فتح عثمان باب منزله في عمارة عتيقة في حي المدنية بأعالي العاصمة الجزائرية، بعد أن سمع طرقاً متواصلاً عليه، ليجد أمامه مجموعة من السياح تبدو عليهم ملامح أوروبية، ولتخاطبه سيدة في عقدها السادس: «هل تسمح لي بأن ألقي نظرة على المنزل الذي ولدت وقضيت فيه طفولتي»، ويتكرر الحادث نفسه في كثير من الشقق العتيقة في العاصمة الجزائرية هذه الأيام حيث تزور وفود من «الأقدام السود» الجزائر. إلى زمن غير بعيد ظل ملف «الأقدام السود»، وهو ما يُطلق على آلاف من الفرنسيين الذين ولدوا وتربوا في الجزائر في فترة الاستعمار، قبل أن يرحلوا مع رحيل الجيش الفرنسي، ظل من «التابويات» إلى جانب ملف «الحركى» وهم جزائريون تعاونوا مع الاحتلال»، من أبرز الملفات الحاضرة في شكل مستمر ومتصاعد في العلاقات الجزائرية الفرنسية، وأكثر الأوراق السياسية التي توظفها فرنسا خلال استحقاقات سياسية أو صدامات إعلامية مع الجزائر، وذلك بمجرد رفع الجزائر مطالب ترتبط باعتراف باريس بجرائم الاستعمار والاعتراف بها. لكن التطورات المتلاحقة في مسار العلاقات بين الجزائر وباريس خففت في شكل كبير من وطأة هذه الممنوعات، ما سمح لعدد من أبناء «الأقدام السود» بزيارة مناطقهم وعائلاتهم في الجزائر. وفي عام 1982، شهدت الجزائر أول زيارة رسمية لعدد منهم بعد ثلاث سنوات من تولي الرئيس السابق، الشاذلي بن جديد الحكم، وعلى رغم المقاومة السياسية المحدودة وغير المعلنة، بسبب طبيعة ظروف تلك المرحلة، التي أبدتها بعض الأطراف في السلطة وفي حزب جبهة التحرير الوطني ومنظمة المجاهدين، إلا أن هذه الزيارات إلى الجزائر تكررت في شكل متزايد، وتحولت من مجرد زيارة استثنائية لها دواعيها السياسية أو الإنسانية إلى رحلات سياحية منظمة. ومع نهاية مرحلة الاحتكاك السياسي وسقوط الكثير من المحرمات التي كانت تتحكم في سير العلاقات الجزائرية الفرنسية، تحولت عودة هؤلاء إلى الجزائر وزيارة مقابرهم وكذلك البيوت والشقق التي ولدوا وترعرعوا فيها، إلى محاولات قضائية لاسترداد عقارات «أخذت بالقوة»، وسجلت مئات الدعاوى القضائية لدى الأممالمتحدة وحتى أمام القضاء الجزائري لاستعادة ملكية عقارات وممتلكات يزعمون أنها لهم في الجزائر. وتتنوع زيارات «الأقدام السود» بين وفود سياحية، وأخرى رسمية ضمن الوفود المرافقة عادة لأي مسؤول فرنسي يحل بالجزائر، وحتى في زيارات الرؤساء الذين تعاقبوا على الإليزيه في باريس. وعادة ما تشهد المنطقة الغربية للجزائر أكثر عدد من الزيارات، لأسباب تاريخية تتصل بانتشار أكبر المساحات الزراعية التي كان يملكها مستعمرون، حيث تنتشر زراعة العنب والكروم والزيتون. شهدت مدينة تلمسان (700 كلم غرب العاصمة) قبل أسابيع، زيارة لوفد من «الأقدام»، ضم تسعة أعضاء معظمهم من جمعية «أصدقاء لاموري سيار»، وهو الاسم الكولونيالي لمدينة أولاد ميمون (30 كلم شرق تلمسان)، حيث زار الوفد مباني ومزارع في مناطق عين تموشنت وأولاد ميمون، وتلمسان وتم التقاط صور لتلك الأمكنة التي ولد فيها بعضهم. ولا ترى السلطات الجزائرية في الملف ما يقلق كثيراً بحجة أن الملف طوي مع اتفاقات إيفيان التي رسمت استقلال الجزائر قبل استفتاء 1962، ثم رفض هيئة الأممالمتحدة لدعاوى المستعمرين السابقين باسترداد ملكياتهم، وتخوض السلطات الجزائرية وعدد من العائلات والمؤسسات «معارك» قضائية، حول عدد من المباني والعقارات والأملاك التي ما زال شاغلوها سابقاً يعتقدون أنها ملكهم. وسجلت ولايات جزائرية في الأيام القليلة الماضية، تدفق عدد من «الأقدام»، ضمن قوافل اعتادت زيارة البلاد في مواسم محددة، لكن الملف يحمل شقاً قانونياً يحتمل الكثير من الإجراءات المعقدة قضائياً. وتحصي السلطات الجزائرية، مئات من الدعاوى أمام القضاء الجزائري، تطاول عقارات لمواطنين، ومقرات تشغلها مؤسسات حكومية (مثل مبنى القوات الجوية الجزائرية) وحتى مقرات تشغلها أحزاب سياسية (التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية) كما أنها تدقق في هويات بعض الجزائريين الذين يسعون لدى «الأقدام السود» الذين كانوا يملكون عقارات في الجزائر خلال فترة الاستعمار لاستصدار وكالات باسمهم لاسترجاعها مقابل تقاضي عمولات ومبالغ مالية، وبالفعل تمكن عدد من «الأقدام السود» عبر وسطائهم الجزائريين، من رفع دعاوى قضائية لدى المحاكم الجزائرية واسترجاع عدد من العقارات والممتلكات. ولاحظ متخصصون في القضاء أن أطرافاً، تقوم باستصدار وكالات من «الأقدام السود» والمستعمرين السابقين، أو شراء عقاراتهم السابقة في الجزائر وفق العقود القديمة بثمن زهيد، قبل أن يقوموا برفع دعاوى قضائية لاسترجاع هذه العقارات وإثبات ملكيتها لمصلحتهم أو لمصلحة موكليهم الفرنسيين والاعتماد على نفوذهم في السلطة للاستيلاء على هذه العقارات. وأثار هذا الأمر غضب المنظمة الوطنية للمجاهدين، وقال السعيد عبادو، الأمين العام للمنظمة ل «الحياة» أن هذا الأمر «يثير سخطنا... ونتابعه جدياً»، وعن الرقم الصحيح لعدد القضايا المرفوعة ضد الجزائر، يقول عبادو أن هناك 600 دعوى بحسب المعلومات التي بلغت المنظمة. ويقول الأمين العام لمنظمة المجاهدين، إن القضايا رفعت أمام الأممالمتحدة، لكن المنظمة الأممية رفضت هذه الدعاوى على أساس أنهم كانوا مستعمرين، وقال مستغرباً: «بدل أن تعوض فرنسا على احتلال الأرض، تشير هذه الدعاوى الى انها صاحبة الأرض، وهذا أمر غير مقبول تماماً»، وتشرح بعض التفاصيل التي تضمنتها مفاوضات الحكومة الموقتة الجزائرية والحكومة الفرنسية قبل استقلال الجزائر بأشهر، ثم دونت في اتفاقات إيفيان، أن الفرنسيين القاطنين بالجزائر حينها وضعوا بين خيارين إما الجنسية الجزائرية وإما الفرنسية، فإذا اختاروا الجزائرية يعاملون كجزائريين، أما إذا اختاروا الجنسية الفرنسية فيعاملون كأجانب، وقد ظهر بعد الاستقلال إجراء معقول حدد أجلاً بالنسبة للأملاك هذه، أي أن «الفرنسي الذي بقي في ملكيته فهي له، وكان ذلك تنازلاً كبيراً من الجزائر، أما من هرب