رماه القدر في مدينة معروضة للبيع في مزاد علني دائم، وبين مواطنين يعانون ضعف الذاكرة. هو ليس مجرد عقار. إنه «التياترو الكبير» الذي بني عام 1929 بمبادرة فردية من جاك ثابت، ملّ انتظار مسح الغبار عنه واشتاق إلى أصوات الممثلين والمغنين وأنغام الموسيقى وخطى الرواد ورهبة الأضواء. هذا الصرح الذي صمّمه وزير الأشغال في عصر الانتداب الفرنسي المهندس يوسف بك أفتيموس، سيصبح بعد ثلاث سنوات سلعة تؤجر في اليوم، بأسعار باهظة، لرجال أعمال أتعبتهم صفقات تجارية، أو لسياح مترفين أو «رومانسيين» عابرين... هو الصرح الذي شهد صَولات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ويوسف بك وهبي، والكوميديا الفرنسية وأمسيات شعرية صاخبة للأخطل الصغير. واليوم هو عرضة لوظيفة جديدة، بعيدة كل البعد عن تاريخه والهدف من وجوده... لمصلحة الربح المحض. لو كان لل «تياترو الكبير» صوت لرندح على وقع الجرافات العاملة على تحويله الآن إلى «فندق تراثي» (بوتيك أوتيل) بأغنية «يا غائباً عن عيوني وحاضراً في خيالي، تعال هدئ شجوني طالت عليّ الليالي...»، التي أطربت بها أم كلثوم جمهور «التياترو» ذات ليلة من العام 1931، لكن لا حياة لمن تنادي... فاللبنانيون غارقون في تحصيل لقمة العيش واللهاث خلف الزعماء. والدولة تبحث عن نفسها منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990). أما التوثيق لصرح غيّر معالم المدينة في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، ففيه تكمن النكتة السمجة، إذ لا وثائق رسمية تؤرخ لبناء «التياترو» وعمله والفنانين الذين مروا عليه. لا شيء سوى شهادات شفوية نقلتها رموز ثقافية من تلك المرحلة إلى صحافيين. على مسافة أمتار من مبنى «التياترو الكبير» المسيّج، تجد الشبان المولجين بركن السيارات الوافدة إلى مطاعم وسط بيروت. هم هنا يومياً. تسألهم عن التياترو، فينظر بعضهم إلى بعض: ما هو التياترو؟ مطعم أم مقهى؟ تلجأ إلى سيدة خمسينية علّها تشفي غليلك، فتقول بلهجة استفهامية: «موجود في القاهرة لا؟». في أحد المقاهي، ممثلة وراقصة شابة لم يسطع نجمها بعد، وتبادرك بأنه «موجود في وسط بيروت لكن ربما هُدم أو نقلوه إلى قصر اليونيسكو»! فلا عجب إذاً ألا تفهم عليك العاملة في أحد أهم مراكز التوثيق في البلد عندما تطلب منها وثائق عن «التياترو الكبير». كأنك تكلمها بلغة أهل الكهف. تسأل: «أهو حيّ؟ منطقة؟ مبنى؟ ما هو بالتحديد؟». أما شركة «سوليدير» المالكة والمشغلة لوسط بيروت، والتي قرّرت تحويل «التياترو» إلى «بوتيك أوتيل»، فلم ترضَ إدارتها مقابلتنا، مفضلة الإجابة عن أسئلتنا عبر البريد الالكتروني. ومعلوماتها غير دقيقة أيضاً. ففي حين يورد السينمائي محمد سويد في كتابه «يا فؤادي»، أن «التياترو» بني عام 1927، تفيد «سوليدير» بأنه «بني في 1929 وتوقف العمل فيه كتياترو عام 1940، وتحول صالة سينما حتى عام 1975». هذه كلها تواريخ لا أحد يملك تأكيدها. لكن لماذا انتظرت «سوليدير» التي رفضت التصريح عن الكلفة الإجمالية للمشروع، حتى عام 2011 لتبدأ بترميم «التياترو»، في حين رمّمت كل البنايات من حوله منذ سنوات؟ ويأتي جواب «سوليدير»: «عملت الشركة لوقت طويل على دراسات معمقة تناولت جميع النواحي التاريخية والفنية بهدف الحفاظ على التياترو الكبير التاريخي ولترميمه بأفضل الطرق. كما حرصت، قبل البدء بالترميم، على اختيار الأسلوب الأفضل، إضافة إلى انتقاء وجهة الاستعمال الأنسب التي تحفظ ذاكرة هذا المبنى وتاريخه وتكون منتجة عملياً بحيث توجد فرص عمل مع ضمان استمرارية صيانته والحفاظ عليه». ولماذا اخترتم الفندق تحديداً مشروعاً لتشغيله، بدل أن يعود مسرحاً وطنياً أو داراً للأوبرا أو بيتاً للثقافة والفنون؟ يفيد بريد الشركة بأن «التياترو الكبير كان مسرحاً صغيراً في وسط بيروت، أما الطوابق الأخرى للمبنى فكانت تستخدم إما كفندق صغير أو شقق للايجار. ومع تطور متطلبات المسارح لجهة وضع التجهيزات التقنية المطلوبة لإقامة حفلات مهمة، ونظراً إلى صعوبة تطوير التياترو وفقاً لمعايير تلك الحقبة، تحول التياترو إلى سينما عام 1940. وبناء على الدراسات التي أجرتها، قررت سوليدير إعادته الى ما كان عليه. إن صالة التياترو الكبير (le Grand theatre des Milles et une Nuit) ستبقى من ضمن المشروع الجديد، مع المحافظة على معالمها التاريخية كما كانت عليه وستخصص لاستقبال النشاطات الفنية والثقافية. أما الأجزاء الأخرى من المبنى، إضافة الى الأبنية المجاورة، فستحول إلى فندق مميز». ويؤكد بريد «سوليدير» أن «التياترو لا يصلح تقنياً لأن يتحول إلى دار اوبرا، إذ سيتطلب ذلك معايير حديثة ومتطورة ومساحة أكبر لتأمين عدد كاف من المقاعد وأجهزة حديثة لتوزيع الصوت لا يمكن توافرها في التياترو من دون هدمه وإعادة بنائه، الأمر الذي يهدد بفقدان المبنى طابعه التاريخي. أما بالمحافظة عليه، فيبقى المبنى معلماً تاريخياً وسياحياً يجذب الزوار والسياح. وهنا تجدر الإشارة إلى وجود رؤية لإنشاء مركز للمسارح والحفلات الاستعراضية في وسط بيروت ضمن مشاريع السنوات الخمس المقبلة». رهيف فياض: جريمة ينفي المهندس رهيف فياض كلام «سوليدير» حول صعوبة تحويل التياترو إلى دار أوبرا، ويرفض فكرة تحويله إلى فندق بحجة أنه كان قبل الحرب نزلاً رخيصاً وشققاً مفروشة، كما تفيد «سوليدير». يتساءل: «هل المبنى الذي تشغله بلدية بيروت ملائم لأن يكون ما هو عليه؟». ويجيب: «طبعاً لا، لكنهم تعاملوا معه كمبنى تراثي وبنوا مكاتب ملحقة تتلاءم وعمل البلدية»، لافتاً إلى أن «سوليدير يمكنها تكييف التياترو ليكون من أهم المسارح أو المراكز العالمية المعاصرة». وهنا يتّفق المخرج المسرحي الفرنسي - اللبناني نبيل الأظن مع فياض، فيقول: «عندما قدمنا «لوعة حب» عام 1999 في التياترو، كان رائعاً لناحية توزيع الصوت والخشبة والإضاءة الآتية من السقف المفتوح، على رغم حالته الرّثة بعد الحرب، كما أنه ليس صحيحاً أنه لا يمكن تجهيزه ليتلاءم مع العصر إلا بهدمه». ويرى فياض أن «تغيير وظيفة التياترو الكبير وتحويله الى فندق خمس نجوم هما جريمة تمحو جزءاً مهماً من ذاكرة بيروت الجماعية، وتعادل تدمير البرلمان أو هدم بلدية بيروت، لأن المبنيين شيّدا في الفترة التاريخية نفسها». وتكمن أهمية مبنى التياترو، وفق فياض، في قيمته