السلم والحرب، الحداثة وما بعدها، الإبتكار والتألق، الموضة والثقافة، السلاح والكتاب، تناقضات بيروت ومزاياها اجتمعت في دبي. المدينة المجنونة التي تغرق حالياً بالنفايات، ولا تفارقها الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كانت نجمة سلسلة المعارض السنوية الجديدة تحت عنوان «المدينة الأيقونية»، بنسختها الأولى ضمن «أسبوع دبي للتصميم». يأخذنا معرض «بيروت المتألقة» الذي تشرف عليه القيّمة اللبنانية رنا سلام، في رحلة منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا. هو احتفاء بسبعة عقود من التصميم اللبناني تستعرض تناقضات المدينة وجنونها. قبل الحرب الأهلية (1975 - 1990) وخلالها وما بعدها، ترصد سلام أبرز اللحظات التصميمية من عمر المدينة المتألقة، مظهرة الوجه الآخر للمدينة. وجه لا يعرفه كثيرون، أو لا يريدون الإعتراف به بأن هذه المدينة كانت سبّاقة بين المدن العربية بما فيها من انفتاح ومواكبة لثورة التصميم في العالم. اللافت في المعرض، أن سلام تظهر أهمية التصاميم الفنية المنفذة خلال الحرب الأهلية من قبل مقاتلين غير ضليعين بفنون التصميم، إنما بالسلاح والقتل، وذبح على الهوية. هؤلاء المقاتلون تركوا أثراً واضحاً في تصاميمهم ساهم في نشر أفكارهم ومعتقداتهم لسبب بسيط وهادف: الحرب تُورّط من يدخلها، فيعمل بجهد لإثبات نفسه وقوته، وتشريد أعدائه. يستكشف معرض «بيروت المتألقة» تأثير الديناميات الحضرية المحلية في مجالات التصميم والإنتاج والثقافة الإبداعية - متتبّعةً مراحل تطور مشهد التصميم في لبنان من الخمسينات وحتى يومنا هذا في مختلف المجالات: الهندسة المعمارية، والتعليم، وتصميم الغرافيك، والأزياء والأثاث والإتجاهات الثقافية. وبالتوازي مع وفي الوقت نفسه التميّز عن حركات التصميم الغربية، يعالج المعرض بعيد المدى، التحولات في فكر التصميم التي نتجت عن الحرب الأهلية، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة الاستقرار. كما يتفحص كيف ساعدت تركيبة بيروت الاجتماعية المعقّدة في رعاية الإبداع، في حين ساهمت التقاليد الحرفية المترسخة في تاريخ البلد منذ فترة طويلة وموارد الإنتاج الوفيرة في بروز هذا البلد في مشهد التصميم العالمي. وتوضح سلام أن المعرض يساعد على «اطلاع الناس على تاريخ تطوّر التصميم اللبناني، وما نقوم به اليوم لأن ذلك لم يوثّق يوماً في كتاب. أردت هذا المعرض أن يكون كتاباً بصرياً وكبسولة للمصممين تحت سقف واحد». ويستقبل زائر المعرض برج فندق الكارلتون الذي صممه المهندس البولندي نيكول شاير في العام 1957، والى جانبه صور فندق بان أميركان وسينما الحمراء. تعكس تصاميم الخمسينات في بيروت، صعود المدينة صوب مواكبة الطفرة التصميمية في العالم، وهنا تبرز تصاميم شركة غندور التي تأسست عام 1940 وكانت سبّاقة في لبنان، في تقديم العلامات التجارية وتغيير التصاميم. ولعبت الشركة دوراً بارزاً في الحركة التصميمية من خلال أغلفة منتجاتها أو العمل على تطوير لوغو الشركة. ومع بداية الستينات ومنتصف السبعينات، باتت بيروت «ملعباً» مهماً للتصميمات الحديثة، مع الطفرة العمرانية التي شهدتها المدينة، ومنها تصميم مبنى «البيضة» في وسط بيروت الذي صممه المهندس اللبناني جوزف فيليب كرم، واحترق خلال الحرب، ولا يزال حتى اليوم بلا ترميم. كما برزت في تلك الحقبة التصاميم الملونة لشركات حققت أرباحاً ملحوظة كشركات «بون جوس» للعصائر و«كورتينا» للمثلجات، و«طيران الشرق الأوسط»، وكان واضحاً في تلك الفترة التصميمية التأثر بالثقافة الدعائية الأوروبية. مع انتهاء الحرب الأهلية، حاول بعض المهندسين المعماريين، استخلاص درس من الحرب، وما آلت اليه الأمور بعد ذلك، في محاولة لنشر ثقافة السلام. ومن أبرز التصاميم التي قدّمت في تسعينات القرن العشرين، ما ابتكره المهندس المعماري برنارد خوري في الملهى الليلي «BO18» مع سقف يفتح تلقائياً مع بزوغ الفجر. اللافت في التصميم أن خوري أراد دفن الحرب الأهلية وصراع الطوائف المتناحرة ، فبناه تحت الأرض على شكل قبر، وكأن السقف الذي يفتح مع طلوع الفجر، هو الأمل والسلام والازدهار، وربما التعلم من الأخطاء الماضية. يتعدى المبنى الذي يعد من أهم النوادي الليلية في العالم، كونه مكاناً للسهر والرقص وسماع الموسيقى، الى فصل من تاريخ الحرب الأهلية، وعلاج للتداوي منها بالاحتفال. تتوالى التصاميم الهندسية في المعرض، لكنها تنحو مع الألفية الثالثة، صوب التجارة أكثر من الابتكار، على عكس حقبة الخمسينات. كما أشارت سلام الى مشروع «سوليدير» الذي أثار العديد من المشكلات في البلد، وكيف أن هذه الرقعة الجغرافية باتت تخص الطبقة الميسورة.