سعدت كثيرا بإطلالة الأستاذ القدير أحمد الحوت علينا هنا بفكره في طريب الإلكترونية وسوف تكون سعادتنا غامرة أكثر لو استمر في كتابته هذه و أعقبها بإطلالته علينا بجسمه في طريب المكان متحدثا أو زائرا ، هناك حيث البادية الأصيلة والبداية النقية أو القبيلة والقرية المدنية الآمنة الحديثة والدين الصافي وليست البادية القاسية والبداية البدائية والقرية الظالمة الجاهلة غير المتحضرة التي في ذاكرته .. والحقيقة أنني بعد الولوج في القراءة تعكر صفو تلك الإطلالة وسعادتها استغرابا لا كرها، ذلك أنه استخدم الدين لتخويف القراء بثقافته الدينية -وهو جدير لكنه غير مخيف - وتمرير رفضه للبادية ولحياتهم وحنقه عليهم في رقصهم أمام نوقهم في مضاربهم الرسمية الحديثة في أم رقيبه أوفي مزاينهم واحتفالاتهم القبلية الخاصة وذلك بسبب تمردهم على الإعلام الرسمي في الفضاء ولحنهم و ألحانهم البدوية الشعبية التي طغت على النشاطات الحياتية وعلى الشعر الفصيح و الغنائي وعلى "طقاقات" الأعراس المدنية عبر قنواتهم الخاصة التي أصبحت عامة بحجم مشاهديها ، والغريب أننا لم نرى منه أو من غيره اعتراضا أو امتعاضا على مزاين التيوس والخرفان والخرافات و الأعياد والمناسبات والمواليد التي يقيمها الحضر الحاضرة المتحللة من التقاليد هنا وفي الوطن العربي بأسلوب مجالس أدر القدح يا غلام في عصر الجاهلية وبلغت أسعار مبيعات تلك التيوس والخرفان حجم ديات الرجل المتحضر ولا نجد حتى مجرد الامتعاض أو الإشارة أو الاعتراض على ذلك ولا على الحفلات الخاصة والعامة معا وهي في المدن وليست في البادية ويقيمها الحضر الحاضرة بطرا وفسقا وتتعدى مستوى "الدسكو" برقصه وراقصيه و ما بينهما من المحرمات أو ما نجده من كتابات تتجاوز حدود العقل والمعقول في النت وإن كان الجميع من بدو وحضر قد اخذوا يركضون في هذا الزمن باتجاه حتفهم المجتمعي الحتمي المقدر بقدرة القادر المقتدر إلا أن ذلك لا يسوغ الهجوم على البادية و البداية و لا يدعو للتجاوز في الرأي و الشطوح في التفكير ، والمفكر المتمكن المخلص هو من يشخص حال مجتمعه تشخيصا واقعيا صادقا ثم يكتب العلاج الناجع مراعيا في ذلك دينه مخافة ربه من أجل أمته ومن أجل تصحيح المسار وهو ما افتقدناه في كتابات أدعياء الفكر في العالم العربي بالرغم أن حجم مشاكل المجتمعات العربية أكبر من حجم جغرافيتها و أكثر عددا من السكان ولكن للنفس البشرية هوى يداعبها الشيطان به ليدفعها باتجاه الهاوية التي تعهد بأن يدفع الجميع لها إلا من رحم ربك ..نعود لما كتبه الأستاذ أحمد الحوت هنا في طريب الصحيفة الالكترونية فنقول: لاشك أن فضاؤنا وواقعنا اليوم بفعل الحضارة والمعطيات الحضارية التي يمتدحها الأستاذ أحمد يعج بموجبات الندم والندامة وهذا السوء ليس من فعل البادية التي هي بالضرورة القبيلة ، وبالتالي ليسوا البدو هم الأسباب الموجبة لبعث الرسل فحسب بل الإنسان المتحضر والمدن الحضرية أو المدينة أي الحاضرة و ما يدور في حاناتها و قصورها وعقول و أفكار ساكنيها وسلوكهم والعصيان الذي يرتكبونه ويناقض ما فطرهم الله عليه من حسن الخلق و الأخلاق حيث بلغ هذا السلوك في المدينة مرحلة الرذيلة والسوء والفحش في القول والفعل وهو ما استوجب بعث الرسل و الأنبياء ومنهم