تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي الأَمْرِ كلِّهِ / وَلا تَرْغَبَنْ فِي العَجْزِ يَوْماً عَنِ الطَّلَبْ / أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمٍ / وَهزِّي إِلَيْكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرّطَبْ / وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزَّةٍ / جَنَتْه وَلَكِنْ كلّ شَيْءٍ لَه سَبَبْ / يعتقد معظم النَّاس أنَّ أعظم التَّوكّل على الله يكون في الرِّزْق والأوْلاد وأمور الدّنيا، في حين أنَّ أعظم التَّوكّل على الله أن تتوكَّل عليْه في الدَّعوة إليْه، بإعلاء كلمتِه وتَمكين دينِه في الأرْض، بإحْقاق الحقِّ وإبْطال الباطل. مساكين الَّذين لا يعلمون قيمةَ وحلاوة الدَّعوة إلى الله، وقيمة التوكّل؛ فالَّذين يدْعون إلى الله وهم متوكِّلون يشعرون بِحبٍّ شديدٍ للَّه – عزَّ وجلَّ. توكل الخليل إبراهيم: حطم الأصنام وقال كلِمة الحق في بلدة كلّها تضطهده؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالوا ابْنوا لَه بنْيَاناً فَأَلْقوه فِي الجَحِيمِ ﴾[الصافات: 97]. يأْتي جبريل – عليه السَّلام -: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ فيردّ عليْه: "أمَّا لك فلا، وأمَّا إلى الله فنعم"، وظلَّ يردِّد: "حسبي الله ونعم الوكيل". النَّبيّ – صلَّى الله عليْه وسلَّم – يَموت له في شهْر واحد: رفيقَة دعوتِه، والحضْن الَّذي كان يَحتضِنه ويسمعه ويأخذ بيدِه، السيِّدة خديجة – رضي الله عنْها – وعمّه أبو طالب، الَّذي كان يَحميه من قريش. ماتا حين كان النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أشدَّ ما يحتاجهما، وذلك كلّه بتقدير الله – عزَّ وجلَّ – حتَّى يعلم النَّبيّ حقيقة التَّوكل، من لك غير الله يا محمَّد؟! فمِن حب الله – تعالى – لك يقطع عنْك الأسباب. رئي الفضيْل بن عياض لا يضحك عشرين عاماً، وفي يوم مات ابنه ابْتَسم، فقالوا له: لا تضْحَك من عشرين عاماً واليوم تبتسم! فقال: "أبتسم لشيءٍ أحبَّه الله، أفلا أرضاه؟". الأسباب المعِينة على التوكّل: 1- الثِّقة التامَّة بالله – عزَّ وجلَّ -: ولا تتحقَّق هذه الثِّقة إلاَّ بِمعرفة الله حقَّ المعرفة، فلهذِه الثِّقة أنواع: فالواثِق بما تكفَّل به الله لخلقِه من الرزق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقكمْ وَمَا توعَدونَ ﴾ [الذاريات: 22]. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقهَا وَيَعْلَم مسْتَقَرَّهَا وَمسْتَوْدَعَهَا كلٌّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ ﴾ [هود: 6] الثقة بشمول علمه وعموم قدرته؛ فقال تعالى: ﴿ أَلاَ يَعْلَم مَنْ خَلَقَ وَهوَ اللَّطِيف الخَبِير ﴾ [الملك: 14]. الثقة بوعده بأنه ولي الذين آمنوا وهو المدافع عنهم؛ قال تعالى: ﴿ اللَّه وَلِيّ الَّذِينَ آمَنوا يخْرِجهم مِّنَ الظّلمَاتِ إِلَى النّورِ ﴾ [البقرة: 257]. 