الجمالية التي تحمل لغة ذاك العصر اللبناني، إذ تدمج الإسلامي بالمحلي والغربي، وهو من أوائل المباني التي صممها معماريون لبنانيون، ناهيك بقيمته المعمارية التراثية، إذ بناه يوسف بك أفتيموس وهو من كبار المعماريين مطلع القرن العشرين، وشغل منصب وزير الأشغال في حكومة الانتداب الفرنسي، وهو نفسه الذي صمّم بلدية بيروت الحالية، ومبنى البركات على تقاطع السوديكو والذي سيحول الى متحف لذاكرة بيروت». يؤكد فياض أن «التياترو الكبير» مصنّف مبنى تراثياً وفق وثائق «سوليدير» وكتاب «انبعاث بيروت» بقلم أغنوس كيفين، كما صنّف تحت خانة «الأمكنة العامة والمدنية» (public and civil facilities). بالتالي «علينا التعامل معه كما تعاملنا مع المباني المجاورة على أقل تقدير». ويشرح أن «التياترو» يؤشر إلى نهاية أحد المحاور الأساسية الثلاث لوسط بيروت، على المستوى المديني. ويرى فياض أن موقع التياترو، بالقرب من «دار الثقافة والفنون» التي تبرعت سلطنة عُمان ببنائها في وسط بيروت، يجعله مثالياً كملحق أو مكمّل للدار، أو ربما لتحويله مكتبة عامة أو بيت للثقافة والتراث (مسرح، زجل، مطبخ للتدريب على الأكل اللبناني، معارض، حرف، رقص، تعليم الدبكة، وكل ما يتعلق بالتراث اللبناني). رومانسية ويقول المهندس زياد عقل، المشرف على تصميم الفندق الجديد، بالاشتراك مع البريطاني ريتشارد روجرز: «حاولنا التعامل مع محيطنا واحترام القديم. أنا ضد زيادة طوابق، لذا عدلنا عن المخطّط الأول، وسنزيد طابقاً واحداً فقط، من الزجاج والحديد على شكل مظلات ويندرج ضمن الحداثة القصوى (Ultra modern) التي تنسجم مع المباني القديمة المحيطة بالتياترو، ونكون بذلك احترمنا هوية المكان». ويضيف: «لكننا سنبني أعمدة من الخلف، للأجنحة والغرف المميزة العالية، لنستفيد من المساحة المتبقية بجعلها حديقة خضراء». ويضيف: «سندعّم الحجر ونمتّنه جداً، ليكون مضاداً للهزات الأرضية، إضافة الى وضع خطة ضد الحرائق». لكن ماذا عن المسرح العريق؟ يجيب عقل متردّداً: «قد يبقى، لكنه لن يكون مسرحاً متخصصاً، بل سيتحول إلى «بانكويت روم» أي قاعة للحفلات والاستقبالات والمؤتمرات، التي قد تتخلّلها نشاطات ثقافية، لا أدري، لكن المقصورات والفتحة في السقف ستبقى للمحافظة على روح المكان». واللافت أن كلام عقل هنا يتعارض مع ما أشارت إليه «سوليدير». إستعادة «التياترو الكبير» هي قضية رأي عام، لكن «من الصعب أن ينشأ رأي عام لبناني واعٍ يطالب به، لأننا شعب لا يهتم بالتراث ومهووس بالحداثة الظاهرية، كما أن التراث وزنه ضعيف في هذه الأيام»، كما يقول فياض. ويتّفق عقل معه، معتبراً أن «ليس في لبنان إيمان بالثقافة، لا من جانب الدولة ولا من جانب الشعب. ولو كان اللبنانيون حريصين على الثقافة والتراث لكانوا تظاهروا في الطرق انتصاراً للتياترو». ويضيف عقل: «التراث يجب أن تدفع ثمنه الدولة والرأي العام، فمالكو المباني التراثية هم ضحايا اليوم، كون صيانتها تكلّفهم الكثير، لذا تلجأ غالبيتهم إلى هدمها أو بيعها». ويتساءل نبيل الأظن: «أين اللبنانيون من هذه الجريمة في حق الثقافة اللبنانية؟ لا يكفي أن يحتفظوا بالواجهة الأمامية للتياترو كما فعلوا مع المباني الأخرى التي تشعرك، في وسط البلد، بكأنك في عالم كومبيوتر لا روح فيه». يعتبر زياد عقل، الذي رمّم كثيراً من مباني وسط البلد، أن ترك هذه المباني التراثية بلا ترميم هو الجريمة، واصفاً من يقولون إن تحويل التياترو إلى فندق هو جريمة، بالرومانسيين: «هناك مبانٍ لا يمكن إنقاذها إلا مع وظيفة حديثة، مثل فيللا عودة وقصر سرسق (الأشرفية). وتحويل التياترو فندقاً هو حلّ كي لا يُهدم، لكنه ليس حلاً مثالياً وأنا أعترف بذلك، إلا أننا بتحويله نواجه الموضوع بدل أن نكتفي بالنقد والكلام». ويرى أن «تعظيمنا للتراث، وتعلّقنا بالماضي، فيهما مفارقة. ففي حين ترانا مولعين بالحفاظ على الحجارة القديمة، نرفض أن تكون لها وظيفة اجتماعية واقتصادية واضحة. وهنا تكمن الأسطورة الرومانسية». ويضيف: «كنت أتمنى أن نعيد التياترو مسرحاً وصرحاً ثقافياً، لكن ذلك يتطلب أن تتبناه مؤسسة كبيرة أو الدولة اللبنانية، لكن للأسف لا سياسة حكومية مدينية للمحافظة على التراث وللإنتاج الثقافي بشكل عام، وكل ما يُنجز هو مبادرات فردية».br / الثقافة: ما باليد حيلة «لا يحقّ لوزارة الثقافة اللبنانية، التي تندرج تحت وصايتها مديرية الآثار، التدخّل في أعمال «سوليدير» الترميمية أو الإعمارية، إلا في حال اكتشاف قطع أثرية تعود إلى ما قبل العام 1700»... هكذا يختصر مستشار وزير الثقافة اللبناني ميشال دو شادرفيان صلاحيات الوزارة. وعلى رغم وجود قانون لبناني يوجب الحفاظ على الأبنية التراثية، وتحاول الوزارة الحالية تعديله ليشمل المباني القديمة ذات القيمة الجمالية والتاريخية، فإن الوزارة «ما بيدها حيلة لأن التياترو ملك سوليدير»، كما يقول دو شادرفيان. ويضيف: «كنا نتمنى لو استطاعت الوزارة شراء التياترو أو استئجاره من شركة سوليدير كي نعيده مسرحاً، لكن موازنة مديرية الآثار لا تتخطى الستّة بلايين ليرة لبنانية (4 ملايين دولار أميركي)، وهي بالكاد تغطي رواتب الموظفين ومصاريف المكاتب». ويقول: «ما فعتله سوليدير بالتياترو، وفي وسط المدينة ككل، هو جريمة مشرّعة بدأت في التسعينات». نضال الأشقر: يضاهي تقنياً «أوبرا غارنييه» لا أحد يعرف لماذا أجّلت «سوليدير» الاستثمار في «التياترو الكبير» حتى الآن، مع أن الحرب انتهت قبل 20 سنة، وكل مباني وسط بيروت رممت واستثمرت ما عدا مبنيَي «الدوم» و «التياترو»! وكأن الشركة المالكة والمشغلة ل «وسط البلد» كانت كلما نشرت خبراً حول تحويل «التياترو» مطعماً أو ملهى أو فندقاً، حاولت جسّ نبض الشارع. هل كانت خائفة؟ لا تردّ مصادر الشركة على هذا السؤال تحديداً. لكن المهتمين بهذا الإرث اعتصموا أكثر من مرّة، وطالبوا الرئيس الشهيد رفيق الحريري بترميمه ليكون مسرحاً وطنياً، لا سيما الصحافي غسان تويني والمسرحية المخضرمة نضال الأشقر. وأكدت الأشقر ل «الحياة» أنها قامت بدراسة تفصيلية، بالتعاون مع المهندس العراقي معاذ الألوسي، عام 1992، بناء على موافقة الرئيس الحريري. وسلّمتها إلى (الوزير آنذاك) فؤاد السنيورة وكان اليد اليمنى للحريري. وتقول: «وجدنا أن المسرح يتمتّع بميزات تقنية متطورة (يتّسع