لوط وموسى عيسى عليهم السلام الذين أرسلهم الله لأهل القرى وليس للبادية أو أمرهم بالخروج من المدن المتحضرة أو القرى و أخيرا رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت رسالته للناس كافة لكنه لم يبدأ في البدء بالبدو و إنما بأهل المدن الحضرية وحضرها لأنهم كانوا العنوان الأبرز في السوء والانحراف عن الفطرة في مكة ثم المدينة وليس لبادية الحجاز أو نجد أو اليمن أو الشام لأنهم كانوا بدوا بدائيين ليس لهم أوثان تعبد ولم يصلنا أنها كانت لهم ممارسات مشينة فاضحة واضحة في عصرهم مقارنة بأهل المدن ، كل هذه الأسباب استدعت بعث الرسل و الأنبياء من أجل إعادة هؤلاء الحاضرة أو الحضر المتمدنة وغيرهم ممن انحرف إلى جادة الصواب والانتفاع بما تمكنوا من خلقه لأنفسهم من المعطيات الحضارية قديما وحديثا بعكس أبناء البادية أو أهل البدائيات الذين أرى أنهم الأنقى سلوكا أو على أقل تقدير الأقل سوءا ولم نجد عليهم من الزجر والسوء في القرآن الكريم مثل الذي نجده بحق أهل المدينة أو الحضر أهل الحضارة ويكفي كما أسلفت أن الأنبياء إما يخرجون أو يهربون للنجاة من المدن والقرى إلى البادية أو يرسلون للمدن والقرى من البادية ، إن اتهام البادية أو البداية الإنسانية أي الإنسان البدائي بالسوء وحده قول يبلغ حد الفحش الفكري إنسانيا خصوصا إذا بلغ مرحلة الشطط في الرأي أو الوصول للتشكيك في معتقد الناس وسلوكهم الجمعي كما هو حاصل في هذا الزمان مما يستوجب معه إرسال الرسل أو تصحيح الرسالة كما قال بذلك من قال فض فوه . وعودا على بدء أو استدراكا في القول أقول إنني كلما كتبت هنا في طريب بعض الحروف المتواضعة يهب نفر من الجاهلين غير المرئيين الساخطين عليّ لذاتي أو على كتاباتي لجهلهم بمعاني الحروف الجميلة مما اضطرني لطلب حجب التعليقات على ما اكتب ومازلت اطلبه رحمة بعقلي ، ولذلك توقعت أن يهب أصحاب تلك المواقف المسبقة السخط هنا على ما كتبه الأستاذ الحوت لكنه على ما يبدو أخافهم بفكره المغاير لفهمهم واسمه المخيف { الحوت } وزاد على ذلك انه غلف ما كتب بالدين وبالنصوص القرآنية فانكفؤا خوفا وجهلا بالمضمون و ما عاقروه فكريا فيما كتب خوفا من أن توردهم تلك المجادلة للنار إن هم خالفوه الرأي وانطلت عليهم الكتابة بتلك الإستشهادات فشطحوا يمنة ويسرة دون وعي بما كتب و ما يكتبون .. ولهذا فإنني هنا اعتقد أن ما كتبه الأستاذ أحمد الحوت هو اقتراب بدرجة ما نحو رؤية الدكتور تركي الحمد فهو في الجملة كأنه يقترب من القول إن السلوكيات البدوية والبادية التي نحن عليها الآن كمجتمع تستدعي ما يشبه الحاجة لرسول ورسالة لأننا بلغنا مرحلة الاستحقاق لهذا الأمر تماما مثلما هم الأقوام التي سبقت ، و إلا فما الداعي للربط بين البداية والبادية والرسل والرسالات ، ولو أنه قال إن لدينا سلوكيات طغت على المجتمع مما يستدعي معه العودة للدين الصحيح سلوكا وتعاملا لكان ذلك أجدر و أجمل وأعم نفعا ، لكنه اجتهد في الرؤيا وأخطأ في الرأي .. ولعل ما يؤكد قولي هذا هو رد الدكتور علي سعيد آل جمان الذي حاول التصحيح للأستاذ الحوت وتوجيه بوصلة حروفه بعيدا عن الدين وحاول قصرها على البد و و البداية ولكن بأسلوب أكاديمي وبمجاملة في غير محلها لأن المسألة هنا فكر ودين