أثارت نتائج الانتخابات البرلمانية الروسية التي حصلت في الرابع من شهر ديسمبر الحالي جدلا واسعا وردود أفعال متباينة، في الداخل والخارج، تراوحت ما بين الترحيب والتنديد. وكان واضحا أن السبب المباشر لردود الأفعال تلك هو أن الانتخابات أحدثت تغيرا في ميزان القوى داخل "مجلس الدوما"هو الأكثر أهمية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي قبل عشرين عاما. لكن ، وللوقوف على حقيقة التغيير الذي أحدثته الانتخابات ، ومعرفة دلالاتها الداخلية والخارجية، ينبغي أولا معرفة عدد المقاعد التي حصل عليها كل حزب ، وسبب خسارته أو ربحه :حصل حزب "روسيا الموحدة"، وهو حزب الرئيس ميدييديف ورئيس وزرائه القوي فلاديمير بوتين على 238 مقعدا من أصل 450 هي إجمالي مقاعد "مجلس الدوما". وبذلك يكون الحزب قد خسر 77 مقعدا ، إذ كان يشغل 315 مقعدا في المجلس المنتهية ولايته. وقد حل "الحزب الشيوعي"ثانيا ، حيث حصل على 92 مقعدا، ليضع في رصيده 35 مقعدا جديدا، بعد أن كان يشغل 57 مقعدا في المجلس السابق. أما حركة "روسيا العادلة"فقد ارتفع رصيدها من 38 إلى 64 مقعدا، لتحل في المرتبة الثالثة. هذا بينما حل رابعا "الحزب الليبرالي"، الذي يقوده القومي المتطرف فلاديمير جيرونوفسكي ، والذي رفع رصيده من 40 مقعدا إلى 56 مقعدا. وكان ملاحظا أن حزب "يابلوكو"( التفاحة) فشل في الحصول على أي مقعد!من الملاحظ أن حزب "روسيا الموحدة"قد مني بهزيمة منكرة ، رغم تمكنه من الاحتفاظ بالمرتبة الأولى. وهو ما يطرح تساؤلا بشأن دوافع ومبررات السخط الأميركي الذي عبر عنه مسؤولون أميركيون كبار ، خصوصا الرئيس باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون ، اللذين شككا بنزاهة الانتخابات وحرضا الشارع الروسي على التظاهر ضدها! بتعبير آخر: إن هذه النتائج يفترض بها أن تسر خاطر الإدارة الأميركية ، طالما أن خصمها القوي ، بوتين وفريقه، هو الخاسر الأبرز في هذه الانتخابات! فما هو سبب السخط الأميركي إذن ، لاسيما وأن خسارة الحزب الحاكم 77 مقعدا تشكل دليلا حاسما على نزاهة الانتخابات ، في الوقت الذي كان بإمكانه التلاعب بها ، سواء من خلال التدخل المباشر ( التزوير) أو التدخل غير المباشر من خلال أدوات التأثير المختلفة !؟ السخط الأميركي لا يمكن تفسيره إلا من خلال الوقوف على هوية وبرامج القوى التي حصدت المقاعد التي خسرها الحزب الحاكم. فالرابح الأساسي هو الحزب الشيوعي بقيادة غينادي زيوغانوف ، الوارث الأبرز للحزب الشيوعي السوفييتي. ومن المعروف أن هذا الحزب يتبنى برنامجا أكثر تشددا ، بما لا يقاس، من حزب "روسيا الموحدة"، سواء على مستوى السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، أوعلى مستوى السياسة الخارجية المتعلقة بالأمن القومي الروسي في مواجهة أوربا والنفوذ الأميركي فيها ، وبأمن حلفاء روسيا في أنحاء العالم المختلفة. ويبرز في هذا المجال الأخير مواقفه من "التدخل الدولي"في سوريا وإيران ومن القضايا العربية المختلفة ، لاسيما القضية الفلسطينية. وكان من اللافت أن الحزب حقق نتائج كاسحة في قطاعات ومناطق جغرافية عديدة ، لاسيما في القطاع الصناعي و الأكاديمي ، أي القطاعات التي تمثل الطبقة العاملة والطبقة الوسطى . وتفسير ذلك هو أن الركود الاقتصادي الذي سببته الأزمة المالية العالمية في روسيا ( رغم محدوديته النسبية قياسا ببلدان أخرى مثل اليونان وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة نفسها)، وما رافقه من سياسات تقشفية حكومية في مجال الإنفاق العام ، مضافا إلى عمليات الخصخصة التي اتخذت طابعا مافيوزيا في عهد يلتسين وزمرته ، أدت في مجملها إلى الدفع بالمزيد من أبناء هذه القطاعات إما إلى سوق البطالة أو الأعمال الهامشية .