ل700 كرسي) تشكّل مع جمالية الهندسة الداخلية والخارجية مسرحاً يشبه بعظمته «أوبرا غارنييه» في باريس». وتشرح أن النظام الصوتي المتطوّر فيه مدروس بطريقة تمكّن المشاهد في آخر الصالة من السماع بوضوح تام، كما لو أنه جالس في المقاعد الأمامية. أما التقنيات الضوئية، خصوصاً الطبيعية الآتية من السقف المفتوح، فتضفي على الديكور أجواء رائعة، وكأنها جزء من كل مسرحية تعرض على الخشبة. لمست ذلك من خلال الأمسيات التي نظمناها لشعراء فرنسيين بُعيد الحرب، ومن خلال المسرحيات التي عرضت فيه لمحاولة إحيائه. تحكي الأشقر بحنين عن زيارتها الأولى إلى «التياترو»: «عندما دخلته، بعد انتهاء الحرب مباشرة عام 1990، شعرت بالرهبة، عندما رأيت أضاليا الستائر الحمراء وبقايا ملابس الممثلين. شعرت بأن روح يوسف وهبي وجورج فرح وأم كلثوم وعبدالوهاب، لا تزال موجودة. وجدت الخشبة متوسطة الحجم بصحة جيّدة ومرنة تريح الممثلين». وتضيف: «حتى الكواليس كانت واسعة ومرتبة ومقسمة إلى غرف للممثلين، على رغم أنه تحول صالة سينما لعقود عدة». فلا ننسى أن «التياترو» عرض أول فيلم ناطق باللغة العربية، وهو «الوردة البيضاء» للموسيقار محمد عبدالوهاب»، وفق السينمائي محمد سويد. لكن للأسف تحوّل، مع بدء الحرب، عام 1975، إلى سينما رخيصة تعرض الأفلام الخلاعية نزولاً عند رغبة المقاتلين الذين احتلوه! وتتابع الأشقر أنه، في أوائل التسعينات، وبعد ردّ الحكومة اللبنانية كالعادة بأنها لا تملك الإمكانات، اقترحت تقديم المشروع إلى هيئات أجنبية مثل «لجنة المحافظة على التراث» التابعة لل «يونيسكو» ومؤسسة «آغا خان» التي ترمم المعالم القديمة في العالم العربي، للحصول على تمويل «وهو أمر سهل جداً». لكن محاولتها «كي يكون التياترو الكبير نقطة انطلاق المدينة المرممة ومنارة للفكر والأدب والثقافة»، باءت بالفشل. وفي عام 1993، أعلن وزير الثقافة والتعليم العالي في حينها ميشال إدة، لمناسبة اليوم العالمي للمسرح، استثناء التياترو الكبير من الهدم ليكون مسرحاً وطنياً تضعه الدولة في تصرف المسرحيين. وفي عام 1997 قدم فيه المخرج المسرحي الفرنسي جيل زافيل، عرضاً بعنوان «تحية إلى التياترو الكبير» بالاشتراك مع ممثلين لبنانيين، محاولاً تحفيز الجمهور اللبناني على استعادة دوره الثقافي بعد شرخ عميق صنعته الحرب في الذاكرة الجماعية. وفي عام 1999، قدم المخرج المسرحي الفرنسي - اللبناني نبيل الأظن، مسرحية غير معروفة للشاعر جورج شحادة بعنوان «لوعة حب» في التياترو الكبير. وذلك في الذكرى العاشرة لوفاة شحادة، بدعم من البعثة الثقافية الفرنسية و «مؤسسة ناديا تويني»، وحضرها سياسيون وديبلوماسيون وفنانون. وفي 30 آب (أغسطس) 2001، وجه وزير الثقافة غسان سلامة كتابين إلى مجلس الوزارء وإلى «سوليدير» كونها مالكة العقار، تمنّى فيهما «إعادة النظر في تأهيل التياترو كمسرح، وفي حال الموافقة تبدي الوزارة اهتماماً بإمكان استئجاره وبرمجة النشاطات الثقافية فيه». وأتى ذلك بعد تردد أخبار عن تحويل الصرح التاريخي إلى مطعم. لكن سلامة لم يحصل على جواب، وكل ما استطاع فعله، كما قال لجريدة «النهار» (عدد 