ومجتمع ولا مجال للمحاباة الكتابية فيها حين يشطح الرأي وكلنا عرضة للخطأ، أما بقية الردود فادعو لهم بالفهم المقولب المعلب ليتجرعوه صباح مساء لعلهم يفقهون و هو ما استبعده . على أية حال المسألة هنا تحاور بالرأي كل حسب فهمه وقدرته وإن كان رأيي هو الأصوب ، أما لماذا فذلك لما سلف وللآتي: يقول الأستاذ احمد الحوت نصا مفهوما لا مقتبسا ، إن الرسل كانت تبعث للقرى بعد أن كانت مدينة ثم انسلخت القرية إلى البادية أو البداية .. إذن الخلل نشأ في المدينة أولا ثم في القرية ثانيا ، ثم توقف عند هذه الحدود هذا رأيي وفهمي لما كتبه الأستاذ الحوت .. إذن ما دخل البادية – و إنسانها البسيط - التي هي بالضرورة القبيلة البدائية في البداية طالما أن الخلل بدأ في المدينة التي تحولت إلى قرية ثم إلى البادية البدائية ، وهذا تحول عكسي عجيب لا أقره . ويقول الأستاذ الحوت "إن البادية هم أدنى درجة في سلم الإنسانية" .. كلام غير دقيق البته .. ولو أنه قال إن البادية هم أدنى درجة في الحضارة والتحضر و المدنية قديما لسلمنا بهذا الرأي مجاملة مع التحفظ .. إنما الإنسانية بمفهومها الشامل فهذا قول ينافي الواقع قديما وحديثا وبالذات العرب الذين كانوا على خلق جاء الإسلام ليتممها ويتمها .ولو أن الأستاذ أحمد قال إننا حاليا كمجتمع في خطر عظيم على عقلنا الديني والاجتماعي و مكتسبنا الدنيوي ونحتاج لتصحيح مسارنا بأنفسنا لكان ذلك رأيا صحيحا وهو ما نحتاجه في هذا الزمن الذي ضعف فيه الوازع الديني كثيرا ..إن ملامح واقعنا كأمه إسلامية بدأ فيها واضحا الانسلاخ عن الدين وبالتالي فإنها عرضة للسقوط . والخلاصة أنني أرى فيما كتب الأستاذ الحوت كأنه مضمونا مشابها مخففا لما غرد به الدكتور تركي الحمد بكل أسف مع الاختلاف قليلا وأنا اربأ بالأستاذ الحوت من أن يكون على هذا النسق الفكري ( الذي قال عنه الدكتور الغذامي أن التغريدة حمالة معاني ) و أنا شخصيا أراها حمالة معاصي لا معاني ، و توضيحا أكثر.. أقول إن الواقع الذي تجاهله الأستاذ الحوت هو أن المدينة بمدنيتها حينما تتحول إلى عداء للفطرة البشرية السليمة تخرج ارهاصاتها مثلما حدث مع قوم لوط وقوم فرعون وعاد وثمود وموسى وعيسى فتكون النتيجة هنا أن تخرج الرسل وتنزل الرسالات ، وهو سلوك نقترب منه الآن بكل اسف من تطاول على الله عز وجل وعلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم حتى في عقر داره ومن بني جلدته ومن الذين يدينون بدينه فان المآل معنا هنا ليس برسالة ورسول و إنما هو ارهاص لقيام القيامة وهو من صنع المدينة والمدنية و أهلها ويحدث ذلك حينما يفتقر الناس للسمو الديني والروحي و الإنساني البدائي النقي .. أليس كذلك ؟ وفي الختام أقول إنني أرى أن هناك حالات احتقان خطيرة في أفكار وعقول الناس على الحياة والدين والرسول والرسالة ،و الأخطاء اكبر من أن تحتمل من الذين منّ الله عليهم بالدين ولكنهم غير قادرين على تصحيح مسار الأمة في زمن ليس ببعيد عن زمن القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة . في الختام سأستمر في مشاكسة الأستاذ احمد الحوت كلما كتب هنا رغبة في استمراره الكتابي الجميل لنا .. ومضة: الحروف الصادقة شموع تضيء العقول الصافية . محمد بن علي ال كدم القحطاني