارشيف الوطني الفرنسي "يفتح هذا الاتفاق... لبلدينا صفحة من التاريخ نأمل أن تكون مثمرة بأكبر قدر ممكن." لكن المشكلات تكمن في مستويات أعلى. إذ عندما كان المفاوضون يتفقون على بنود استقلال الجزائر في منتجع افيان الفرنسي قبل 50 عاما لم يضموا في المعاهدة أي بند عن الأرشيف أو القطع التاريخية. ومنذ التوصل إلى اتفاق عام 1966 الذي تحدث عنه لوموان أصبح هناك مأزق سياسي. وتقول فرنسا إنه بما أن مسؤولين فرنسيين أخذوا الأرشيف والقطع التاريخية عندما كانت الجزائر جزءا من فرنسا فإنها ملكها الآن. وقال لوموان "هذا الأرشيف الذي يمثل 15 في المئة فقط من الأرشيف العام الذي كان موجودا في الجزائر عام 1962 مصدره موظفون حكوميون ورجال شرطة وجيش... ويعتبر بموجب القانون الفرنسي أرشيف سيادي لا يمكن نقله... لكن هذا لا يستثنيه من إتاحته لاحتياجات البحث والمعرفة." وترد الجزائر على ذلك بأنه لم يطلب أي احد رأيهم عما إذا كانوا يوافقون على ان تحكمهم فرنسا أم لا. وهم يقولون إنه بأي حال فإنه إذا كان أصل أي قطعة تاريخية هو الأرض الجزائرية فإنها من ممتلكات الجزائر. وأثناء تناول الغداء في مقصف العاملين بأرشيف الجزائر تحدث شيخي عن كيفية سجن الفرنسيين له هو ووالده لمساعدتهما الانتفاضة في حرب الاستقلال. وفي وقت لاحق انضم شيخي لإدارة ما بعد الاستقلال وجند جزائريين متعلمين للعمل كمدرسين لأنه عندما انسحبت القوات الفرنسية كذلك فعل المدرسون الفرنسيون. لكن الزمن ساعد على مداواة هذه الجراح. ويأمل شيخي أن يحدث الأمر ذاته بالنسبة للنزاع القائم على الأرشيف الوطني الجزائري. وقال "الأمور تتطور. لابد أن نسمح للزمن بان يقوم بدوره... هناك جيل جديد من المؤرخين الذين ينظرون للأمر بطريقة أقل عاطفية من جانبنا أيضا. بدأنا ننظر للتاريخ من زاوية مختلفة."