حاولت معتصرا الذاكرة أن أحدِّد متى التقيته.. لا فائدة! يخيَّل إلى أن معظم الأشياء والناس الجميلين يتجاوزون حدود الزمان إلى ما قبله حدَّ القِدَم. المهم أني أعرف أنه جاء بعدي إلى حيث كنت أعمل لسنين طالت.. وظلَّ هناك حتى غادرت تاركاً بعض الذكريات والأحبة لعله كان أقربهم. كنت أعرف اليوم وساعاته به.. حين كان يدخل بالقهوة أو الشاي عليَّ في مواعيد حدَّدها هو وقبلت بها.. وكنت أفتقده حين لا يظهر في تلك المواعيد وأفتقده أكثر حين يضطره عارضه الصحي النادر إلى أن يغيب أياماً يعود بعدها بنفس روحه وابتسامته وإن مظلَّلةً بتعبٍ لا تخفى ملامحه. هل قلت ابتسامته! نعم كان أندر ما فيه ابتسامته التي حين يسمح لها أن تخرج تشعر بأن الدنيا قد منحتك بارقة فرح مباغت.. يُطرق قليلا ثم يرفع رأسه فترى أسنانه البيضاء وحاجبيه قد امتثلا علوَّاً. أما صوته فخافتٌ جدَّاُ ولم أسمعه قويَّاً إلا مرَّة واحدةً حين استثاره أحدهم بما دعاه لأن يُخرِج كلَّ ما فيه في صرخةٍ واحدة.. ظلَّ يعدُّها ذنباً كبيراً حين رأى أني خرجت من مكتبي لأراها وأسمعه! كان كبيراً في ولائه لعمله ومحبته لزملائه.. ورغم بساطة مهامه، أو لعلها هكذا بدت، فإنه كان أكثر رؤية وحرصا من بعض الكبار.. وحين تأخَّرت المرتبات يوماً كان هو من يحث من تذمَّروا على الوفاء والانتظار، رغم أنه كان الأكثر حاجة. لم ينقطع عني.. وكنت أراه في أحيانٍ متباعدة. وكان يُذعن للرحيل لحظة يصل رغم أملي أن يظلَّ طويلا. "بس حبيت أشوفك وأسلِّم عليك". وهكذا يفعل ثم يرحل تاركاً إيَّاي بين أوراقي التي لا تحمل رغم بياضها ما يحمله قلبه من بياض. وحين رأيته آخر مرَّةٍ في رمضان الماضي لم يقل عبارته التي عوَّدني وبقي أكثر من عادته. حدَّثني عن مشروعٍ صغير بدأه عسى أن يمنحه مزيداً من دَخْلٍ يُعينه على أعباء أسرته الممتدة التي يحمل ببراءته وعزَّة نفسه مسئوليتها. كان راضياً ولم يبتسم تلك الابتسامة إلا حين سألته عن ابنه فهد فأجاب بفخر رافعاً حاجبيه: "بعد ما خلَّص الثانوي..يدرس الآن دبلوم كمبيوتر، وبعدها يلقى وظيفة".. شاركته الأمل رغم صعوبته في مثل حال فهد الذي لا يعرف وأبوه وطنا إلا هنا.. ولم يُحبُّوا إلا هنا، ومع ذلك فالأرض أحياناً لا تبادلك نفس المشاعر. جاء موت "أمين موسى" صاعقاً كما يفعل الموت عادة.. وحين تشييعه ودفنه جاء كلُّ الزملاء متفقين، ربما لأول مرة، وذارفين الدمع سخيَّا.. متسابقين إلى حمل جثمانه محبةً واعتذاراً متأخِّرا. أما أنا فقد بكيت على أمين البكاء الذي أُجيد.. وسأظلُّ عند كلِّ منعطف ذكرى.. قبل أيام مر بي فهد ابنه.. سألته عن حاله أهله وتحدَّثنا عن أبيه قليلاً.. وفجأة وقف مستأذناً في المغادرة قائلاً: "بس حبيت أشوفك وأسلِّم عليك"..