2- معرفة الله – سبحانه وتعالى – بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى: فمن يعرف الله سميعاً عليماً، وأنَّه الرزاق ذو القوة المتين، رحمن رحيم، وجَدَ نفسه متوكِّلاً عليه حقَّ التَّوكّل؛ لذلك نَجد القرآن الكريم يربط التَّوكّل بكثير من أسماء الله الحسنى، أعظمها لفظ الجلالة. كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ رَبّنَا كلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [الأعراف: 89] اسم الرحمن؛ فقال تعالى: ﴿ قلْ هوَ الرَّحْمَن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [الملك: 29] اسم العزيز؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49]. لذا ذكر لنا ابن القيِّم – رحمه الله -: أنَّ التوكّل من أعمِّ المقامات تعلّقاً بالأسماء الحسنى، فله تعلّق باسم الفتَّاح، الوهَّاب، المعْطي؛ لهذا فسَّره مَن فسَّره مِن الأئمَّة بأنَّه المعرفة بالله. 3- المعرفة بقيمة التوكّل وأحوال المتوكِّلين: من بواعِث التَّوكّل المعرفة بفضلِه وفضل المتوكِّلين، وما وعدهم به من حسْن الجزاء، ومعايشة سير المتوكِّلين على الله تقوِّي القلوب بالاعتماد على الله والتوكّل عليه، وقد قيل: "إنَّ حال رجلٍ في ألْفِ رجل أبلغ من مقال ألْفِ رجل في رجل". 4- معرفة الإنسان قدْر نفسِه وعجزه: فمهْما تعلَّم الإنسان يظلّ علمه علمَ بشر، وقدرته قدْرة بشر؛ قال تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكن شَيْئاً مَّذْكوراً ﴾ [الإنسان: 1]، فيوقِن الإنسان حقَّ اليقين أن لا حول ولا قوَّة إلا بالله، الَّذي خلقه وعلَّمه ما لم يكن يعلم، فما أعطاه من النِّعَم المتباينة فهي من الله وبالله؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]. عوائق التوكل: الجهْل بمقام الألوهيَّة، فمَن لم يعرف الله – سبحانه وتعالى – وما له من الأسْماء والصِّفات، ومَن لَم يعرِف أنَّ له ما في السَّموات والأرْض – يَحتاج إلى ما سواه. وقد أخبر الله – عزَّ وجلَّ – في حديثِه القدسي عن غِناه؛ فقال: ((يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخِرَكم وإنْسَكم وجنَّكم، اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني، فأعطيت كلَّ واحد مسألتَه، ما نقص ذلك من ملكي؛ إلاَّ كما ينقص المخْيط إذا أدْخِل البحر)). من لم يعرف الله جواداً؛ فقد قال تعالى: ﴿ قل لَّوْ أَنتمْ تَمْلِكونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنسَان قَتوراً ﴾ [الإسراء: 100]. إعْجاب المرء بنفسِه، فالمعْجَب بنفسِه، المغترّ بقوَّته أو ثروته، أو منصبِه أو غير ذلِك – لا يشعر بافتقارِه إلى الله، بحيث لا يعتمِد أو يتوكَّل عليه. حبّ الدنيا والاغتِرار بها، فاللَّهث وراء متاع الدّنيا والتعلّق بشهواتها من عوائق التوكّل؛ كما قال تعالى: ﴿ زيِّنَ لِلنَّاسِ حبّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاع الحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللَّه عِندَه حسْن المَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]. وقد كان الرَّسول – عليْه الصَّلاة والسَّلام – يدعو فيقول: ((اللَّهمَّ لا تجعل مصيبتَنا في دينِنا، ولا تجعل الدّنيا أكبرَ همِّنا ولا مبلغ علمِنا))؛ رواه الترمذي. الرّكون إلى الخلق: إنَّ التوكّل على الخلْق في قضاء الحاجات وتدْبير الأمور – من موانع التوكّل على الله؛ فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعونَ مِن دونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالكمْ فَادْعوَهمْ فَلْيَسْتَجِيبوا لَكمْ إِن كنتمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأعراف: 194]. وصدق مَن قال: "إنْ أردتَ أن يكون لك عِزٌّ لا يَفْنى، فلا تستعزَّنَّ بعزٍّ يفنى". آثار التوكل: 1- سكينة النَّفس وطمأنينة القلب: يشعر بها المتوكِّل على ربِّه، فيشعر بالأمن إذا خاف النَّاس، واليقين عند شكِّ النَّاس، والثبات إذا قلق النَّاس، والأمل إذا يئِس النَّاس، والرضا إذا سخط النَّاس. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس – رضِي الله عنْهما – قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم – عليْه السَّلام – حين ألْقِي في النَّار، وقالها محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – حين قالوا له: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكمْ فَاخْشَوْهمْ فَزَادَهمْ إِيمَاناً وَقَالوا حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الوَكِيل ﴾ [آل عمران:173]". 2- العزَّة التي يشعر بها المتوكِّل على الله، ويستمِدّها من عزَّة الله، وتعْطِيه مكانة كبيرة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49]. قال أحد الخلفاء لأحد علماء السَّلف الصالِح يوماً: ارفْع إليْنا حوائج دنياك نقضِها لك، قال: "إني لم أطْلبْها من الخالق فكيف أطلبها من المخلوق؟!"، يريد أنَّ الدنيا أهون عنده من أن يَسْأَلها من الله تعالى، فهو إذا سأل ربَّه يسأله ما هو أعظم وهو الآخرة والجنَّة، ورضوان الله تبارك وتعالى، إنَّ العزَّة لا تطلب إلاَّ من باب واحد؛ قال تعالى: ﴿ مَن كَانَ يرِيد العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّة جَمِيعاً ﴾ [فاطر: 10]. 3- القوَّة: وهي القوَّة الروحيَّة التي تضعف أمامها القوَّة المادِّيَّة، ويبدو ذلك جليّاً في موقفِه – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وهو يَحفِر الخندق، والمشركون اجتمعوا عليْه يحاصرون المدينة، فإذا به يَعِد أصحابَه بفتح اليَمَن، وفتح مَمْلكتَي كسرى وقيصر. 4- الرِّضا الَّذي ينشرح به الصَّدر: قال بعضهم: "متى رضِيتَ بالله وكيلاً وجدتَ إلى كلِّ خيرٍ سبيلاً". قال الشاعر: سَهِرَتْ أَعْينٌ وَنَامَتْ عيون / فِي أمورٍ تَكون أَوْ لا تَكون / إِنَّ رَبّاً كَفَاكَ بِالأَمْسِ مَا كَا / نَ سَيَكْفِيكَ فِي غَدٍ مَا يَكون / 5- الأمل: فمَن يتوكَّل على الله لا يعرِف اليأس إلى قلبِه سبيلاً؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ وَمَن يَقْنَط مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالّونَ ﴾ [الحجر: 56]. إنَّ المتوكِّل على الله يعلم أنَّ الملك كلَّه بيد خالقِه ومدبِّر أمره، يؤتي الملك مَن يشاء وينزعه مِمَّن يشاء، يغيث الملهوف، وينفث عن المكْروب، وينصر المظْلوم، ويشْفي المريض. قال الشاعر: مَا بَيْنَ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا / يغَيِّر اللَّه مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ / فيا أيّها المظلوم، ويا أيّها المكروب، ويا أيّها المجروح، ويا أيّها المهموم، الَّذي كفَاك همَّ أمس يَكفيك همَّ اليوم وهمَّ غد، فتوكَّل عليه. فإذا كان الله معك فممَّن تخاف؟! وإذا كان عليْك فمَن ترجو؟! توكَّل على الله وفوِّض الأمر إليْه، وارْضَ بحكمِه والجأ إليْه، واعتمِد عليْه؛ فهو حسبك وكافيك. المصدر: شبكة الألوكة.