"اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تنسنا ذكرك، ولا تهتك عنا سترك" لقد عجز علماء الدراسات المستقبلية - الاستشراف - بكل ما لديهم من علوم من (المحتمل) و(الممكن) و(المفضل) عن توقع ما تم ويتم هنا وهناك، والتفاصيل بخصوص ما حصل لا تكاد تخفى على ذي لُب وبصيرة، والقادم في علم الله سبحانه وتعالى. نسأل الله ان يلطف بالجميع. إن مما يُفزع اليه وسط هذه الظروف والحركات والأحداث، التبصر والتمعن والتأمل في كلام الله تعالى وآياته، خصوصاً وأننا في شهر القرآن العظيم. ومن ذلك الآيات الشريفات من رقم (42) إلى الآية رقم (45) من سورة الانعام، إحدى السور المكية الطويلة التي يدور محورها حول "العقيدة وأصول الايمان"، وتعالج القضايا الكبرى الأساسية لهذه الاصول كقضية الألوهية، وقضية الوحي والرسالة، وقضية البعث والجزاء. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 42 - 45] الشيخ أحمد ابن عجيبة - 1161-1224ه- في كتابه (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) ذكر عن هذه الآيات الكريمات ان الحق جل جلاله يقول: تخويفاً لهذه الأمة: ولقد ارسلنا الى امم مضت من قبلك رسلاً فانذروهم، فكذبوا وكفروا فأخذناهم بالبأساء اي: الشدة، كالقحط والجوع، والضراء كالأمراض والموت والفتن، تخويفاً لهم لعلهم يتضرعون اي: يتذللون ويتوبون من ذنوبهم، فلم يفعلوا، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا اي: هلاَّ تذللوا حين جاءهم البأس فنرحمهم، وفيه دليلٌ على نفع التضرع حين الشدائد، ولكن قست قلوبهم اي: صلُبت ولم تلن، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فصرفهم عن التضرع، اي: لا مانع لهم من التضرع الا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم، فلما نسوا ما ذكروا به أي: تركوا الاتعاظ بما ذُكروا به من البأساء والضراء، ولم ينزجروا، فتحنا عليهم أبواب كل شيء من أنواع الرزق وضروب النعم، مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، وامتحانا لهم بالشدة والرخاء، إلزاماً للحجة وإزاحة للعلة، أو مكراً بهم.. حتى إذا فرحوا أي: اعجبوا بما اوتوا من النعم. ولم يزيدوا على البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه، (أخذناهم بغتة) اي: فجأة (فإذا هم مبلسون) مُتحيرون آيسون من كل خير، (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) أي: قطع آخرهم، ولم يبق منهم أحد، وهي عبارة عن الاستئصال بالكلية، (والحمد لله رب العالمين) على إهلاكهم، فإن إهلاكهم نعمة جليلة، يحق ان يحمد عليها، من حيث إنه خلاص لأهل الأرض من شؤم أعمالهم. ويجمل الشيخ كلامه في ان المقصود من اظهار النقم الظاهرة، ما يؤول الأمر اليه من النعم الباطنة، فإن الاشياء كامنة في اضدادها، النعمة في النقمة، والرخاء في الشدة، والعز في الذل، والجمال في الجلال، ان وقع الرجوع الى الله والانكسار والتذلل، "أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي". فانكسار القلوب الى علام الغيوب عبادة كبيرة، توجب نعما غزيرة، فإذا قست القلوب ولم يقع لها عند الشدة انكسار ولا رجوع، كان النازل بلاء ونقمة وطردا وبعدا. فإن ما ينزل بالانسان من التعرفات منها: ما يكون ادبا كفارة، ومنها: زيادة وترقية، ومنها: ما يكون عقوبة وطردا، فإن صحبها التيقظ والتوبة، كان أدباً مما تقدم من سوء الادب، وان صحبه الرضى والتسليم، ولم يقع ما يوجب الأدب، كان ترقية وزيادة، وان غضب وسخط كان طردا وبعدا. اعاذنا الله من موارد النقم. الشيخ عبدالرحمن السعدي 1307-1376ه صاحب كتاب "تيسير الكريم المنان" في تفسير القرآن الكريم يقول: يقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ) من الأمم السالفين، والقرون المتقدمين، فكذبوا رسلنا، وجحدوا بآياتنا. (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء) أي: بالفقر والمرض والآفات، والمصائب، رحمة منا بهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) إلينا، ويلجأون عند الشدة إلينا، (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: استحجرت فلا تلين للحق. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فظنوا أن ما هم عليه دين الحق، فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان، ولعب بعقولهم الشيطان. (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. (حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) أي: آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب، أن يؤخذوا على غرة، وغفلة وطمأنينة، ليكون أشد لعقوبتهم، وأعظم لمصيبتهم. (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي اصطلموا بالعذاب، وتقطعت بهم الأسباب، ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) على ما قضاه وقدره، من هلاك المكذبين، فإن بذلك، تتبين آياته، وإكرامه لأوليائه، وإهانته لاعدائه، وصدق ما جاءت به المرسلون. * النقلان السابقان من مدرستين مختلفتين من مدارس التفسير المشهورة، وفيهما اجماع تام على ان نسيان ما اوجبه الله على الناس من أوامر، والعدل على رأسها، والتغافل عما حرمه سبحانه عليهم من منهيات، والغطرسة في مقدمتها. سيفتتح عليهم باباً كبيراً من ابواب التغيرات والتغييرات.