( ثمة ظاهرة ملفتة في روسيا على هذا الصعيد، وهي أن أعدادا غفيرة ومتزايدة باستمرار من الأكاديميين ذوي التكوين العلمي والمهني العالي أصبحوا يعملون في القطاعات الهامشية بالنسبة لمؤهلاتهم لتأمين لقمة عيشهم ، مثل البناء وإصلاح المنازل وتمديدات الصرف الصحي). هذا على الرغم من الإنجازات الكبيرة التي حققها بوتين ، سواء حين كان في رئاسة الاتحاد الروسي أو حين أصبح رئيسا للحكومة في سياق "اتفاق التناوب على السلطة"مع حليفه وصديقه الرئيس ميدييديف، على صعيد "العدالة الاجتماعية"و الدفاع عن المصالح القومية الروسية. هذا بالنسبة للحزب الشيوعي . أما الفائز الثاني من أحزاب قوى المعارضة ، فكان حركة"روسيا العادلة". وتمثل هذه الحركة تيار "الاشتراكية الديمقراطية"أو يسار الوسط . ورغم أن هذا الحزب / الحركة هو "الأقرب"إلى الغرب و الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوربا ، إلا أن سياساته ، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية، أقرب إلى حزب "روسيا الموحدة"الذي يقوده بوتين لجهة ما يتعلق بالسياسات الوطنية الخارجية المدافعة عن مصالح روسيا أو ما يسمى ب"السياسات الاستراتيجية لبوتين"، التي عبرت الحركة عن دعمها المطلق لها . وعلى مستوى السياسات الاقتصادية والاجتماعية ، يعتبر الحزب على يسار بوتين وحزبه. فبرنامجه وسياسته يقومان على مكافحة الفساد والفقر واعتماد نظام ضريبة الدخل التصاعدية ، وفرض "ضريبة الترف"(الاتفاق الاستهلاكي على السلع والخدمات الفاخرة) وتشديد الرقابة الحكومية على أسعار السلع والخدمات الهامة اجتماعيا، ووقف برنامج الخصخصة ، وصولا إلى سن تشريعات تحد من تحويل الودائع إلى مناطق التجارة الحرة ، وهو التعبير الديبلوماسي لعملية نهب الدولة وتحويل رؤوس الأموال إلى الخارج. ويتضح أن جميع هذه السياسات التي يتبناها الحزب تتنقاض مع السياسات الأوربية والأميركية ولا تسر خاطرها. وكان ملاحظا أن الحزب ، وقبل الحزب الحاكم نفسه، أول من سارع إلى التنديد بالتصريحات الأميركية والأوربية التي شككت بنزاهة الانتخابات. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ما يضفي طابعا أكثر تشددا على سياسات الحزب الاقتصادية والاجتماعية ، فضلا عن السياسة الخارجية ، قياسا بالسياسات التقليدية المعروفة لأحزاب "الاشتراكية الديمقراطية"في أوربا ، هو أن الحزب نجم في الواقع عن اندماج أحزاب يسارية . ففي العام 2008 انضم الى حزب "روسيا العادلة" حزب "الخضر"البيئي الروسي. ثم انضم اليه الحزب الاشتراكي الموحد وحزب العدالة الاجتماعية. ويبلغ عدد أعضائه الآن قرابة نصف مليون عضو أصيل ، فضلا عن الأنصار.أما "الحزب الليبرالي الديمقراطي"، الذي يقوده اليميني المتطرف جيرونوفسكي ، ورغم أنه حزب يميني على مستوى السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وبالتالي متناغم مع السياسات الغربية، إلا أنه أكثر تشددا من الجميع تقريبا لجهة ما يتعلق بالمصالح القومية الروس ية ومناهضة النفوذ الأميركي ، سواء في روسيا أو الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفييتي السابق، أو على الصعيد العالمي. ومواقفه من التدخل الأميركي الغربي في العراق وليبيا، ثم سوريا لاحقا ، مشهودة وتكاد تكون"على يسار الجميع"! خلاصة الأمر : ثمة نقمة حقيقية على سياسات بوتين وحزبه ، رغم إنجازاتهما الداخلية والخارجية، لكنها نقمة تصب في السياسات التي تقع على يسارهما ، وبالضد من السياسات الغربية. ولعل أبلغ تعبير عن ذلك هو أن حزب"يابلوكو"، المسمى تهكما في الشارع الروسي ب"حزب المافيا والسفارات الأجنبية"، فشل في الحصول ولو على مقعد واحد . وهو ما يفسر حسب معلقين روس الغضب والسخط الأميركي الأوربي من نتائج الانتخابات الروسية التي وصل الأمر بالبرلمان الأوربي في الرابع عشر من الشهر الجاري حد المطالبة بإعادتها ، رغم معارضة جميع القوى الحزبية في روسيا ، بما فيها الأحزاب التي انتقدت ما شابها من خروقات وحققت نتائج أقل مما كانت تتوقعه لنفسها! هذا الأمر دفع أحد المعلقين الروس إلى القول ، لاسيما بعد تصريحات المرشح الرئاسي الأميركي جون مكين التي هدد فيها بوتين ب"اقتراب الربيع العربي من الحي الذي يسكن فيه"، إلى القول "صحيح أن الربيع العربي يقترب من مسكن بوتين ، ولكنه بخلاف الربيع العربي يزهر ورودا في حدائقنا وشوكا في الحدائق الخلفية الأميركية والأوربية التي عملوا على حراثتها طوال العشرين عاما الأخيرة"!