مواقف تمر بالإنسان وهو يعيش حالة من الشوق إلى الرحاب الطاهرة، فتأتي هذه المواقف لتعصف بالخواطر وتنسفها نسفاً، أو لتزيدها قوة وتزيد المرء إقبالاً عليها، وشوقاً إليها وإحساساً بها، وأنا أتأمل أجمل الأيام التي قضيتها في عمري لما أكرمني الله عز وجل بالعمرة منذ عامين ونصف تقريباً، وكم أتلهف مجدداً لهذه الرحلة الشائقة الماتعة، التي كم رجوت وأرجو الله أن يرزقنيها مراراً وتكراراً، بل ودت لو عشت عمري كله هناك حيث الرسول وأصحابه، حيث المسجد النبوي الشريف، حيث الطهر والنقاء، حيث عبق النبوة وريح الصحبة وطيب التابعين وعبير العلماء الربانيين، وملتقى المحدثين ومحلة الفقهاء والصالحين.. الآن ونحن على أبواب الحج الأكبر، وفي عام لم تشهد بلادنا مثله منذ فترة طويلة، لا يمكنني أنا أعدها يقيناً إلا بالاستعانة السببية بالمؤرخين ومن عاصروا هذه الأوقات والآونة التاريخية. نعيش الآن عصراً نريده عصر حرية وطمأنينة، وتفان في خدمة الدين وعمار وإصلاح الدنيا، لا أدري لماذا أتلعثم وأنا أكتب هذه الكلمات، ربما لأن قلبي يرتجف من داخله ونبضي يتبعثر يمنة ويسرة، كلما ذكرت الحرية التي طالما حرمنا منها أن نبدي رأياً أو نرفع صوتاً أو نجهر بمعارضة أو مناوأة..! لا ليس هذا فقط.. بل قد يكون معه سبب آخر، لا بأس ربما هما سببان أو أكثر لارتعاشتي الآن وأنا أكتب هذه الكلمات، منها استشعاري الشوق إلى زيارة البيت الحرام، وأداء فريضة يسعى إليها بالمال والنفس كل عاقل محب للدين، وكأني بدعوة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا وسائر الأنياء والمرسلين الصلاة والسلام: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنت مِن ذرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيقِيمواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزقْهم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهمْ يَشْكرونَ} [إبراهيم: 37]. الآن وأنا أكتب هذه الآية تدافعت دمعتان تريدان القفز فراراً من عينيَّ، وقفزت صورة أسماء وعائشة ابنتيَّ حيث تزوران جدتهما لأمهما، وتذكرت لهفتي عليهما وأمهما واتصالي بهن بين الفينة والأخرى للاطمئنان عليهن والسؤال عنهن -رغم أن البيت قريب، نصف ساعة مواصلات- وهن في رعاية الله ثم رعاية خالاتهن وأخوالهن، فلم القلق ومم الاضطراب؟! تذكرت هذه الحالة وأنا الآن أكتب هذه الآية.. آه عفواً.. أيضاً تذكرت زميلي الشيخ أحمد الذي يسر الله له بعقد في الكويت الشقيقة عن طريق وزارة الأوقاف العام الماضي قبل الثورة، وكيف كانت حاله وهو هناك في الكويت وأهله وابنه وأمه وإخوته هنا في مصر؟ ثم لما انقطعت الاتصالات والنت، خطر ببالي كيف حاله وما هي نفسيته وطريقة تفكيره، وقال لي بعض أصدقائي: "لو كنت معاه الآن في الكويت كنت اتجننت أو جرى لك حاجة من كتر قلقك على أهلك وعيالك بالذات عائشة اللي اتولدت (17/ 1/ 2011م) كان وشها حلو على البلد بصراحة". فعلاً.. قلت لنفسي: عنده حق الحاج عبد الحميد صاحب السنترال، لو كنت في الكويت كان زماني غنيت ظلموه، أو يمكن كنت جئت ماشياً على قدمي أو هائماً على وجهي علشان أطمئن على عيالي، وخصوصاً أيام الاتصالات الوهمية اللي ربت لنا الخفيف، إشي هجوم مسلح على البيوت، وإشي خطف حريم من الشقق في عز الظهر، وإشي وإشي يااااااااااااااااااه الحمد لله أني لم أقدم أصلاً في السفرية دي..! تذكرت هذه المواقف والحالات وأنا أكتب هذه الآية: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنت مِن ذرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمحَرَّمِ….} [إبراهيم: 37]، طيب إزاي يعني يسيب زوجته وابنه الوحيد اللي جاله على الكبر وفين في الصحراء؟! أنا فعلا مش مستوعب الموقف ده..! فين أنا بقى وموقفي مع عيالي اللي هما في العمران، يعني في مصر حواليهم سوبر ماركت من كل اتجاه، وصيدليات لأي ظرف لا قدر الله، ومستشفيات وجيران، ومعاهم أخوالهم وخالاتهم، وأنا وعائلتي في دقايق لو طلبوني بكون معاهم، فين موقف القلق بتاعي عليهم، وفين موقف سيدنا إبراهيم؟! لالالالالالالا مش متخيل الخيال يتوقف هنا، ولا يمكنني أن أتخيل ولا حتى من باب الاحتمال، لا.. لا أستطيع ده أنا زوج محب جداً وعاطفي ورومانسي -بأمارة القصائد- وأب حنين جداً، رغم أني لما أغضب بتبقى مشكلة.. أمَّال سيدنا إبراهيم عمل كده إزاي إزاااااااي إزااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااي!! آآآآآآآآآآآآه إنه خليل الرحمن إنه كان أمةً.. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَك مِنَ الْمشْرِكِينَ. شَاكِراً لِّأَنْعمِهِ اجْتَبَاه وَهَدَاه إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاه فِي الْدنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّه فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 120-122]. استنى يا عم الشيخ ربنا يقول: {شَاكِراً لِّأَنْعمِهِ} هو في حد ربنا يديلوا على كبر ابن وحيد ويا عالم يخلف غيره ولا ميخلفش، وهيعيش أصلاً لحد ميخلف ولا لأ، حد يسيب ابنه ويمشي ويبقى شاكراً لأنعمه؟ اسمع يا أخي الله يكرمنا وإياك: هو شكر النعمة مش بردك عبارة عن شكر بالقلب، واعتراف بالقول، واستعمال النعمة في تنفيذ أوامر الله عز وجل الذي أنعم بها؟ يبقى سيدنا إبراهيم لما ترك امرأته وولده الوحيد والرضيع بواد غير ذي زرع كان شاكراً، لأنه إنما فعل ما أمره الله به في نعمة الزوجة والولد، بل هناك ما هو أبعد من ذلك وأغرب حيث جاءه الأمر مناماً بأن يسلم ولده للموت ويذبحه هو بنفسه ففعل، فكان في هذه النعمة شاكراً لأنعمه بأن طبق في النعمة أمر الله عز وجل، ولذلك أرى أن قضية الاصطفاء والاجتباء والاختيار هذه قضية ذات شأن خاص جداً، ولابد من تقديم وتضحية وبذل، فالأمر ليس بالسهولة المتخيلة ولا اليسر المظنون، ولذلك وأنا أقرأ هذه الآيات وأحاول جاهداً أن أضع نفسي مكان سيدنا إبراهيم الخليل -عليه السلام- من باب الرياضة الذهنية فقط أجدني أرتعش وأرتعد وأضطرب. التضحية والبذل لله، وصدق التوكل على الله والتسليم المطلق لأوامره سبحانه وتعالى، وعدم التردد ولا التذبذب ولا النكوص كلها مراحل يسبقها اليقين والإيمان بالواحد الأحد، قضية لا بد لنا جميعاً أن ننميها ونعليها في قلوبنا وقلوب أبنائنا، لاسيما في هذه الأيام لضرورة الحياة ومسيس الحاجة إليها، خطر ببالي الآن موقف الذبح، وكيف سلم واستسلم الخليل والذبيح عليهما السلام حتى إن الله عز وجل ذكرهما بالتسليم معاً، في كلمة واحدة وكأن تسليم الابن البار إسماعيل -عليه السلام- إذ كان غلاماً جاء مساوياً ومتوازناً مع تسليم الأب الخليل النبي الكريم أبي الأنبياء إبراهيم عليهما السلام: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَه السَّعْيَ قَالَ يَا بنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحكَ فَانظرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تؤْمَر سَتَجِدنِي إِن شَاء اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّه لِلْجَبِينِ}. [الصافات: 102-103]. ويبدو ذلك من رد سيدنا إسماعيل بأدب ورضا ويقين: {قَالَ يَا بنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحكَ فَانظرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تؤْمَر