1 شباط/ فبراير 2001)، هو «عدم إجراء أية تغييرات في هندسة التياترو، والمالك يحق له استثماره كمطعم أيضاً... وقد يتحول المطعم إلى مسرح بعد أن ينتهي العقد القائم بين المالك والمستثمر». ومن الفنانين الذين اعترضوا على تحويل التياترو مطعماً، في عام 2000، كونه رمز بيروت التاريخ: ريمون جبارة، عبدالحليم كركلا، نضال الأشقر، عمر نعيم، جوسلين صعب، جوليا قصار، روجيه عساف، حنان الحاج علي، لينا أبيض، جوزيف بو نصار، علي مطر، ميشال جبر، رندا أسمر، إيلي كرم، سهام ناصر، فادي أبوخليل، وكثيرون غيرهم معتبرين أنه لا يجوز أن تقدم «ذاكرتنا وأحلامنا على طبق هامبرغر»، واصفين لبنان ب «وطن البطن»... هذا الاعتراض لا يزال قائماً اليوم، لكنه ضعف. يبدو أنهم تعبوا من الكذب والفساد، تعبوا من الإهمال. وفي اتصال هاتفي، تمنّى نبيل الأظن بصوت يملأه اليأس: «لو تحوّل التياترو إلى كاباريه بدل الفندق المرفّه، فعلى الأقل سيكون لأهل البلد ويمكن أياً كان دخوله!». محمد سويد: أحبّ «التياترو» في انحطاطه إلى أواخر ستينات القرن الماضي، يعود وعيي المبكر بمبنى «التياترو الكبير». دأبتُ، شأنَ تلامذة المدارس الحكوميّة عشيّة افتتاح الموسم الدراسي، على فرش كتبي المستعملة على رصيف مجمع اللعازاريّة، الموازي للتياترو، وبيعها بسعر يمكّنني من مساعدة أبي في شراء كتب سنتي الدراسيّة المقبلة. بدلاً من أن يحضّني المال على تقدير نعمة العمل، اعتبرته قيمة تنعُّمٍ بمزيدٍ من متعة السينما. ارتدت كل صالات «البلد» باستثناء «التياترو الكبير». كنت مأخوذاً، أكثر، برثاثة هذه الصالة في مظهرها المتهالك. على واجهتها، إعلان مرسوم بألوان فاقعة ومخطط باليد لعرض متواصل من أفلام تجارية متعددة الجنسيات بين أبطالها نجمات إغراء من تركيا. خارج بوابتها، انتشرت بسطات السلع الرخيصة، نثر بائعٌ فوق إحداها طبعات مهترئة من مجلات «الكاميرا» و»ألف ليلة» و»حواء»، وروايات حاتم خوري وبيار روفايل، وقصص إباحية، رديئة التنضيد مكتوبة بالعربية من دون ذكرٍ لاسم مؤلّف أو دار نشر، على أغلفتها صور خلاعية باهتة منحولة من مجلات أجنبية. هكذا عرفت سينما «التياترو الكبير» في انحطاطها، جزءاً من انحطاط أشمل عمّ «البلد» وأحاله عالماً يخاصم ماضيه، لا يستعيده إلاّ في لمْحَتيْ عين وذاكرة. في زمن انهيار صالات السينما في وسط متراجع لمدينة راحت تفتح صفحة جديدة في شارع الحمرا، بدت «التياترو الكبير» صالة ساقطة سيّئة السمعة، أشبه حالاً بسينما «فينوس» المتحوّلة آنذاك وكراً للمطلوبين وهدفاً لحملات دهم مفاجئة تتولاها شرطة الآداب وتنتهي بختم الصالة بالشمع الأحمر. لا أدري إن كانت نظرتي إلى «التياترو الكبير» ستتغيّر لو أنني قصدتها قبل الحرب. أحسبُ أنها من الداخل لم تكن أقلّ بؤساً من منظرها الخارجي. ربما أثارني بؤس مآلها أكثر من بريق ماضيها. بين 1975 و1977، شهدت «حرب السنتين» خطف المئات على الحواجز الطيارة. كنت أحد المخطوفين، لكن إلى قلب «التياترو الكبير» المفتوح لعرض الأفلام في عتمة القصف المتبادل بين شرق بيروت وغربها. بعد 1977، لم يتوقّف إطلاق النار. توقفت كل الدور إلاّ «التياترو