فقد أعلنت أملاكه أملاكاً للدولة»، وللأسف يقول عبادو إن هناك «جزائريين دخلوا في التواطؤ مع بعض المستعمرين السابقين بالبقاء في بعض الأملاك من دون التصريح أن المستعمر الفرنسي غادرها منذ مدة، وسجلنا ملفات كهذه نتصدى لها حالياً». ويرتكز «الأقدام السود» في دعاويهم لاسترجاع أملاكهم، على زعمهم خرق الجزائر أحكام العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه الجزائر بتاريخ 16 أيار (مايو) 1989 والمتضمن الحفاظ على أملاك الأجانب في حالات الحرب والنزاعات. ويكشف بيان أصدرته وزارة العدل قبل أسابيع، وهو منشور على موقعها على الأنترنت، أن الهيئات التي تنشط من أجل الدفاع عن مصالح «الأقدام السود» قدمت أكثر من 600 ملف ورفعت دعاوى أمام اللجنة الأممية لحقوق الإنسان، بهدف إرغام الجزائر على إرجاع أملاكهم أو دفع تعويضات عن ممتلكاتهم المتروكة بعد إعلان الاستقلال. وتؤكد الوزارة أنها تلقت القرار النهائي الذي أصدرته لجنة حقوق الإنسان المنبثقة من المندوبية السامية لحقوق الإنسان لدى هيئة الأممالمتحدة، القاضي بعدم قبول شكاوى رفعها عدد من «الأقدام السود». وهو القرار الذي وصفته الوزارة ب «الحاسم ويشكل سابقة سوف تطبق على كل الحالات المماثلة بوصفه اجتهاداً قضائياً جديداً صادراً عن الهيئة الأممية». وذكر بيان الوزارة، في هذا السياق، أنه من بين هذه القضايا المعنية بقرار الهيئة الأممية، القضية التي رفعها الفرنسي أرمون أنتون، الممثل بالمحامي الفرنسي آلان غاراي ضد الجزائر أمام لجنة حقوق الإنسان الأممية في تشرين الأول (أكتوبر) 2004 للمطالبة باسترجاع أملاكه العقارية في الجزائر. وأوضحت وزارة العدل أن جذور هذه القضية تعود إلى عام 1962 إذ أن المدعو أرمون أنتون، وهو من مواليد وهران، غادر الجزائر بتاريخ 14 تموز (يوليو) 1962 غداة الاستقلال، تاركا وراءه ممتلكاته المتمثلة بعقارات ومنقولات، قبل أن يطالب خلال السنوات الأخيرة السلطات الفرنسية بالتدخل لدى السلطات الجزائرية لاسترجاع أملاكه. وردت وزارة العدل، عبر مذكرة أرسلتها إلى اللجنة الأممية، على ادعاءات «الأقدام السود»، وأقرت اللجنة الأممية عدم قبول الشكوى المقدمة ضد الجزائر مبررة ذلك أن تأميم أملاكه من جانب الحكومة الجزائرية تم قبل انضمام الجزائر للاتفاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية. ويكن غالبية الجزائريين مشاعر ضد «الأقدام السوداء»، وزاد هذا الشعور مع المطالبة بالتعويض عن ملكيات يقول الجزائريون أنها أخذت بالقوة، وكلفت لاستردادها حياة مليون ونصف مليون من الشهداء، لذلك لا يفضل المستعمرون السابقون زيارة الجزائر بهويات معروفة، بل يختزلون الزيارات في مجموعات سياحية عادية كأنها لم تزر الجزائر في مرات سابقة، وقلة فقط منهم تمتلك الشجاعة لطلب زيارة منزلها القديم في حي عتيق بالقصبة بالعاصمة أو المدينة أو في ولايات البليدة (50 كلم جنوب العاصمة) أو تلمسان وبرج منايل في بومرداس (50 كلم شرق العاصمة).