سَتَجِدنِي إِن شَاء اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. إنه فهم أن الرؤيا التي رآها أبوه في منامه هي من الوحي الصادق، وأنها تحمل الأمر من الله عز وجل وليس من والده النبي، بل هو منفذ ومبلغ لأوامر الله عز وجل، فما كان من إسماعيل وهو الذي تربى منذ كان رضيعاً على البلاء والشدة، والتسليم والرضا بقضاء الله عز وجل، إلا أن يقول ما قال ويعلن ما أعلن، ولذلك لم يكن الأمر جديداً عليه ولا مفاجئاً له، ولم يتردد ولم يتأخر، ولم يتشكك ولم يتريب لأنه قد تربى ونشأ على هذا النوع من البلاء، وتلك المعاملة من التضحيات والبذل، فليس جديداً ولا غريباً ولا مستبشعاً ولا مستنكراً على مثله أن يجدد التضحية ويعيد الكرة.. ينتج لي من هذه الصورة وذلك المشهد المهيب: أن الإنسان ابن التربية والبيئة التي نشأ فيها، والمبادئ التي تربى عليها، وحقيق بهذا المشهد ما رواه البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّين الْقَيِّم وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمونَ} [الروم: 30]. إنها التنشئة والتربية، وعلى مثل ما تكون التربية يكون المربَّى. وأذكر هنا قول الشاعر: مشى الطاووس يوما باختيال *** فقلد شكل مشيته بنوه فقال عَلامَ تختالون قالوا *** بدأت به ونحن مقَلِّدوه فخالِف سيرَكَ المعوج واعدل *** فإنا إن عَدَلتَ معَدِلوه أما تدري أبانا كل فرع *** يجاري بالخطى من أدبوه وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه فإبراهيم الخليل كانت التضحية والبذل لله عز وجل ديندنه منذ بدايته، فهو الذي وقف يدعو أباه وقومه إلى التوحيد مخالفاً ما كانوا جميعاً عليه من عبادة الأوثان والسجود للأصنام، وكيف ثبت على مبدئه واستمسك بدينه وآثر ربه على أبيه وقومه، حتى إذا ألقوه في النار لم يتردد ولم يتنازل ولم يتنكر لدعوته، ولم ينطق بكلمة الكفر ثم لما نجاه الله عز وجل من ذلك كله اعتزلهم جميعاً وهاجر إلى ربه طالباً الهداية، حتى إذا تزوج السيدة هاجر وأنجبت له الولد الذي جاءه على الشوق والكبر أمره الله ربه أن يتركه وزوجه حيث لا زرع ولا ماء ولا ونيس ولا أنيس، قصة نحفظها جميعاً ونرددها كلما جاءت تلك المناسبة، لكن القضية التي يجب أن نقف عليها من جملة القضايا، إن إسماعيل -عليه السلام- نبت وولد لوالد مؤمن بل نبي يدعو إلى التوحيد وعاش البذل والتضحية على أعلى مستوى وفي أبهى صورة وأرفع مقام؛ فكانت النتيجة الطبيعية المنطقية أن يكون ولده مثله. ولا يجوز أن نغفل دور الأم السيدة هاجر -عليها السلام- حيث قد قامت بواجب الزوجة المؤمنة المطيعة المنقادة لأوامر الله عز وجل، والتي قدمت روحها وكيانها ووليدها لله طائعة راضية وإليكم جزءاً مما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّه عنه- قصة هاجر زوجة إبراهيم وأم ابنه إسماعيل فقال في الرّواية: «جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيم وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ ترْضِعه حَتَّى وَضَعَهمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهمَا هنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيم منْطَلِقاً فَتَبِعَتْه أم إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيم أَيْنَ تَذْهَب وَتَتْركنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ، فَقَالَتْ لَه ذَلِكَ مِرَاراً وَجَعَلَ لا يَلْتَفِت إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَه: أَاللَّه الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لا يضَيِّعنَا ثمَّ رَجَعَتْ». إذاً فلقد نشأ إسماعيل عليه السلام منذ كان رضيعاً على التسليم المطلق لأوامر الله عز وجل، وعدم الاعتراض ولا التردد طالما بدا الأمر واضحاً يقيناً وصار حتمياً أكيداً فهذا هو أبوه وهذه هي أمه، فكيف يكون هو؟ ألا ترون أيها الإخوة الكرام أننا بحاجة إلى أن نستنسخ مئات وآلاف النماذج التي تتماثل بقدر الممكن والمستطاع مع تلك النماذج المشرقة من البذل والتضحية للدين واليقين، والتوكل والتصديق لأوامر الله عز وجل دون تردد ولا لجلجة؟ إنها قضية حتمية وحاجة ماسة، وضرورة ملحة لنخرج من هذه الأزمات المتلاحقة وننجو من تلكم الفتن المتعاقبة، ليكتب الله ربنا سبحانه لنا النجاة والفوز فإما أن نعيش ممكنين وإما أن نموت موحدين. إنها منظومة متكاملة وشبكة متداخلة، وشركة تضامنية يحمل كل فرد من أفرادها وعضو من أعضائها كفلا من المسؤولية وقدراً من التبعية، لا يقل بحال عن أخيه الشريك في نفس الشركة إنها شركة الحياة ومنظومة الأمة الواحدة، التي هي خير أمة أخرجت للناس: {كنتمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمرونَ بِالْمَعْروفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمنكَرِ وَتؤْمِنونَ….} [آل عمران: 110]. نحن في هذه الآونة في وضع لا نحسد عليه فالأمم بنا متربصة، وعلينا متكالبة، حكامنا خانوا أمانة الأمة ونقضوا عهد الله وعهد رسوله، وباعوا البلاد وأسلموا العباد للأعداء، ولم يرقبوا في الشعوب إلاً ولا ذمة، حتى انتفضت الشعوب وهبت الجماهير، لكن ليس هذا هو المخرج الحقيقي دون أن ترجع الشعوب اختياراً وإقبالاً على دين الله، وينادوا بتطبيق شريعته وتحكيم سنته، وإلا فالأمر جد خطير. إن مشاهد الحجيج وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" إنها كلمات تبعث في القلب الآمال أن الأمة لا تزال بخير والأمل موجود، اليقين معقود لكن لابد من تجديد الثورة التي لم تقم بعد ألا وهي الثورة على النفس، كما قامت على الغير ممثلاً في الحكام وأنظمة الطغيان، فلابد من ثورة داخلية على النفس، على العادات والتقاليد والأعراف والسلوكيات، التي تتناقض وتتعارض مع الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فما قيمة التلبية التي ترددها الملايين الآن وهي مجردة عن تطبيق واقعي وإسقاط حياتيّ؟! هل حققت الأمة ما تنطق به هذه الكلمات في تلبيتها، من خلال إقبالها على الله عز وجل إقبالاً ليس ادعائياً وليس مفرغاً من محتواه وفحواه؟ أم أننا لا نزال بعيدين عن مضمونها ومخالفون لحقيقتها ومقتضياتها، وقائمون على نقيضها وضدها؟ إن مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام وزوجه هاجر وابنهما الذبيح إسماعيل ليس ضرباً من الخيال، ولا أسطورة من أساطير الأولين، بل هم بشر مثلنا لهم مثلنا أرواح غالية وأحلام وطموحات ورغبات وشهوات، لكنهم عرفوا الطريق إلى رضوان الله واختاروه على حظوظ النفس ورغبات الهوى، وأيقنوا القيمة والفائدة والثمرة والمكافأة، فقبلوا بها ودفعوا مقدماً، فهذا إبراهيم يلقى في النار راضياً محتسباً "حسبي الله ونعم الوكيل"، وبعدها يهاجر تاركاً وطنه وملاعب صباه ليعبد ربه ويوحده، ثم لما أنجب كان ما كان من حاله ووليده وزوجه.. وهذه الزوجة الطائعة والأم الصابرة فهمت الحقيقة وعرفت الطريقة وسلكت السبيل فقالت: "إذاً فلن يضيعنا" أين نحن من هذه الكلمات البالغة اليقين، والشديدة الأثر العميقة المعنى؟ "إذاً فلن يضيعنا" ويتنحى إبراهيم بحيث لا يرونه ثم يقول مناجياً ربه داعياً بعد أن أطاع أوامره فأدى ما به أمر: «…فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيم حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْث لا يَرَوْنَه اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثمَّ دَعَا بِهَؤلاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْت مِنْ ذرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيقِيموا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزقْهمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهمْ يَشْكرونَ}». وتمر الأعوام ثم يأتي دور الولد الذي نشأ على هذه القيمة العالية والتربية الفاضلة، فيرى إبراهيم في منامه ما شاء الله أن يأمره به من ذبح الولد، فيخبره بهذا الذي رآه، فيكون ماذا؟ يأتي رده ويكون جوابه على ذات المنهج الذي عليه تربى ونشأ: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تؤْمَر سَتَجِدنِي إِن شَاء اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 103] الآن تذكرت ما نسمع به كثيراً في هذه الأيام من قتل الولد لأبيه وأمه، أو تخلص الأب أو الأم من أبنائهم قتلاً عمداً عدواناً وظلماً، فأتعجب!! وأتساءل في آن واحد: ترى هل لو جاء الأمر الشرعي من الله عز وجل لهذا الوالد أن يقتل ولده لله لا للدنيا أو للمشاكل والخلافات، هل يقدم على مثل هذا العمل؟ أترى هذا الولد العاق لوالديه الذي فقد كل معاني الفهم والحس والرفق والإنسانية، بحيث امتدت يده –شلت- لتقتل أباه أو أمه لأجل الدنيا وحظ الشيطان وطاعة الطاغوت الداخلي، هل لو جاءه أمر الله بهذا العمل لامتثل؟ إنني ألاحظ أننا كمسلمين، بل كآدميين عندنا استعداد داخلي بأصل التكوين وطبيعة الجبلة أن ننفذ الأوامر، ونطيع الأمر لكن القضية تكمن في القلب نفسه، وانقياده وانصياعه وإقباله على التنفيذ، لكننا نحتاج في سبيل تنفيذ الأوامر إلى طاقة دافعة وقوة فاعلة وهدف منشود، وغاية مرغوبة ونتيجة مطلوبة ونهاية منتظرة وثمرة مرجوة، وكل هذا نجده في الدين الإسلامي الحنيف ولذلك أمر الله النبي الأكرم والرسول الأعظم، خاتم الرسل والنبيين محمداً صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أمره الله باتباع ملة إبراهيم حنيفاً: {ثمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمشْرِكِينَ} [النحل: 123]. وليس هذا فحسب، بل لقد وصف الله من كان على ملة إبراهيم بأنه أحسن الناس ديناً وأقومهم سبيلاً فقال: {وَمَنْ أَحْسَن دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَه لله وَهوَ محْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]. ثم أتبع ذلك البيان والوصف والحكم بتوجيه أمر وتكليف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجهر ويعلن على الناس جميعاً حقيقة معتقده وأصل منهجه وملته وأنها هي الصراط المستقيم الذي هداه الله إليه وأمره باتباعه وسلوكه، وأنه الدين القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا ريب: {قلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمشْرِكِينَ. قلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنسكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أمِرْت وَأَنَاْ أَوَّل الْمسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 163]. تلك هي الأسرة التي نريد استنساخها الآن، لينتج جيل يكون أهلاً للتمكين، لا سيما ونحن الآن نرى من يتهم التشريع بأنه يضيع الناس ويهدر كرامتهم، ويقضي على حقوقهم فلا يقبلونه نظاماً ولا يقبلون عليه احتكاماً مخافة أن يهدر كرامتهم وينتهك حرمتهم، فإذا بهم يحاربونه ويعادون من نادى به وأيده ونصره، فأين هؤلاء من إبراهيم الخليل وزوجه هاجر وابنه إسماعيل عليهم السلام؟ أين هؤلاء من ذكر عاقبة الطاعة وشرف الاتباع والانقياد لله وتنفيذ أوامره؟ وكأنهم لم يعلموا بأن الله قد نجى إبراهيم من الإحراق رغم أن قومه قد ألقوه فيها مقيداً بالقيود الشديدة المتينة، ورد كيدهم في نحورهم وأيده بنصره عليهم، ومكن له في الأرض: {قَالَ أَفَتَعْبدونَ مِن دونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعكمْ شَيْئاً وَلَا يَضركمْ. أفٍّ لَّكمْ وَلِمَا تَعْبدونَ مِن دونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلونَ. قَالوا حَرِّقوه وَانصروا آلِهَتَكمْ إِن كنتمْ فَاعِلِينَ. قلْنَا يَا نَار كونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهم الْأَخْسَرِينَ. وَنَجَّيْنَاه وَلوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَوَهَبْنَا لَه إِسْحَقَ وَيَعْقوبَ نَافِلَةً وَكلاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهمْ أَئِمَّةً يَهْدونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 66 73]. ثم لما وقع ما وقع من ترك الذرية بمكة، جاء الفتح ببئر زمزم فجره الملك بأمر الله رب العالمين، وأقبل الناس وأقاموا وصارت مكةالمكرمة قرية مأهولة بالسكان، وتجبى إليها ثمرات كل شئ رزقاً من لدن الله عز وجل، بعد أن كانت وادياً غير ذي زرع، ونشأ إسماعيل وتربى وتعلم العربية وتزوج، أو ليست قالت هاجر منذ قليل: "إذاً لن يضيعنا؟" واستجاب الله لدعوة إبراهيم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزقْهمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهمْ يَشْكرونَ}. إذاً يجب أولاً أن يبدأ البذل وتقدم التضحيات حتى يأتي النصر وتكون العاقبة لنا. وفي مشهد الذبح جاء الفداء وعطلت خاصة الذبح من السكين: {وَنَادَيْنَاه أَنْ يَا إِبْرَاهِيم. قَدْ صَدَّقْتَ الرؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهوَ الْبَلَاء الْمبِين. وَفَدَيْنَاه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 104 107]. وليس هذا فحسب، بل لقد صارت سيرته محل اعتبار وأصبحت قصته موضع تقدير وتعظيم وتقديس، وأيضاً تشريع فنسلم عليه في التشهد في كل صلاة، ونبارك عليه وعلى آله مصداقاً لقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجْزِي الْمحْسِنِينَ. إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا الْمؤْمِنِين} [الصافات: 108 111]. وصارت قصة الحج نسقاً وهدياً وشرعاً ونهجاً يذكرنا كل عام بما كان من حال تلكم الأسرة العريقة الكريمة المصطفاة المجتباة، فبقي السلام على إبراهيم وآل إبراهيم في الآخرين. لكن متى كان كل هذا الفضل والتكريم والتقدير والتعظيم؟ لقد كانت البداية من إبراهيم على مدار عمره وفترة حياته، ثم من زوجته الطائعة التقية المؤمنة لما صبرت على الوحدة مستأنسة بالله ربها قابلة لأوامره، ثم من إسماعيل لما جاء دوره في البذل والعطاء والتضحية، حتى بالروح والنفس صابراً شاكراً. ثم أختم كلماتي وخواطري بالأمر الأعظم والنداء الأكرم الذي من أجله صارت تلك القصة كلها ألا وهو: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتوكَ رِجَالاً وَعَلَى كلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدوا مَنَافِعَ لَهمْ وَيَذْكروا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكلوا مِنْهَا وَأَطْعِموا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27 28]. إنها البشريات من الذكريات، والأعطيات من المشكلات، والهبات من التضحيات. إننا بحاجة ماسة إلى قراءة متأملة متدبرة واعية فاقهة للقرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة مع مقارنة الواقع ومطابقة الأحداث لنتعرف على ديننا بحق.