الكبير». وقعت في قبضة مقاتلي الأحياء الإسلاميّة المجاورة. شغلّوها أو تغاضوا عن تشغيلها بفرض الأتاوات. نسفوا جداراً كان يفصل بوابتها الخلفيّة عن شارع ضيّق تحوّل بعد إزالة الجدار وتحصينه بأكياس الرمل معبراً آمناً لروادها. تحت القصف ونيران القناصة، سعينا إلى ملاذنا الدافئ وحرارته المنبعثة من شاشة بالية ومكبّرات صوت ممزقّة تبثّ أشرطة بورنو مهرّبة من اليونان وهولندا إلى وسط بيروت. خارج التياترو، أقفرت الشوارع. داخل التياترو، غصّت القاعة بالمسلّحين والطلاب والعجزة. في العام 1983، عدت إليها مساعد مخرج لجوسلين صعب في أوّل أفلامها الروائيّة «حياة معلّقة». صوّرنا مشهداً في خرائبها. من التأمل في بقايا ستائرها ومقاعدها وأعمدتها الشاهقة وردهاتها الرحبة، لمست أنّ لها تاريخاً لا أعرفه. أخبرني معمّرون أفنوا حياتهم في السينما والمسرح قصصاً مشوّقة عن مسرحيات أحيتها فرقة «الكوميدي فرانسيز» وحفلات لأم كلثوم وعبد الوهاب. وحين عكفت على وضع كتاب عن صالات ساحة البرج، التقيت عدداً من مؤسسي دور السينما ومحرّكي آلات العرض وقدامى مدمني الأفلام. سمعت منهم روايات متناقضة عن أصل التياترو وفصلها. نعم جاءت أم كلثوم إلى بيروت، قالوا، غير أنها لم تغن في التياترو. وعبد الوهاب؟ نعم ولا. حتّى أصحاب الصالة اختلفت الآراء حولهم. المهم في حكاية «التياترو الكبير» ليس التباس الأسماء وإنما صعوبة التحقّق من شخصياتها وأحداثها. وفي محصلة الأحاديث التي جمعتها من محرّكي آلات العرض آنذاك، أخفقت في تبديد الإحساس أن تاريخ «التياترو الكبير» كان أطول وألهب خيالاً في خبريات الناس منه في تاريخ الصالة وعمرها المديد. حاولت العثور على بقايا ما خلف كواليس المسرح. لم أجد أثراً لعبد الوهاب ولا لأم كلثوم. لا شيء أكثر من منشورات لعرض تحييه الفنانة نادية شمعون. وإذ خرجت من المبنى لفتتني عبارة محفورة بالفرنسيّة عند المدخل وفي أعلى بابه الحديد: «ألف ليلة وليلة». يزيّن لي أن التياترو عاش مجده الأعظم في فترة الانتداب الفرنسي. ومع ندرة السجلات المحليّة وعدم توافر الإمكانات المادية للبحث والتنقيب في المصادر، أرى أن الذاكرة المتخيّلة والمبالغ في سحرها تظلّ أجمل من الذاكرة الموثقة والمصنفة في اعتبارها تأريخاً لا يقبل التأويل ولا التشكيك في دقة وقائعه. عندما طرحت عليّ المساهمة في ملف يتناول «التياترو الكبير»، قيل لي إن «سوليدير» تزمع إنشاء فندق محل المسرح وتروّج لفعلتها هذه بالادعاء أن المبنى كان يحوي فندقاً في الأصل. قبل ذلك، شيّدت «سوليدير» أحدث مجمعاتها التجارية وروجت له أيضاً بحملة دعائية تفيد عن قيامه محلّ سوقي الطويلة وأيّاس وبركة العنتبلي. لا أفهم لماذا تستبق «سوليدير» معارضيها بمصادرة انتقاداتهم وحججهم وكأنها ترد عن نفسها ذنباً لا يغتفر. فلتفعل ما شاءت فعله. الأرض أرضها، والمال مالها. ما نفع اللعب على وتر ليموناضة العنتبلي وقشطليته؟ الكلّ ينظر إلى التاريخ بعين ما يحب. «سوليدير» ترى التياترو فندقاً لأنها ببساطة، تحب أن يكون فندقاً. أما أنا فلا أحبه في عروض ال «كوميدي فرانسيز» ولا في حفلات عبدالوهاب. أحبه في انحطاطه.