إذا كانت الصلاة والزكاة والصيام مراتع خصبة شرعها الله عز وجل ليتزود منها المسلم بالمُثلُ الأخلاقية التي عليها صلاة دينه ودنياه. إذ في اتحاد المؤمنين في هيئة الصلاة: أقوالها وأفعالها، قيامها وركوعها وسجودها، وأوقاتها ومساجدها واتجاهها. وإذ في الصيام: وحدة شهره، ووقت الإمساك فيه من فجره إلى غروبه، ومراقبة الصائم لجميع جوارحه وتزكيتها وتطهيرها. وإذ في الزكاة: قضاء على الأنانية المادية، وتدريب على البذل والعطاء، لتقوى آصرة الأخوة الإسلامية بين المسلمين. إذا كان في هذه الأركان الثلاثة ما به يتطهر الفكر البشري من الانعزالية والأنانية وما به يتشبع بروح التواصي والتعاطف، ففي الحج أيضاً من هذه المعاني ما يزيد هذه الوحدة والمساواة بين المؤمنين قوة ورسوخاً. يقول الأستاذ الحاج أحمد الحبابي في كتابه (مرونة الإسلام): في مكة وحول الكعبة في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة وفي عرفة وفي المزدلفة وفي المشعر الحرام وفي منى وفي رمي الجمرات يجتمع المؤمنون على صعيد واحد وفي نظام ولباس واحد وتلبية موحدة. وفي شعور المؤمنين بأنّ مكة بلد الله الحرام هي للمسلمين جميعهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، كل هذا وغيره يحقق للمؤمنين في موسم الحج وحدة المظهر.. وعن ذلك تنشأ الوحدة الروحية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية. وفي لباس الإحرام المتحد الخالي عن التجمل والتباهي، وفي التشعث والتغبر يقضي المؤمن على أنانيته والتفاخر والتعالي. وفي ذلك تذكر بموقف الإنسان بين يدي الله عز وجل حفاة عراة من كل شيء يوم العرض والحساب، يقول سبحانه {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة: 18). إنّ المقصود الأعظم من أداء فريضة الحج هو امتثال أمر الله تعالى، كما امتثله خليل الله أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حيث أمره تعالى بإقامة هذا الموسم العظيم وبأن يؤذن في الناس بالحج، يقول عز وجل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج: 27 - 28). ومن المعلوم، أن مشروعية الحج قديمة في هذه الأمة الإسلامية، قدم الصلاة والزكاة والصيام منذ رسالات الأنبياء عليهم السلام، يقول سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (الحج: 34). إنّ أهم ما ينبغي أن يتذكره المؤمن وهو يؤدي فريضة الحج هو تلك العقيدة الصافية النقية من كل الشوائب، عقيدة التوحيد التي أمر الله عز وجل بها خليله إبراهيم عليه السلام بعد ما بوأه مكان البيت وأرشده إلى قواعد الحج ومناسكه، يقول تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} (الحج: 26). وفي الأماكن المقدسة والبقاع المباركة يتذكر المؤمن إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يدعو ربه في ضراعه وخشوع {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} (البقرة: 128). وفي تلك المواطن الطاهرة يتذكر المؤمن ذلك الابتلاء العظيم، حيث أمر الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} (الصافات 102) فيستسلم إسماعيل لأمر الله وقضائه ويقول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102). ثم تكون عاقبة صبرهما وامتثالهما أن فداه الله تعالى بذبح عظيم، وأن شرف خليله بندائه: {أن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } (الصافات: 105). ويتذكر المؤمن وثوق إبراهيم عليه السلام بربه وضراعته، حينما أنزل ولده وزوجته قرب الكعبة على غير زاد {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ...} (إبراهيم: 37). ويتذكر هاجر وابنها عندما نفذ الزاد القليل والطعام والماء، إذ قامت تسعى بين الصفا والمروة لعلها تجد ما تسد به رمقها وولدها حتى استكملت سبعة أشواط. كما يتذكر الحاج في تلك المواطن الطاهرة نزول القرآن على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وما عانى من كيد وأذى ومؤامرات من أجل نشر الإسلام ومحو آثار الشرك. وباختصار، فشعائر الحج ومواطنه كلها دروسٌ وذكريات. * عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية