لا أعرف سبباً يجعل العاقل يشكك في النتيجة المرجحة للانتخابات المقبلة في السودان، فقد نجح حزب المؤتمر الوطني الحاكم «الجبهة الإسلامية القومية» في تسجيل عدد من المقترعين يكفي لانتخاب مرشحيه للرئاسة والبرلمان وحكام الولايات مستغلاً قدرات الدولة، مكرساً الآلة الإعلامية الحكومية لمصلحة رجاله وسياساته، تاركاً لمعارضيه «فتات» وقت من ساعات البث الإذاعي والتلفزيوني، مستخدماً قوة الشرطة والأمن لاعتقال مساعدي مرشحي الأحزاب والتنظيمات الجهوية، ولذلك اعتاد الرجل الثاني في الحزب الحاكم وحكومته الدكتور نافع علي نافع أن يستفز السودانيين بأن مرشح الحزب سيكسب انتخابات الرئاسة في جولة وحيدة. حتى برامج القناتين الفضائيتين اللتين يديرهما الحزب الحاكم «الفضائية السودانية» و«الشروق» أضحت مكرسة لتلميع إنجازات وسياسات «المؤتمر الوطني»، وحين تتيح إحداهما فرصة لمرشح من القوى المعارضة فإنها تقتص منه نصف الزمن المخصص لحديثه باستضافة «محلل سياسي» من أعضاء الحزب الحاكم «موسى يعقوب وربيع عبدالعاطي نموذجاً». وعلى رغم أن اتفاق السلام الذي رعاه القطريون بين حكومة الجبهة الإسلامية وحركة العدل والمساواة الدارفورية المتمردة، التي يتزعمها الدكتور خليل إبراهيم، تم إخراجه بعناية لإرضاء الغرب والقوى الديموقراطية الأجنبية التي تمارس ضغوطاً على الخرطوم من أجل إحلال السلام وتطبيق استحقاقات «اتفاق السلام الشامل» مع جنوب السودان، إلا أن اتفاق السلام الثنائي الموقع في قطر سلط قدراً أكبر من الضوء على مآلات الوضع في دارفور، وأضحى قطاع كبير من السودانيين والأجانب على اقتناع بأن إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في نيسان (أبريل) 2010، مع استثناء مناطق في دارفور، أو ولايات دارفور بأكملها، ومن دون إجماع في صفوف الحركات الدارفورية المسلحة على الانضمام إلى الاتفاق الثنائي بين الجبهة الإسلامية وحركة العدل والمساواة، سيزيد الوضع السياسي والأمني تعقيداً وتردياً، إذ إن الحركات غير المنضوية تحت لواء الاتفاق لن تكون طرفاً في برلمان 2010، ما سيدفعها إلى استمرار رفع البندقية بوجه النظام، وجره إلى مربع إراقة الدماء وزيادة أعداد المشردين والنازحين. الانتخابات الرئاسية والتشريعية، على المستويين الولائي والوطني، لن تحل مشكلة السودان، قد تحل جانباً من مشكلات شريكي الاتفاق الذي جاء بها «الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان»، لكنها لن تحل مشكلة دارفور، ولن تعالج التململ في شرق السودان، ولن تطمئن الراغبين في استمرار وحدة السودان إلى أن المناطق الثلاث التي توافق الشريكان على التسليم بأنها «مهمشة»، وهي جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة وأبياي، ستختار الوحدة حين يتم استفتاء شعوبها على تقرير مصيرها بعد استفتاء العام 2011 الذي يرجح أن يعطي جنوب السودان استقلاله. وترجيح هذه المآلات المحزنة إنما يعزى إلى سجل الجبهة الإسلامية الممتد أكثر من 20 عاماً في المراوغة وعدم الصدقية واللهاث وراء المصالح الحزبية والشخصية الضيقة، والسجل