إن الحياة المعاصرة بمبادئها الهزيلة وآلاتها المدمرة ورّثت في بعض النفوس قلقاً نفسيّاً. جعلت همّ الإنسان معاشه وطعامه وشرابه. ومستقبل نفسه وأبنائه مع الخوّف من المستقبل وضعف اليقين والإيمان والتوكل أصبح الإنسانُ منّا ينسى بعض البديهيات ويعتمد على المحسوبية والعلاقات ذات المصالح المشتركة، وآخرون معتمدين على الشهادات العليا المزورّة للحصول على حرف (الدال) بصرف النظر عن المحتوى والمضمون والعمل والنيّة. فأصبح شغل الإنسان الاهتمام بالمظهر العام دون الاعتماد على الذات واليقين والتوكل وصفاء النية والاعتماد على الخالق البارئ الرازق الحيّ. وركنَ بعض الناس منا إلى هذه الأسباب وغيرها واعتمدوا وتوكلوا عليها، ونحنُ نعرف جميعاً أن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه، فافتخر البعض بواسطته وأعلى من شأنها وأذاع اسمها ومناصبها القيادية ومركزها الشخصي الاجتماعي وكأنها السبيل المُنقذ من العدم؟ ونسوا أن الله تعالى له الخلقُ والأمر فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وإن أسبابها وأساليبها قد تكون سبباً في ضررهم وإيذائهم إذا لم يكتب الله لها التوفيق والنجاح. فهو وإن توفق فهو محدود الإمكانية والقدرة بشخص أو منصب معيّن أو وقتٍ معيّن وأعتبرها شخصيّاً حالة هلامية تنتهي بانتهاء الواسطة أو مركزها أو وقتها أو منصبها. فالاعتماد على الذات فيه اعتمادٌ على الله والثقة بقدرة الله تعالى وهو القادرُ على كل شيء فالتوكل عليه واجبٌ فلا خاب من اعتمد على الذات الإلهية. فالشخص الذي يتوكلُ على الله هو إنسانٌ لديه الثقة بالوجود والاعتماد على النفس وهو يعلمُ تماماً ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وأنه لو اجتمعَ الإنسُ والجنّ على أن ينفعوه بشيءٍ لم يقدره الله له لن يستطيعوا إلا بشيء قد قدّره الله له. فالآيات الدّالة على التوكل متعددة في كتاب الله تعالى، يقولُ عزّ من قائل سبحانه: ((فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)) أليس من الواجب كمسلمين أن نثق في أنفسنا ونتمسك بإيماننا ونتوكل على خالقنا الواحد الأحد الذي يمنحنا القدرة والإيمان والهيبة والعزّة والكرامة على قضاء حوائجنا والتغلب والنصر على أي شخص متغطرس فالواسطة قد تخذلك وأنت لا تعلمُ بنيتها، فهي إن وُفقت أحياناً قد لا توفق ثانية. قال الله تعالى مثبِّتًا رسوله: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) إن هؤلاء قلوبهم عامرة بالتوحيد لا تشوبها شائبة فهم لا يتوكلون على الأسباب ولا على ساحرٍ أو كاهنٍ ولا وليٍّ ولا واسطة لقضاء حوائجهم فقلوبهم معتمدة على الله موصولة بحبل الإيمان والدين ومستندة إليه ومستسلمة لتدبيره فقد فوّضوا جميع أمورهم إليه سبحانه وتعالى واعتمادهم الجازم بقدرته. كل ذلك مع بذل الأسباب ليتحقق ما يريدون بقدرة رب الأرباب. أما الواسطة أخي القارئ فقد تستغلك أسوأ استغلال وتستبيح مالك وكرامتك أو عرضك وإهانتك وذُلك. فهي تقدم لك خدمة مقابل شيء آخر قد يكلفك الكثير في حياتك. أما اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى يمنحك العزّة والكرامة والسمو والشموخ بين أقرانك في المجتمع وهو الذي يمنحك التوفيق والغنى بتفضٌله عليك دون مقابل ماديّ سوى الإيمان والثقة المطلقة بوحدانيته وقدرته وعظمته. فلا توجدُ هناك مقارنة أخي المسلم بمن يمتنُّ عليك ويستغلك ومن يمنحك القدرة والهيبة والقناعة والتوفيق. يقول الله تعالى: ((وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا))، وقال سبحانه أيضاً: ((قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلالٍ مبين)) وقال عزّ وجل: ((وتوكل على الحي الذي لا يموت)) فماذا ينبغي على العبد منّا بعد هذه الآيات، فمن عرف أنه فقيرٌ إلى ربه في كل الأحوال كيف لا يتوكلُ عليه؟ وأيضاً من عرفَ منّا أنه عاجزٌ مضطر إلى خالقه. كيف لا يستعينُ به ويُنيبُ إليه؟ ومن استيقن أن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها كيف لا يطمئن قلبه وجوارحه إلى تدبيره سبحانه؟ فهو الحكيم على كل ما يقضي به، فعلينا كمسلمين أن نُرتّب المقدمات وندع النتائج لله تعالى. وعلينا أن نُقدم الحبّ ونرجو الثمار من الله سبحانه وتعالى بمعنى أن نقومَ بالواجب البشري الذي يُحصننا ونترك الباقي للخالق البارئ عزّ وجل. ويكفينا أن الله يُخاطب عباده فيقول سبحانه وتعالى: ((يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك)) فالرجوعُ للعقل والحقّ والحكمة واليقين واجبٌ علينا أيها المسلم. فلا تعوّد أولادك على الواسطة فهي انتهاك لحقوق الآخرين وهي ضياعٌ للحق وأشبهها بمن يغش في الامتحان. وقد تسمى بالشفاعة عند البعض منّا وفي كلاهما خسارة وحبور للنفس ولأعمال الآخرين. فثق بنفسك وتوكل على الخالق البارئ الذي لا يموت.