الأكثر أهمية هو سجلها في الحنث بتعهداتها بموجب اتفاقات السلام التي وقعتها مع قوى فاعلة تشهر سيف التمرد على الدولة التي عجز جيشها عن دحر تلك القوى. الجنوبيون ليس أمامهم سوى التصويت لمصلحة الانفصال، لأن حكومة الجبهة الإسلامية أراقت دماء رجالهم ونسائهم وأطفالهم بدعوى الجهاد وأسلمة الجنوب، ولم يتحقق شيء يذكر من بنود اتفاق السلام، خصوصاً اقتسام أموال النفط التي لا يعرف الجنوبيون أين اختفت، ولم يتذوق الشماليون طعماً لها، على رغم ادعاء الجبهة أنها استخرجت النفط وتقوم ببيعه لمصلحة السودان. في غضون عام قد يتحقق السيناريو الذي لا يريده كثيرون: انفصال في الجنوب، وخطوة مماثلة في جنوب غرب السودان «جبال النوبة» وجنوب شرق البلاد «مناطق الأنقسنا المتاخمة لإثيوبيا». ومن المؤكد أن غبن الانتخابات، الناجم عن استثناء مناطق في دارفور، سيزيد نيران التمرد تأجيجاً، ولن يكون مفاجئاً أن ترتفع أصوات دارفورية مطالبة بتقرير المصير لتعود هذه المنطقة الشاسعة إلى وضعها المستقل الذي بقي حتى ضمها البريطانيون إلى السودان بحدوده الحالية في عام 1916. وستشجع خطوة الجنوبيين، إذا اختاروا الانفصال، الأقاليم «المهمشة» على الانضمام إما إلى الدولة الجنوبية الوليدة، أو المطالبة بحكم ذاتي فضفاض يكف يد الحكومة المركزية المتمسحة بمسوح الإسلام عن شؤون تلك الأقاليم. وتأتي كل هذه المآلات المفجعة وشمال البلاد لا يعرف كيف يمكن أن تحل مشكلة عدم التراضي بين أهله حيال نظام الحكم الأنسب، إذ إن غالبية أهل الشمال على اقتناع بأن زعيمي البيتين الكبيرين «الميرغني والمهدي» لا يصلحان للحكم، إذ لا يملك السيد محمد عثمان الميرغني فكراً تنظيمياً يتيح له قيادة البلاد إلى طريق آمنة من حقل الألغام الذي يهددها، كما أن السيد الصادق المهدي جرّب رئاسة البلاد مرتين في 1966 و1986، وفي كلتيهما ترك البلاد أسوأ حالاً مما كانت قبل رئاسته. وفي الوقت نفسه أحكمت عصابات الجبهة الإسلامية الخناق على الشعب، في معيشته وحياته العملية والعائلية، وطبقت كل أساليب التحايل لكسب نتيجة الانتخابات، مستقوية بأموال الدولة وأسلحة الجيش الوطني وميليشياتها. وسط هذه الرؤية القاتمة سيبقى الباب مفتوحاً أمام التمرد في ما سيبقى من «السودان القديم»، وإذا كان السودانيون قرأوا أكثر من بيان لجماعات تشكو الظلم والتهميش في الشمال النيلي المسلم الذي تنحدر منه الصفوة الحاكمة وقادة الجيش، فلن يستبعد أحد أن يسمع صوت بندقية في تلك الولايات، ولن يكون مستغرباً أن يندلع تمرد مسلح في ولاية شمال كردفان الغنية بالصمغ والسمسم والفول السوداني والذرة، القريبة من حقول النفط والأنبوب الذي ينقله من غرب البلاد إلى ثغرها على البحر الأحمر شرقاً. من المحزن حقاً لأبناء جيلي الذي تلا الاستقلال أن نعيش زمناً يتهدم فيه السودان الكبير الجميل الذي كان قوياً ومتماسكاً... أمام أعيننا، وبأيدي إخوة لنا، ما تجعل الحروب الأهلية احتمالاً راجحاً ليتزعزع استقرار أفريقيا والعالم العربي، ويصبح السودان صومالاً ثانياً، وربما «أفغانستان» أخرى. * صحافي من أسرة «الحياة».